دعم إعادة البناء والمجتمع المدني والشراكة المتوسطية
منذ آخر شهر يونيو/حزيران 2004 تجتهد الحكومة العراقية المؤقتة في استخدام السلطة التي أوكلت إليها من أجل إعادة إرساء وجود حكومي ذي مصداقية. وتعطي في ذلك الأولوية لثلاثة مجالات للعمل. يتعلق الأمر أولا وقبل كل شيء بمسألة الأمن الداخلي. وقد غدت هذه المسألة في الأثناء المطلب الأول دون منازع بالنسبة لكل العراقيين، وبذلك تكون عمليات إعادة تركيز العناصر المكونة لـ"دولة قوية" عملا يحظى بمساندة شعبية.
ثانيا، يسعى المرء إلى إقناع الشعب بأن مسارا سياسيا حقيقيا قد بدأ يسلك طريقه نحو الإنجاز. وعلى هذا الأساس ارتأت الحكومة العراقية أنه من الضروري أن تدعو إلى مؤتمر وطني تشترك فيه شرائح واسعة من التكتلات والمجموعات السياسية العراقية والذي يعقد في الموعد المحدد له في أواسط أغسطس/آب الجاري.
ثالثا، وفي الوقت نفسه، تكثف الحكومة من تحركاتها النشطة باتجاه البلدان المجاورة من أجل إقناعها بأن البقاء على حالة عدم الاستقرار بالعراق من شأنه أن يهدد مصالحها هي أيضا.
وتعتبر كل هذه الخطوات صحيحة من وجهة النظر المبدئية، في حين يظل مدى نجاحها مع ذلك غير مضمون. وسيكون على الاتحاد الأوروبي وأعضائه بالمقام الأول أن يتساءلوا عما إذا كانوا يريدون تقديم دعم للعراق في مسيرته باتجاه الاستقلال، وعن كيفية تقديم هذا الدعم. ولأوروبا دون شك مصلحة كبيرة في استقرار العراق وفي تأسيس نظام حكم ذي طابع تعددي وشراكي قادر على البقاء في بلاد منهَكة من الدكتاتورية ومن نظام العقوبات وسلسلة من الحروب.
وما لا يقل أهمية عن هذا هو أن لا يتحول العراق مجددا إلى بؤرة مخاطر على جيرانه أو حقل توترات في منطقة الشرق الأوسط. وبالأخير فإن أهمية إعادة البناء الداخلي للعراق واندماجه مجددا في محيطه تعد مسألة أكثر حيوية بالنسبة للاتحاد الأوروبي مما هي بالنسبة للأميركيين. ذلك أن العراق يعد من البلدان الشرق-أوسطية المجاورة لأوروبا، وإذا ما أخذ المرء بعين الاعتبار ديناميكية التوسيع الأوروبي فستكون للاتحاد الأوروبي في المستقبل حدود مشتركة مع هذه البلاد كما مع سوريا وإيران.
ولهذا السبب فإن للمؤسسات الأوروبية – وينطبق هذا على البرلمان الأوروبي الجديد، والمفوضية الأوروبية وكذلك بالنسبة للهيئة الأوروبية الحالية وأكثر منها الهيئة القادمة- مهمة تتجاوز مستوى البيانات السياسية التي تعبر عن الاهتمام الأوروبي بمسألة عراق ديموقراطي ومستقر وكذلك مجرد المساعدة الإنسانية. وسيكون على الالتزام الأوروبي أن يكون موجها بثلاث مقاييس: الأولويات العراقية، والتجارب الأوروبية الخاصة وأخيرا غاية تأسيس دولة ذات طابع تعددي شراكي يعيش بسلام مع مجاوريه.
توقعات عراقية
لقد دعت الحكومة العراقية الجديدة الاتحاد الأوروبي، من بين ما طلبت منه، إلى تدعيم "حضوره المرئي" في العراق كأن يفتح له مكتب تمثيل هناك. وستكون هذه الخطوة أكثر من مجرد عمل سياسي رمزي:
ستعطي من جهة دليلا إلى العراقيين على أنّ أوروبا لم تتخلّ عنهم، بل إنها تمنح فرصة للحكومة الجديدة والمسيرة السياسية الحالية التي سيتم في إطارها في شهر يناير 2005 على أقصى تقدير انتخاب مجلس نيابي وطني مشرِّع.
ومن جهة ثانية سيمنح هذا المكتب الاتحاد الأوروبي إمكانية لمعاينة الأوضاع عن كثب وعلى عين المكان والتعرف على أطراف شراكة في عمل التعاون السياسي والاقتصادي والاجتماعي المدني، كما سيساعد على مضي الاتحاد في وضع برامجه الخاصة في العراق. وبطبيعة الحال يجب أخذ المسائل الأمنية مأخذ الاعتبار ولا يمكن التهاون في شأنها.
لكن على الاتحاد في هذا الصدد أن ينحو نحو منظمة الأمم المتحدة التي، وبالرغم من العملية التي استهدفت مقرها ببغداد في أغسطس/آب 2003، نراها تفتح مكتبها هناك من جديد. ويمكن للاتحاد، في ضوء الأوضاع الأمنية الحالية أن يلجأ إلى اتخاذ مقر لمكاتبه في ما يدعى بـ"المنطقة الأجنبية" حيث تتواجد مراكز الحكومة العراقية وقصر الجمهورية والسفارة الأميركية.
وبصفة ملموسة طلبت الحكومة العراقية مساعدة أوروبية في تكوين رجال الشرطة وأعوان تسيير مختصين. وهو مطلب معقول وضروري، فأغلب العراقيين يشعرون بأنفسهم مهددين أساسا بظاهرة الإجرام "العادي" المتفاقم، وهم سيقيّمون عمل أية حكومة بمدى قدرتها على تحسين الوضع الأمني الشخصي لمواطنيها. ولذلك يكون تكوين شرطة قوية مسؤولة ويمكن الاعتماد عليها أكثر أهمية من إرسال وحدات عسكرية أجنبية إضافية.
ومنذ الآن فإن ألمانيا وبريطانيا تساهمان في تكوين أعوان شرطة عراقية: البريطانيون في الأردن وألمانيا في أبو ظبي. وفي هذا المجال ما تزال هناك حاجة ماسة إلى مزيد من المساعدة؛ وهناك ما يمكن القيام به خارج العراق أيضا عن طريق تلقي دروس في أكاديميات تكوين الشرطة بأوروبا، أو في معاهد تكوين الإطارات المسيِّرة، بالنسبة للكوادر الإدارية.
دولة القانون والمؤسسات السياسية
كما أن لأوروبا، علاوة على هذا تجارب خاصة وقدرات يمكن استغلالها في مسيرة إعادة البناء السياسي في العراق. إذ سيكون هذا المسار موسوما بعدد كبير من الاختلافات التي تهدد بالتفجر بخصوص مسألة تكوينة وطبيعة النظام السياسي المزمع بناؤه.
فهناك مثلا السؤال الذي يطرح حول الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها النظام الفيدرالي، وهو سؤال لم تتم الإجابة عنه بعد. وبصفة عملية لن يمكن ضمان حرمة أراضي البلاد على المدى المتوسط إلا ضمن هيكل فيدرالي أو نظام يتكون من مناطق ذات حكم ذاتي. وإن كل محاولة لوضع المنطقة الكردية مجددا تحت سلطة مباشرة ومركزية لبغداد ستقود إلى انفصال مناطق الحكم الذاتي الكردية أو إلى اضطرام حرب أهلية.
يمكن للاتحاد الأوروبي عن طريق الحوار السياسي مع كل من تركيا وسوريا وإيران أن يدفعا إلى تجاوز تحفظات هذه الدول تجاه مسألة التجربة الفيدرالية بالعراق. كما أنه بإمكان الاتحاد الأوروبي، بفضل تجاربه الخاصة في مجال الحكم الفيدرالي وأنظمة الحكم الذاتي، أن يقدم عروض نماذج مختلفة تضمن وحدة السيادة السياسية للدولة مع الأخذ بعين الاعتبار لمصالح المقاطعات المرتبطة بالاستقلال الذاتي.
وبإمكان الاتحاد الأوروبي إضافة إلى ذلك تقديم مساعدة ملموسة للعراق في مجال إعداد قانون مالي يضمن توزيعا عادلا للثروات بين الدولة المركزية والمناطق الجهوية والبلدية، كما يمكنه المساعدة على تأسيس أجهزة تسيير محلية لها القدرة على اتخاذ القارات على عين المكان بخصوص القضايا المحلية.
المصداقية الأوربية
كما يمكن للاتحاد في مجالات أخرى أن يعرض مساعدته في تكوين مؤسسات ذات مصداقية وفعالية، في مجال القضاء على سبيل المثال. كما أن المساعدات المالية من أجل تمكين المحاكم ورجال القضاء من تأدية عملهم بصفة ناجعة على نفس القدر من الأهمية مثل البرامج التي تهدف إلى تدعيم وتثبيت مبادئ دولة القانون وحماية حقوق الإنسان وذلك عن طريق دورات التكوين والتدريب التي تخصص للقضاة والمحامين والعاملين في إدارات السجون مثلا.
أوروبا، وخاصة بعد انتشار أخبار معتقل أبو غريب، تتمتع في هذا المجال بمصداقية أكبر من الولايات المتحدة الأميركية. كما أن بناء نظام يرتكز على مبادئ دولة القانون يقتضي إضافة إلى ذلك تسوية مسألة الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في عهد دكتاتورية صدام حسين. وهنا يستطيع أعضاء الاتحاد الجدد من دول أوروبا الشرقية وكذلك ألمانيا أن تقدم مساعدات مختصة وشخصية بالاعتماد على ما لديها من تجارب خاصة في هذا المجال.
وتكتسي المساعدة على تأسيس أحزاب سياسية ذات اهتمامات عراقية شاملة وهياكل داخلية ديموقراطية أهمية مماثلة، ذلك أنه وحتى تاريخ الإطاحة بالنظام القديم لم يكن يوجد بالعراق (باستثناء المناطق الكردية) سوى حزب سياسي واحد. أما أحزاب المعارضة بالخارج فهي لا تتمتع بشعبية ذات شأن، بينما الكثير من الأحزاب الجديدة تفتقر إلى أسس ديموقراطية داخلية.
وهنا يمكن للأحزاب السياسية الأوروبية والمنشآت التابعة للأحزاب أن تقدم مساهمة نشطة عن طريق إجراء تربصات وبرامج تبادل الخبرات والتجارب. وفي الوقت نفسه ينبغي على الاتحاد الأوروبي العمل بتنسيق مع مبعوث الأمم المتحدة للعراق على سبر طرق تقديم مساعداتها في إعداد وإنجاز انتخابات المجلس النيابي الوطني المقررة لشهر يناير 2005، وكذلك الانتخابات البلدية والجهوية المحتملة.
الشراكة المتوسطية
ستكون إعادة البناء السياسي والاقتصادي والثقافي أكثر متانة كلما كانت مرتكزة أكثر على مؤسسات مجتمع مدني نشط. وأوروبا تعلق أهمية كبرى على تدعيم المجتمع المدني كذلك مع بقية البلدان التي تتعامل معها. وفي إطار برنامج الشراكة الأورومتوسطية ("مسار برشلونة") الذي تشترك فيه ثلاث دول مجاورة للعراق قد تمّ تركيز مجموعة من المؤسسات والوسائل من أجل مساندة الأعوان النشطين في ميدان المجتمع المدني و في نفس الوقت خلق صلات ترابط بينهم ضمن شبكة جهوية.
وإن عامل التقارب الجغرافي والثقافي بين العراق و بعض من هذه البلدان المشاركة كفيل بأن يدفع إلى دعوة أعوان نشطين من العراق وتشريكهم في البرامج المجتمعية المدنية والثقافية والعلمية الهامة مثل Euromed youth (البرنامج الأوروالمتوسطي للشباب) و Euromed Audiovisuel (البرنامج الأورومتوسطي للإعلام السمعي البصري) و Euromed Heritage (الموروث الأورو متوسطي) و هيأة الدراسات الأورومتوسطية (Euro MeSco) أو في برنامج التعاون الجامعي الحالي.
مثل هذا العمل الذي يربط العراق بهذه الأنشطة الشراكية يستوجب من الطرف الأوروبي مستوى محددا من المرونة في استعمال الوسائل والأرصدة التي ابتدعت للسياسة الأوروبية المتوسطية وسياسة العلاقات مع بلدان الجوار. لكنه سيسمح أيضا بتفعيل الوسائل المتوفرة حاليا عوضا عن البحث الممض عن استنباط برامج جديدة لهذا الغرض. هكذا يمكن للمجتمع المدني العراقي أن يستفيد من تجارب جيرانه، ويتدعم بالتالي التعاون الجهوي.
حذار من التنصّل
تتردد هنا وهناك التحذيرات من انخراط ملتزم كبير جدا، أو واضح أكثر مما ينبغي أو متسرع للأوروبيين في العراق. وهذا التحذير يستند في الوقت نفسه على حجج جدية وأخرى غير سليمة. ومن بين الحجج الخاطئة تلك القائلة بوجوب توخي موقف متحفظ في المشاركة في إعادة البناء السياسي للعراق بدعوى أن الحكومة العراقية الجديدة تنوي العودة إلى تنفيذ أحكام الإعدام التي ألغتها سلطات الاحتلال.
إن مثل هذه الحجة مجرد نفاق. فأوروبا تناهض عن صواب مسألة حكم الإعدام، لكنه سيكون من العبث أن نجعل مساندتنا، وبالذات في مسار تطوير نظام قائم على مبادئ دولة القانون مرهونة بمسألة سياسية مبدئية ما زالت بلدان الاتحاد الأوروبي تخوض بشأنها جدالا موسوما بالخلافات مع حليفها الرئيسي في منظمة حلف الأطلسي. وإن عمل الإقناع في هذا المجال ستكون له أكثر حظوظا للنجاح عندما ينهض الأعوان الأوروبيون لمساعدة العراق بصفة نشطة على تركيز نظام قضائي مستقل ناجع.
وبالمقابل فإن الحجة القائلة بأن افتقاد الأمن يحد من إمكانيات تدخل الاتحاد ودوله الأعضاء ومشاركتهم الفعالة في العراق حجة صائبة. وسيكون بطبيعة الحال من باب انعدام المسؤولية إرسال المساعدين في عملية إعادة البناء إلى مناطق تسود فيها النزاعات المسلحة والإرهاب. لكن من ناحية أولى، وكما أشرنا إلى ذلك سالفا، لا يجب حتما على كل البرامج أن تنفذ داخل العراق. فالكثير من أعمال التدريب أو تبادل الخبرات يمكن أن تؤدى في البداية داخل بلدان الجوار، بل وفي أحسن الأحوال بتعاون مع هذه الأخيرة.
ومن ناحية ثانية هناك إجراءات وبرامج- من بينها تنظيم المجتمع المدني - ينبغي الانطلاق فيها في البداية انطلاقا من المناطق أو المدن التي استقرت فيها سلطة الدولة وحيث يمكن تقديم الحماية فيها للمتعاونين الأجانب، كما هو الحال في مقاطعات الشمال وفي بعض أماكن من الجنوب.
تمويل إعادة البناء
وبما أن الحاجة إلى الدعم الأوروبي قائمة على كامل تراب البلاد فإنه بإمكان المساندة الأوروبية أن تنطلق من هذه المناطق أولا، لكن دون التخلي عن طموح توسيع المساعدة على كامل تراب البلاد العراقية في مرحلة لاحقة.
أما ما يتردد سماعه من حين إلى آخر بأن العراق يعد مبدئيا بلدا غنيا وهو بالتالي ليس في حاجة إلى مساعدات اقتصادية على الأقل، فهو رأي يعكس بالأحرى الاهتمامات الاقتصادية لسياسيي البلدان الأوروبية أكثر مما يعكس ظروف الواقع الحالي للعراق. فالعراق عمليا غير قادر على تمويل متطلبات إعادة البناء خلال للسنوات القادمة بالاعتماد على محاصيل موارده النفطية. وهو في الوقت نفسه ليس بالبلد النامي الذي يفتقر إلى الموارد، وعندما ستتم إعادة تركيز بنيته التحتية الاقتصادية وتبنى منشآت ثروته النفطية فإنه سيصبح بإمكانه أن يغدو عنصرا محركا للتنمية في منطقة الشرق الأوسط.
ولذلك سيكون من باب الحكمة أن تتولى إحدى مؤتمرات الدول المساعدة تركيز مشروع برنامج شرق-أوسطي ("Middle East Recevery Programm ") على منوال خطة مارشال، يلتزم العراق داخله بإعادة توزيع الاعتمادات التي يتناولها اليوم في المنطقة عندما يتم له الوقوف على قدميه مجددا.
ويمكن للاتحاد الأوروبي أن يستلم مقاليد المبادرة من جديد في هذا المضمار. وعلى أية حال سيكون على أوروبا التي ظلت تعبر مرارا وتكرارا على الأهمية التي توليها إلى تركيز الديموقراطية والاستقرار في العراق أن تعبر الآن عن ذلك الاهتمام بلغة الأويرو. وهذا الأمر يعني في الوقت نفسه الاستعداد للتنازل عن الديون السابقة وكذلك تسريح مساعدات جديدة.
بقلم فولكر بيرتس
ترجمة علي مصباح
© المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي
فولكر بيرتس باحث في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي ومختص في قضايا الشرق الأوسط