السبيل إلى الحقيقة
في غمرة الأخبار المتهاطلة علينا من العالم العربي يتساءل الملاحظ كيف يمكن لهذه المجتمعات المهتزّة بالتصدّعات أن تتفاعل مع العنف الذي يعتمل في داخلها؟ هناك في هذا المجال نوع من الحرج في استعمال إنارات بسيكولوجيّة إضافيّة لتوضيح سبل التدخّل بالنسبة للعالم العربي. هذا النوع من المقاربة والمعالجة يبدو داخل حقل العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة في ألمانيا مختصرًا فقط على مقاربة وتقصّي الذّات. أليست هناك أشكال من التذكّر والمحاسبة الجماعيّة داخل العالم العربي؟
من المغرب إلى لبنان هناك جملة من المبادرات الجديرة بالذّكر يسعى المواطنون من خلالها إلى إعادة إرساء أواصر الوحدة إلى مجتمعاتهم التي تعاني من تصدّعات عميقة، وإلى تلمّس طرق تجعل تعايش ضحايا الأمس مع المعتدين أمرًا ممكنًا. ويعدّ المغرب على وجه الخصوص مثالاً طلائعيًّا في هذا المجال. فمنذ سنتين تشهد البلاد دفقًا من أدبيّات المساجين السياسيّين السابقين في شكل سِيَر ذاتيّة ونصوص مصوّرة وأشعار وروايات وأفلام يقدّمون من خلالها شهادات عن تجربة اعتقالهم. ومن أبرز المؤلّفين نذكر ابراهام السّرفاتي (سجين من سنة 1974 حتّى سنة 1991) وفاطنة البويْه (سجينة من سنة 1977 حتّى سنة 1982). وتمثّل شهادات هؤلاء جزءً مهمًّا من عمليّة التذكّر والمحاسبة بالمغرب.
المغرب كمثال
لقد مكّن انتقال الحكم من الحسن الثاني إلى محمّد السادس من فسح المجال لأوّل مرّة في تاريخ المغرب لانطلاق عمليّة تقصٍّ منظّم لممارسة السّلطة والانطلاق في مسارٍ تصالحيّ عامّ، وفاطنة البويه ترى بعين الرّضى إلى تحوّل الحكم الذي حصل سنة 1999، وفي حوار لها مع سوزان سليوموفيتش(MERIP 218، ربيع 2001) تصرّح بما يلي:
"كسجينة سياسيّة سابقة أشعر بارتياح نفسي كبير وبالتخلّص من عبء ثقيل منذ وفاة الحسن الثاني. أحسّ بتغيّرات قد طرأت عليّ شخصيًّا وعلى المغرب عامّة منذ ذلك الوقت. وابتداء من هذا العهد الجديد عدت مجدّدًا إلى النشاط السياسيّ الحقيقيّ؛ قبلها كنت أكتفي بالكتابة فقط، والآن أشعر بأنّني أقوم بعمل ذي جدوى. فعلى سبيل المثال كنت أنا وزوجي من الأعضاء المؤسّسين لـ"المرْصد الوطني للسّجون"، وهي جمعيّة قد تمّ الاعتراف بها رسميًّا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1999. لقد عشت شخصيًّا تجربة السّجن، وأريد اليوم أن أقدّم مساعدة للمساجين الآخرين، والجمعيّة هي السبيل الذي يمكّنني من القيام بذلك. تتمثّل نشاطاتنا ضمن هذه الجمعيّة في تحرير التقارير وزيارة السجون، وخلال شهر رمضان من السنة الماضية نظّمنا حفلات في جناحي النساء والرّجال بمعتقل عُكاشة، كما نشتغل على إعداد برامج لمساعدة المساجين على الاندماج مجدّدًا في المجتمع بإيلاء أهمّية إلى أوضاعهم الفرديّة والعائليّة، كما نمارس ضغوطات من أجل تغيير القوانين. وقد وجد هذا العمل تقبّلاً واهتمامًا كبيرين من قِبل إدارة السجون."
تجربة فريدة من نوعها
المغرب إلى حدّ الآن هو البلد العربي الأوّل والوحيد الذي توجد فيه لجنة حقيقة مستقلّة تعنى بقضايا انتهاك حقوق الإنسان. داخل هذه اللجنة المسمّاة بـ"منتدى الحقيقة والإنصاف" ينتظم ضحايا حكم العنف الاستبدادي ومساجين سياسيّون سابقون؛ ينظّمون الاعتصامات والندوات الصحفيّة وحصص الاستماع إلى شهادات المعنيّين ورحلات إلى مراكز الاعتقال والتعذيب السّابقة. ولم تتأخّر الدولة بدورها عن التحرّك في هذا الاتّجاه بتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة الملكيّة. وبالرغم أنّه لم يكن هناك تحوّل في نظام الحكم بالمغرب بل مجرّد انتقال للسلطة فإنّ محمّد السادس قد ساهم بدوره في تيسير عمليّات كشف النّقاب عن انتهاكات حقوق الإنسان التي حصلت في عهد حكم أبيه الحسن الثاني. خطوة جريئة وصعبة يقوم بها ابنٌ على وجه العموم، وذلك ليس في دول الشرق الأوسط فقط. بعد أسبوع واحد من وفاة أبيه، وفترة الحداد (40 يومًا) لم تمرّ بعد، أعلن محمّد السادس عن قرار عفو شمل 46 ألف سجينًا، وتمّ الإفراج عن 8 آلاف منهم فورًا.
أكيد أنّ هناك الكثير من الآمال المخيَّبة منذ ارتقائه سدّة العرش، غير أنّ عهد القبضة الحديديّة قد ولّى وانتهى. وإنّه ليس من باب الصّدف أن يُرفع في عهده النّقاب عن ملفّات مجموعة من الاغتيالات السياسيّة التي حصلت في الستّينات وبداية السّبعينات ( اغتيال المهدي بن بركة وعمر بن جلّون ومحمّد أوفقير)، وقد غدا بإمكان شهود جدد أن يشعروا بما يكفي من الأمان كي يتقدّموا للإدلاء بشهاداتهم ورواياتهم للأحداث إلى الرأي العامّ. إلى جانب ذلك حصل عدد من الضحايا وعائلاتهم على تعويضات ماليّة، والبعض من المساجين السياسيّين من معتقل تزْمامرْتْ سيّء الذكر يتمتّعون حاليًّا بمنحة تقاعد بمقدار 5 آلاف درهمًا (500 أويرو) شهريًّا.
إنّ عمل التذكّر والمحاسبة الذي ينهض به المجتمع المدني ومؤسّسات الدولة بالمغرب بإمكانه أن يكون مثالاً يُحتذى به بالنسبة لبلد مثل العراق، ذلك أنّ لنظام صدّام حسين أوجه شبهٍ أكثر مع نظام الحسن الثّاني ممّا له مع النظام النازي لهتلر. وإنّ الشهادات التي نشرت باللغة العربيّة تعبّر عن تطابق في الحالات بالنسبة للكثير من العراقيّين، ومنظّمات حقوق الإنسان من جهتها تقدّر عدد الضحايا بما يعادل المليون ضحيّة.
ما العمل في العراق؟
هناك ثلاث مواقف بخصوص الطريقة التي ينبغي أن يُتعامل بها مع المعتدين في العراق: جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان ترى أنّه ينبغي أن تتمّ مقاضاتهم أمام محاكم جنائيّة دوليّة تتولّى معاقبتهم. بينما تقترح المعارضة العراقيّة تكوين لجنة حقيقة يحتلّ مسار التصالح لديها مكانة مركزيّة، أكثر من المتابعة القضائيّة. أمّا الحكومة العراقيّة الانتقاليّة فقد اختارت أن تكون أولى أعمال ممارستها لشؤون الإدارة السياسيّة في يوم 15 يوليو/تموز هي إعلانها عن قرار تكوين محكمة لمجرمي الحرب. وبما أنّ كلاًّ من الولايات المتحدة الأميركيّة والعراق لم تعترفا بمحكمة دنْ هاغْ الدوليّة فإنّه لن يمكن مقاضاة أيّة جريمة هناك. وإنّها ستكون خطوة جريئة من قِبل الهيئة الإداريّة الحاكمة حاليًّا لو تعلن الآن عن اعترافها بمحكمة دنْ هاغْ الدوليّة – هكذا تتّضح أكثر ثنائيّة المقاييس لدى الحكومة الأميركيّة.
أمّا مقترح تكوين محكمة استثنائيّة عالميّة على غرار حالتي يوغسلافيا ورواندا فقد قوبل بالرفض من قِبل مجموعات المنفى العراقيّة (مثل جمعيّة الحقوقيّين العراقيّين المتواجدة بلندن). سالم شلبي مستشار الإدارة المدنيّة الأميركيّة بالعراق يحيل على تجربة تصفية النازيّة لفترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية بألمانيا كما على لجنة المصالحة والحقيقة لجنوب إفريقيا كمثاليْن يمكن اتّباعهما.
أمثلة أخرى
هناك إلى حدّ الآن أكثر من ثلاثين سابقة لتجربة لجان الحقيقة على المستوى العالميّ، وعلاوة علىذلك هناك عدد من الأشكال الأخرى ذات طابع أقلّ رسميّةً ومؤسّساتيّةً كما هو الشأن مثلا في أثيوبيا وإيرلندا. إلاّ أنّ النقاشات قائمة في بلدان عربيّة أخرى حول تكوين لجان الحقيقة أو ما شابهها من الأشكال الشّبه رسميّة لمواجهة وتجاوز التفجّرات العنفويّة الداخليّة. في لبنان والجزائر تتّجه الاهتمامات بطبيعة الحال إلى كيفيّة التغلّب على الحرب الأهليّة أو أوضاع شبيهة بالحرب الأهليّة. وفي لبنان على وجه الخصوص قد قطعت جهود التجاوز البسيكولوجي لمخلّفات الاقتتالات الدمويّة بين المسيحيّين والمسلمين لفترة ما بين 1975 و1989 شوطًا بعيدًا.
أمّا في الجزائر فلا شيء يلوح في الأفق إلى حدّ الآن ممّا يمكن أن يدلّ على نهاية العنف الدمويّ اليوميّ، ومع ذلك توجد تنظيمات غير حكوميّة متفرّقة تعمل على العناية بالأطفال الذين يعانون اضطرابات نفسيّة ناجمة عن صدمات العنف، أو تعرض إمكانيّات عناية بالضحايا. وفي سنة 1998 دعت مجموعة من السياسيّين القياديّين إلى مؤتمر مصالحة وطنيّ، وكان من بين الممضين على هذا النداء عدّة وجوه سياسيّة جزائريّة شهيرة من بينها الرئيس السابق أحمد بن بلّة وعبد المجيد المهري من حزب جبهة التحرير الوطنيّ(FLN) وعبد القادر الحشّاني من جبهة الإنقاذ الإسلاميّة (FIS)، وقد كان إمضاء الحشّاني بادرة أولى لعضو قياديّ من جبهة الإنقاذ مقيم بالجزائر يدعو فيها إلى المصالحة الوطنيّة.
وفي ما يتعلّق بالنّزاع الفلسطيني الإسرائيلي تسعى مجموعة من علماء النفس لمحاولة استثمار نتائج البحوث حول محنة الهولوكست باتّجاه إرساء مسار تصالحيّ. ومؤخّرًا صدر عن مؤسّسة التعاون الاقتصادي Economic Cooperation Foundation تحت إشراف يير هيرشفالد Yair Hirschfeld مؤلَّف بعنوان Lesson learned كمساهمة في مساعي تجاوز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالاستفادة من درس تجربة جنوب إفريقيا.
مع ذلك يظلّ هذا النوع من عمل التذكّر والمحاسبة مثالاً مستوردًا من زمن آخر وإطار مختلف، وإنّ تبادل التجارب ما بين العراق والمغرب سيكون بالتأكيد أكثر فعاليّة من هذا التطلّع الأبدي باتّجاه الغرب أو تلك المقارنات المحبّذة مع المثال الألماني لفترة ما بعد الحرب.
مؤخّرًا انعقد في مصر لقاء لمجموعة من علماء النفس العرب من أجل التّداول في تبعات الأوضاع الخاصّة بالعراق. وحتّى في صورة ما إذا لم يُتوصّل إلى تكوين لجان حقيقة على المنوال الجنوب إفريقي في العراق مستقبلاً، فإنّه ستوجد بالتّأكيد أطر أقلّ رسميّة لعمل التذكّر والمحاسبة من شأنها أن تتلقّف المجتمع المصدّع بالصّدمات وتَقيه من الانهيار. وبوسع جميع الأطراف أن تستفيد في هذا الشأن من تجارب جيرانها من البلدان العربيّة الأخرى.
بقلم سونيا حجازي، باحثة بمركز المشرق الحديث ببرلين
ترجمة علي مصباح
!يهمنا رأيك؟
ما هو الطريق الأمثل لمحاسبة انتهاكات حقوق الإنسان أثناء حكم ديكتاتوري؟
أكتب لنا
جمعيّة الحقوقيين العراقيين
ملف انتهاكات حقوق الإنسان أثناء نظام صدام حسين
Sanabil
Economic Cooperation Foundation
.