تطور في فارس والأندلس، وتقهقر تحت حكم العثمانيين
قد يفاجيء القاريء حينما يأخذ الكتاب بين يديه، فهو يحمل عنوانا كبيرا، يتصدى للفلسفة الإسلامية منذ بداياتها وحتى الوقت الحاضر، بينما الكتاب لا يتعدى المائة صفحة إلا ببعض الصفحات، فلو أعددنا فهرسا بكتب الفلسفة وتاريخها والنقاش حولها في العالم الأسلامي لتجاوزت عدد صفحاته المائة، فكيف لكتاب يحمل هذا العنوان الكبير يكون بهذا الاختصار؟ لكنه ما أن يتصفح الكتاب ويقرأ مقدمة الكاتب حتى يعرف بأن العنوان لم يكن دقيقا بالكامل.
تاريخ تطور الفلسفة وليس بحث في الفلسفة
من القضايا المتداخلة في الجدل الفلسفي اليوم هو أن البحث في تاريخ الفلسفة هو بحث فلسفي، ويعد فلسفة أيضا، بينما ينبري فصيل آخر ليعارض هذا الأمر من أن البحث في تاريخ الفلسفة ينتمي لعلم التاريخ وليس للفلسفة، فالتصدي لتاريخ الشعر لا يعُد أدبا أو شعرا مثلا، وربما هذه القضية تأخذ بعدها الفاعل والحقيقي للمتتبع للنقاش الفلسفي في المشهد الثقافي العربي، فيما يخص الفلسفة اليوم.
البروفيسور أولريش رودولف يؤكد في مقدمة الكتاب بأنه يعد مخططا أوليا لتاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي، أي اننا نواجه منذ البداية إشكالية البحث الفلسفي أو البحث في تاريخ تطور الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، إلى جانب أن المؤلف يبدأ مع تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ بدايات الترجمة الأولى للنصوص الإغريقية القديمة إلى اللغة العربية، وليس التصدى لبدايات الفكر الفلسفي التي كانت بذورها متناثرة قبل الإسلام وزرعها وأظهرها الإسلام ثم أخذ هذا الفكر ملامحه العلمية بعد تطور المجتمعات العربية وإتساع رقعة الدولة الإسلامية واحتكاكها مع شعوب وأديان وأفكار أخرى.
الكتاب يؤرخ لبدايات الترجمة منذ القرن الثامن وتطورها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وانتقالا الى القرن العشرين، من حيث أن النشاط الفكري- الفلسفي في العالم الإسلامي كان قد توقف منذ القرن الثالث عشر، ولم يبدأ بالتحرك إلا في القرن العشرين. لكنه، وبملاحظة لماحة جدا يؤكد بأن هذا التوقف تم في العالم الإسلامي العربي الذي خضع الى الدولة العثمانية، من حيث أن النشاط الفكري والفلسفي في ايران وما خلفها كالهند وباكستان وآسيا الوسطى كان قد استمر، وبالتالي فإننا يمكن ان نتحدث عن الفلسفة الإسلامية بثقة أكبر مما يمكننا أن نتحدث عن الفلسفة العربية الإسلامية التي كانت قد توقفت بالكامل منذ هيمنة الأتراك على مقاليد السلطة في العالم الإسلامي العربي.
غوربين وأوبرفيغ ... والفلسفة الأسلامية
عند استعراضه لدراسات الفلسفة الإسلامية وتاريخها من قبل المستشرقين الأوربيين يتوقف المؤلف عند هنري غوربين الذي كان يختلف في نظرته للفلسفة الإسلامية وتاريخها عن جميع من بحث في هذا المجال من العلماء الغربيين، حيث كان هنري غوربين يعتبر الفترة منذ القرن الثاني عشر هي الفترة التي استطاع خلالها الفكر الإسلامي أن يشكل خطابه الفلسفي الخاص به، سواء من خلال المتصوفة أو من خلال تطور الفكر الشيعي، الذي أنشأ لنفسه خطابا روحانيا خاصا به، أكثر مما كان يتجلى في رؤية الدولة الإسلامية وأحكامها آنذاك، رغم أن ذلك لا يعني القطيعة مع الفكر الإغريقي الذي وصل الى العالم الإسلامي عبر الترجمة آنذاك. ( يمكن العودة لكتاب غوربين المهم عن الفلسفة الإسلامية، وحواراته مع الشيرازي في هذا المجال).
ثم يتوقف المؤلف عند فردريك أوبرفيغ الذي ألف كتابا مهما من عدة مجلدات بعنوان (مجمل تاريخ الفلسفة) حيث خص الفلسفة في العالم الإسلامي بثلاثة مجلدات منه، استعرض جميع المراحل والعصور، متوقفا عند الكتاب والمؤلفين المسيحيين واليهود الذين أثروا في الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية بشكل عام.
وبالتالي يعترف المؤلف بتواضع ما يقدمه في كتابه مقارنة بما قدمه من مؤلفات بهذا الصدد، لكنه يؤكد بأن ما يقوم به هو تخطيط أولي يساعد الطلبة الدارسين للفلسفة الإسلامية، كما يمهد لدراسات طويلة وتفصيلية للفلسفة الإسلامية وتاريخها والتي يعتكف المؤلف عليها والتي قد تكون في مجلدات عديدة، رغم أنه يؤكد بأنه يستبعد من كتابه الموجز هذا كل المؤلفين والمفكرين المسيحيين واليهود الذين أسهموا في الفكر الأسلامي والثقافة الإسلامية بشكل عام كما جاء ذكرهم عند أوبرفيغ.
من الكندي وحتى مدرسة أصفهان
عدا المقدمة يضم الكتاب خمسة عشر فصلا مكثفا هي: استقبال العلوم الأغريقية، أبو يعقوب البيروني والتخطيطات الفلسفية الأولى، أبو بكر الرازي والتخطيطات الفلسفية الثانية، أبو نصر الفارابي والتخطيطات الفلسفية الثالثة، انتشار المعرفة الفلسفية، ابن سينا: النموذج الجديد، الغزالي ورد الفعل الديني،ابن باجة والاستقرار الفلسفي في أسبانيا، ابن طفيل ومحاولة التركيب الفلسفي، ابن رشد والعودة الى أرسطو، السهروردي: الفلسفة كنور إيماني، الشروط والظروف المتغيرة، الفلسفة ما بعد ابن رشد والسهروردي، الملا صدر الدين ومدرسة أصفهان والبداية الجديدة. التحدي من خلال الفكر الأوربي.
يمكن القول إن هذا الكتاب رغم صغر حجمه إلا انه يشكل إضافة منهجية مهمة للبحوث والدراسات حول الإسلام والفلسفة الإسلامية، ليس على الصعيد الإوربي وانما على الصعيد العربي والإسلامي، وياحبذا لو تتم ترجمة هذا الكتاب الى العربية، لكانت فائدته أكبر، من حيث منهجيته العالية وموضوعيته.
بقلم برهان شاوي
حقوق الطبع قنطرة 2005