غياب الحوار وفراغ عقائدي

تطالب العديد من الجهات السياسية تمديد العفو الذي يفتح المجال أمام أعضاء في منظمات إسلاموية تستعمل العنف في الجزائر للرجوع إلى الحياة العادية. تقرير برنارد شميد.

ثمّة سؤال يُقلق حاليًا الأوساط السياسية في الجزائر، هو ماذا سينجم عن عرض العفو العام المقدّم إلى الأسلامويين المتشدّدين الذين لا يزالوا فارين من الدولة والذين سوف يلقوا في المستقبل أسلحتهم؟

نصّ قانون تمّ بدء العمل به في الـ28 من شهر شباط/فبراير من هذا العام على مثل هذا العفو - بيد أنّ هذا القانون حدّد مدّة العفو في ستة أشهر. وهذا يعني أنّه تحتّم على الإسلامويين الذين لا يزالوا يمارسوا العمل المسلّح إلقاء أسلحتهم حتى تنطبق عليهم قواعد العفو.

كان من المفترض أن تقوم الشرطة والجيش بعد ذلك بالهجوم على "المتزمّتين" الذين سيبقون متوارين في مخابئهم - وهي في الغالب مخابئ محصّنة ضدّ القنابل موجودة في الجبال الواقعة إلى الشرق من العاصمة الجزائر.

تجربة سابقة

لقد كانت الحال مشابهة بعد قانون العفو "الشامل" الذي صدر في شهر تمّوز/يوليو 1999 والذي أدّى - في نهاية الفترة "الساخنة" من الحرب الأهلية في الجزائر - إلى توقّف أكثر من 6000 إسلاموي مسلّح عن خوض حربهم. لقد استعادت الدولة بعد عام 2000 سيادتها على نواحٍ واسعة من الأراضي التابعة لها، وذلك بناءً على سياسة الترغيب والترهيب التي اتّبعتها سلطة الدولة في الجزائر.

لكن تبدو النتائج الناجمة عن مبادرة العفو في هذه السنة مخيّبة للآمال إلى أبعد حدّ. من المؤكّد أيضًا أنّ أعداد الإسلامويين المسلّحين الموجودين في يومنا هذا في الجزائر أقلّ بكثير مما كانت عليه في بداية هذا العقد. إذ قُدّر عددهم قبل عام بحوالي ألف مسلّح. ومع ذلك فإنّ نتائج قانون العفو الذي صدر حديثًا تخيّب آمال الكثير من السياسيين والمراقبين الجزائريين.

في نهاية شهر آب/أغسطس من هذا العام أي بعد مضي فترة الستة أشهر، أُجري في العاصمة الجزائر حساب (مؤقّت) أظهر أنّ عدد الإسلامويين المتشدّدين الذين ألقوا أسلحتهم يبلغ 250 مسلّحًا. ولكن في المقابل يدور الحديث عن أنّ عدد المسلّحين الفارين من الدولة لا يزال يبلغ ثمانمائة مسلّحًا.

ينتمي معظمهم إلى "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" GSPC. كذلك صرّح رئيس الوزراء الجزائري يزيد زرهوني للصحافة الجزائرية بأنّ قوات الأمن قامت في مدّة عام "بقتل أو بأسر خمسمائة إرهابي".

العنف الإسلاموي ما زال موجودا

بيد أنّ هذه الأرقام لا تعني فقط أنّ العدد الأكبر من المقاتلين الإسلامويين الذين لا يزالوا فارين من الدولة لا يريدون إلقاء أسلحتهم. تشير هذه الأرقام قبل كلّ شيء إلى أنّ هذه المجموعات لا تزال قادرة على إعادة خوض معارك جديدة انطلاقًا من بيئتهم. إذ أنّ العدد الكلي لمن كفّوا عن القتال ولمن لا يزالوا يقاتلون ومن قُتلوا هو أعلى بكثير من العدد الكلي للتابعين للجماعة السرية الإسلاموية الذي أُعلن عنه قبل عام.

أظهر تعنّت وتصميم البقية الباقية من الإسلامويين الذين لا يزالوا فارين من الدولة في الأيّام الأخيرة ومن خلال عمليّات عسكرية، أنّ هذه البقية لا تريد التخلّي عن السلاح.

ففي ليلة الـ29 من شهر آب/أغسطس، أي قبل انتهاء فترة العفو الرسمية بقليل، قُتل شرطيان وصاحب متجر أثناء تبادل إطلاق النار مع "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" في وسط مدينة القصور (الواقعة بالقرب من بيجايا).

كما تمّ في الـ6 من أيلول/سبتمبر إحباط عملية اعتداء بالقنابل على رئيس قوات الأمن في منطقة بني دوالا بالقرب من عاصمة ولاية تيزي وزو. كذلك قتل بالرصاص في نفس اليوم في وسط مدينة تيزي وزو شخصان اعتقد أنّهما كانا من الإسلامويين المسلّحين.

فراغ عقائدي

من الجائز أن يكون السبب الرئيسي للنتائج الناجمة عن مبادرة العفو والتي لا تزال حتى الآن قليلة نسبيًا هو انتشار الفراغ العقائدي خارج نطاق الجماعات الإسلاموية - بالإضافة إلى أسباب أخرى.

فالكثير من الناس يمارسون أعمالهم منذ تحسّن الحالة الاقتصادية بناءً على ارتفاع سعر النفط الخام. ولا يوجد تقريبًا حوار سياسي؛ فالحكومة تقوم بكبت الحوار بصورة متواصلة في العقد الأخير.

وعلى ما يبدو لا توجد تقريبًا بدائل سياسية يمكن لها أن تجتذب الجزائريين خارج نطاق الحركة الإسلاموية - حتّى وإن كانت هذه الحركة قد فقدت اعتبارها أيضًا في نظر الكثير من الجزائريين بسبب الدماء التي سفكت في التسعينيات. لكن لم تحلّ محلّها طوباوية أخرى أو حركة أخرى يُناط بها الأمل.

يضاف إلى ذلك أنّ مَنْ كفّوا عن القتال لا يجدون أيّة آفاق تقريبًا. بيد أنّ بعض قادتهم السابقين استطاعوا بفضل المساعدات المالية السخية التي قدّمتها لهم الدولة أن يحقّقوا لأنفسهم مكانة اجتماعية حسنة أو حتّى حياة اقتصادية ناجحة. على سبيل المثال مدني مزراق الزعيم السابق لـ"جيش الانقاذ الإسلامي" AIS الذي أسّس علامة تجارية لمياه معدنية اسمها تكسنة Texanna.

وتكسنة هي بلدة تقع في الشمال الشرقي من الجزائر في الأصقاع الواقعة خلف المدينة الساحلية جيجيل، حيث كان يقع حتّى عام 1999 المقر الرئيس لـ"جيش الانقاذ الإسلامي". لكن يعدّ الكثير من الأعضاء "البسطاء" الذين كانوا تابعين للجماعات المسلّحة في عداد الفاشلين من وجهة نظر اجتماعية. فهناك صعوبة في إعادة "دمجهم".

المطالبة بتمديد العفو

انتقلت معظم الجهات الهامّة في الأوساط السياسية الجزائرية إلى المطالبة بتمديد (محدّد أو غير محدّد زمنيًا) لفترة الاستفادة من عرض العفو، وذلك من أجل إخراج مبادرة العفو الأخيرة من طريقها المسدودة. طرح هذا الموضوع في شهر آب/أغسطس من قبل رئيس "جبهة التحرير الوطني" السيّد عبد العزيز بلخادم الذي تمّ تعيينه في بداية الصيف وزيرًا للدولة والذي يعتبر قوميًا إسلاميًا-محافظًا.

ثم تبعته قوًى عديدة من ذوي النفوذ السياسية الجزائريين. فعلى سبيل المثال أشادت بفكرة تمديد فترة العفو المنظّمة الوطنية للمحاربين القدماء الذين شاركوا في حرب التحرير الجزائرية والتابعون لها، وهي عبارة عن جمعية تمارس ضغطًا على السلطات. كذلك كانت حال الأحزاب الإسلامية المرخّصة التي تعتبر معتدلة نسبيًا، مثل "حركة الاصلاح الوطني".

لا يُعرف حاليًا إن كان سيتمّ الآن تمديد الفترة أم لا. كما أنّ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يتحدّث عن ذلك في الـ4 من أيلول/سبتمبر في أوّل ظهور له بعد غياب غامض دام عدّة أسابيع - من المحتمل أنّ سببه المرض. بيد أنّ وزير الداخلية السيّد يزيد زرهوني أشار في حديث وجّهه إلى الجماهير إلى أنّ الأمل في العفو سوف يبقى قائمًا.

فقد جاء في حديثه: "إذا أراد أحد ما أن يستسلم، فهل يُفترض أن يُقال له: لا تستسلم، بل عدّ إلى مخبئك في الجبال؟" ومع أنّه لم يقدّم بذلك وعدًا مباشرًا، إلاّ أنّه أشار بوضوح - في سياق حديثه - إلى أنّ عرض العفو سيشمل أيضًا في المستقبل المقاتلين الإسلامويين.

بقلم برنارد شميد
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

مشروع "الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية" في الجزائر
رغم وجود العديد من التحفظات على مشروع الميثاق، إلا أنه من المستبعد أن تصوت غالبية الجزائريين ضده، لأن الرئيس بوتفليقة لا يعتمد فقط على الدعاية الإعلامية القوية، بل بإمكانه الاستفادة أيضا من إرتفاع أسعار البترول لإعطاء وعود عديدة. تحليل برنارد شميد

ترويض الإسلامويين من خلال إشراكهم بالحياة السياسية
يمثل الإسلامويون جزءا هاما من مجتمعات بلادهم. إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية، كما تبين إزابيل فيرينفيلس في تحليلها التالي