العروبة ومغادروها: بين الضمّ والفرز
منذ 2003، تُجرى عملية تحطيم للجماعة العربية السنية في الهلال الخصيب، بدءاً من تهجير أبنائها وطردهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم وصولاً إلى المذابح التي يتعرضون لها في سورية والعراق. الحاصل هو تفكيك هذه الجماعة بغرض تحقيق تغيير ديموغرافي صراحة، أو إضعافها وإنهاكها بحيث لا تقوم لها قائمة لعقود قادمة. المأساة التي تحصل اليوم للعرب السنة ليست فريدة في تاريخ منطقتنا ومحيطها، بل تبدو جزءاً من عملية متواترة بدأت منذ ما يقارب المائة عام، ونشهد كل فترة إحدى جولاتها.
البداية كانت مع إبادة الأرمن والسريان في الأناضول، ثم عمليات التبادل السكاني بين الأتراك واليونانيين، والتي هي اقتلاع لشعوب بأكملها من بلادها وتعديل هوية مدن بأسرها، وهكذا أصبحت سميرنا اليونانية إزمير التركية. بعدها كان القمع الذي تعرض له الأكراد، وما رافقه من طرد وتهجير كما حصل بعد قمع انتفاضة درسيم. هذه العلميات من التطهير والإبادة والتبادل كانت جزءاً من عملية بناء الأمة التركية وإجابة عن سؤال الانتقال من السلطنة إلى الدولة-الأمة.
في المقابل، حاولت العروبة أن تلعـب دوراً مغايراً في عملية بناء الأمة، دوراً جامعاً لأبناء المشرق العربي بمختلف أديانهم ومذاهبهم. لم تكن العروبة في بدايتها أيديولوجيا واضحة، كما أصبحت فــــي القرن العشرين، بل فكرة شديدة العمــــومية تراوحت بين الانتماء إلى لغة وثقافــــة، كما في صيغها الأولــــى لـــدى مثقفي لبنان، إلى رابطة تجمع عــــرب المشرق خصوصاً وتعبر عنــــهم داخل الدولة العثمانية أو في مواجــــهة القوميين الأتراك لاحقاً.
لم تنجح العروبة في تحقيق هدفها، باعتبارها رابطة جامعة تتجاوز الانتماءات الأخرى التي تقسم العرب. على العكس، قدم تاريخ العروبة صورة مغايرة تماماً عما كان مفترضاً منها. فإذا نظرنا إليها عند نهاية القرن التاسع عشر وقارنّا وضعها آنذاك بما آلت إليه في نهاية القرن العشرين، سنرى البون الشاسع.
في البدايات حضر الجميع، حتى أن أحد وجوه الحركة الوطنية كان اليهودي الدمشقي الياس (الياهو) ساسون، الذي التحق لاحقاً بالحركة الصهيونية. في منتصف القرن العشرين لفظت العروبة اليهود العرب بشكل نهائي، بعد أن تعرضوا للطرد من بلادهم وأوطانهم كما حصل في العراق واليمن، أو دفعوا إلى الهجرة بسبب القسوة والإجحاف الذي عاشوا في ظله كما في سورية ومصر ولبنان. انتهى اليهود العرب إلى المنافي أو إلى إسرائيل، وقد تحالفت الحركة الصهيونية والسياسات العربية عليهم. فيهود العراق طُردوا من جانب النظام الملكي في العراق، وهو النظام الذي قام على الضباط الشريفيين الذين شكلوا عماد الثورة العربية الكبرى. لم تظهر أصوات معترضة وبشكل جدي على ما حاق بهم، حتى أن عدداً من الشخصيات اليهودية الشيوعية عُرض عليهم، بتوسط من حزبهم، الدخول في الإسلام كي يتفادوا الطرد. تحولت حياة اليهود في ظل الأنظمة العربية إلى حجيم من المراقبة والملاحقة والشك المستمر في الولاء بعد نشوء إسرائيل، إضافة إلى كونهم أصبحوا أهدافاً لعمليات إرهابية نفذتها مجموعات قومية ثأراً لفلسطين، وإن دانت هذه المجموعات نفسها تلك العمليات لاحقاً.
ولحقهم المسيحيون. وذلك على رغم الدور المركزي الذي لعبه هؤلاء في نشأة القومية العربية في موجتيها: أسماء مثل بطرس البستانـــي وإبراهيم اليازجي، ولاحقاً مع التحول الأيديولوجي للعروبة، ظهرت أسماء قسطنطين زريق وميـــشيل عفلق وجورج حبش. خلقت الأنظمة القومية السلطوية بيئات طاردة للأقليات الدينية - وهي الأضعف في المقاومة من غيرها - المدنية والبورجوازية في طبيعتها والمعتمدة على التعليم كرأسمال ثقافي. فسياسات التأميم وتقييد الحريات والمجال العام استهدفت البورجوازية، وتقديم الولاء على الكفاءة أضعف من حضور هذه الأقليات في جهاز الدولة ووظائفه، وهو السوق الأساسي للمتعلمين من أبنائها. غادر الكثيرون من المسيحيين إما بالهجرة إلى الخارج أو بالانكفاء إلى جماعاتهم مبتعدين من السياسة، حيث أعادوا إنتاج ما يشبه الذمية التي عرفوها سابقاً.
التمييز الذي عاشه المسيحيون، عاناه الشيعة أيضاً وبشكل أقسى، بـــخاصة أن الشيعة شكلوا غالبية ديمـــوغرافية في العراق وأقليات كبيرة في الدول الأخرى، ومع انتمائهم إلى الإسلام فإنهم بدوا كتهديد محتمل للسلطات الحاكمة، مما استدعى إجراءات أشد في مراقبتهم وضبطهم وإقصائهم، كما تجلى هذا في العراق خلال عهوده الملكية والجمهورية.
بالإضافة إلى التمييز الذي حاق بجماعات العرب، فإن أهوالاً أكبر لحقت بمن ليسوا عرباً مثل الآشوريين والأكراد.
المعضلة التي وسمت العروبة كأيديولوجيا هادفة إلى بناء دولة-أمة، هي معضلة العلاقة بين العربية والإسلام بشكله السني بخاصة. وهذه المسألة ربما كان الفرنسيون -لأسباب استعمارية خاصة بهم- أول من التفت إليها. فالفرنسيون اعتبروا القومية العربية قناعاً لهيمنة أبناء النخبة المدينية السنية وسيطرتها على الجماعات الأخرى، وعليه سعوا إلى تعبئة الأخيرة ضدها. يحيل هذا الاتهام إلى العلاقة الإشكالية بين العروبة والإسلام السني، وهي إشكالية حقيقية يشهد عليها الخروج المنتظم للجماعات الأخرى من جسد العروبة بتأثير سياسات تمييز وإكراه. حتى عندما حكم نظام تستند عصبيته إلى أقلية إسلامية (العلويون) في سورية، بقي احتكار هوية المجال العام خاضعاً للإسلام السني، وهو ما استُخدم لتبرير إقصاء وقمع ممارسات ثقافية مغايرة بذريعة عدم انتمائها للعروبة أو الشك فيه. العلاقة بين العروبة والإسلام السني أصبحت معضلة في سياق نشوء الدولة القومية، التي سعت إلى فرض نظام ثقافي معياري على الجميع، نظام يُعرّف الأمة، وهو ما بدا وقتها متجلياً في الإسلام السني.
العلاقة الإشكالية بين العروبة والإسلام السني كانت السبب في تدشين وتبرير سياسات تمييزية وإقصائية، سوغت في لحظات عديدة عمليات اقتلاع وتهجير وحتى جرائم، وفي المقابل فإنها جعلت من انتفاضات الآخرين وصعودهم مرتبطة بإقصاء وتحطيم الجماعة السنية العربية. إخراج الشيعة العرب من العروبة أو جعل عروبتهم وولائهم موضع شك، سمح بتسييس الهوية الشيعية كمدخل لتمكين هؤلاء من تعريف أنفسهم والدفاع عنها من جهة، ومن جهة أخرى إلى وضع «الهوية الشيعية» في موقف مناقض ومعادٍ للسنة العرب.
السياسات الإيرانية الطائفية أو حتى الصهيونية أو سياسات الدول الغربية في ما يخص بقية الأقليات ليست سوى عوامل مساندة، بينما المشكلة الفعلية داخلية ومتمثلة في العلاقة الملتبسة بين العروبة والإسلام السني في سياق بناء الهويات الوطنية للدول الحديثة. فالعروبة -بسبب من هذا الالتباس- لم تنجح في أن تصبح تلك الهوية الجامعة للعرب والمتجاوزة تلك الانتماءات التي تقسمهم، بل تورطت أكثر وأكثر في تلك الانقسامات وأصبحت أكثر ضيقاً مع الوقت. فقط يمكن النظر إلى الشخصيات العروبية التي ظهرت في بداية القرن العشرين مثل سلطان الأطرش، والذين جمعوا من دون إشكال بين عروبتهم ودرزيتهم أو مسيحيتهم أو يهوديتهم، وإلى القوميين اللاحقين الذين أدلجوا العروبة بشكل هائل جاعلين من تنوع الهويات وصمة عار.
هكذا وجدت العروبة نفسها خلال القرن الفائت، وهي تنبذ جماعات مختلفة من حظيرتها، لتصبح هي نفسها في النهاية سبباً للجريمة التي نشهدها اليوم في حق الجماعة الأبرز التي حملت العروبة وهي الجماعة العربية السنية.