"أصواتنا مقيدة ووجودنا مرفوض"
كثيرًا ما تنتقدين الصحافيين الغربيين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لصمتهم حيال غزة وادعاءاتهم بالحياد. هل الصحافة قادرة على أن تكون حيادية، أو ينبغي لها ذلك؟
كثيرًا ما يتجنب الصحافيون بعض الكلمات، وكأن استخدامها يُخلّ بالحياد، لكن في الواقع، هذا يُخل بنزاهتهم. مهمة الصحفي هي قول الحقيقة، وكل من يعمل في المهنة يعلم مدى قوة اللغة، عندما يتجنب الصحافيون، أو أي شخص آخر، استخدام اللغة الصحيحة تحت ستار الحياد، فإن ذلك يُؤدي إلى عواقب وخيمة: يُكلف الفلسطينيين حياتهم. فما عذر الصحافيين لرفضهم تسمية ما يحدث في غزة باسمه؟ لهذا السبب أعتقد أن الحياد لا يخدم إلا الجلاد.
دار بينك وبين رئيس تحرير صحيفة بيلد الألمانية السابق، كاي ديكمان، جدال حاد في ندوة بسويسرا في مايو/ آيار الماضي، إذ قال ديكمان إن شعارات مثل "من النهر إلى البحر" تدعو إلى زوال إسرائيل، بينما أصررتِ على أن ما يحدث في غزة لا ينبغي وصفه بالحرب، بل بالإبادة الجماعية. كيف تنظرين إلى الجدل الأوسع حول اللغة والشعارات والرموز في وسائل الإعلام؟
كتبتُ قبل بضعة أسابيع مقالًا بعنوان "الأمم المتحدة وصفت ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية، هل يجرؤ الصحافيون الغربيون على ذلك؟"، بعد عامين من بدء قصف غزة، ما زال بعض الصحافيين الغربيين يتجادلون حول تسميته صراعًا أم حربًا أم إبادة جماعية.
كان الأطفال في غزة يُقتلون ويُجوعون في تلك الأثناء، ما يُحزنني أكثر هو أننا، وأنا منهم، نواصل التركيز على الأطفال لأنهم الأكثر براءة، لكن قتل الرجال والنساء وكبار السن، والتهجير القسري للفلسطينيين، أمور لا ينبغي القبول بها أبدًا.
للأسف، كثيرًا ما نشعر بالحاجة إلى تسليط الضوء على الأطفال فقط لاستفزاز مشاعر العالم، بينما في الواقع، لا ينبغي أصلاً قبول أيَّا مما كان يحدث في غزة. من المؤسف أن يركز البعض على الأقوال لا الأفعال؛ فهم مهووسون بشعارات مثل "من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر"، ويصفونها بمعاداة السامية، بينما لا يُنظر إلى قتل الفلسطينيين وتشريدهم وتجويعهم المتعمّد كأمر غير مقبول.
"أفعالنا في غزة نتيجة الخوف"
لا تزال إسرائيل تعيش مزيجًا من الصدمة والخوف والرغبة في الانتقام بعد عامين من هجوم حماس، كما يقول عامي أيالون، رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي السابق. يشرح أيالون، في هذه المقابلة، لماذا حان الوقت لإنهاء حرب غزة، ولماذا فشلت إسرائيل في استيعاب الدرس الأهم من السابع من أكتوبر.
تصفين في كتابك "عيون غزة" (2025) كيف اضطررتِ لاختيار كلماتك بعناية أثناء تغطيتك من غزة قبل فرارك إلى أستراليا، خشية تعرضك أو عائلتك للخطر من جانب إسرائيل. هل واجهتِ أيضًا قيودًا أو ضغوطًا من حماس؟
جاءت القيود التي واجهتها في غزة من الاحتلال الإسرائيلي، فالخوف دائم؛ كل كلمة أو منشور قد يجعلك هدفًا. في إحدى المرات، أدى ارتدائي قلادة بسيطة عليها خريطة فلسطين إلى اتهامات عبر الإنترنت بأنها ترمز إلى إبادة إسرائيل، كان هذا أمرًا غريبًا، خاصةً وأننا كنا نتعرض للقصف في الوقت نفسه، مما يبيّن كيف يُنظر إلى وجودنا بحد ذاته على أنه استفزاز.
اتُهمتُ حتى على منصة إكس بأنني عضوة في حماس وليس صحافيةً —الاتهام نفسه الذي عرّض حياة صحافيين فلسطينيين كثيرين للخطر خلال العامين الماضيين، واُستخدم لتبرير الهجمات على المدارس والمستشفيات والجامعات. عندما يُقتل أكثر من 240 صحفيًا وعاملًا في الإعلام، فكيف يمكن اعتبار ذلك دفاعًا عن النفس؟
كنتُ أعتقد أن مغادرة غزة ستتيح لي التحدث دون خوف، لكنني أدركت أن أصواتنا تبقى مقيدة حتى في الخارج، ويظل وجودنا مرفوضًا.
ماذا تقصدين بأن وجودك مرفوض؟
عندما حضرتُ ندوة سانت غالن في سويسرا التي ذكرتها في سؤالك بالبداية، تواصلت معي جهة إعلامية لإجراء مقابلة، اطلعتُ على أعمالهم، وأدركتُ أنهم ليسوا متعاطفين تمامًا مع الفلسطينيين، لكنني وافقتُ، لأنني اعتقدتُ أنها قد تكون فرصةً لمشاركة وجهة نظري.
لم يذكروا فلسطين أو الفلسطينيين ولو لمرة واحدة خلال المقابلة، وركزت جميع أسئلتهم على الرهائن الإسرائيليين والصواريخ فوق إسرائيل، لكني أجبتهم بالحديث عن غزة، وكيف يكبر الأطفال هناك خائفين من السماء، بسبب الصواريخ والطائرات المسيّرة، وأن أطفال غزة لا يستطيعون أحيانًا التمييز بين الغيوم ودخان الغارات.
توقف المُحاور بعد حوالي عشر دقائق، وقال إن المقابلة لن تُنشر لأنني لم أُجب على أسئلته حول إسرائيل، فقد كان تحيزه واضحًا للغاية، مثل هذه اللقاءات شائعة جدًا بالنسبة لنا عندما نتحدث إلى وسائل الإعلام الدولية.
كيف تُعيد السينما صياغة الهوية الفلسطينية؟
تنسج شيرين دعيبس في فيلمها "اللي باقي منك" بين سردية عائلية تمتد على ثلاثة أجيال والتاريخ الفلسطيني والإسرائيلي، واضعة نفسها ضمن حراك سينمائي متصاعد يعيد صياغة الهوية الفلسطينية على الشاشة.
هل تلاحظين أي تغير في صورة الفلسطينيين في وسائل الإعلام الدوليةبعد عامين من الأحداث التي تصفينها في كتابك؟
نعم، ويعود ذلك بشكل كبير إلى الصحافيين الذين ما زالوا على أرض غزة، ينقلون ما يرونه، والذين لولا عملهم، لما تمكن الناس بالخارج من الوصول إلى أي أخبار أو لقطات من القطاع.
سبق أن تحدثتِ عن شعورك بذنب الناجية، كيف تتعاملين مع فقدان هذا العدد الكبير من الزملاء والأصدقاء في غزة؟
يعاني كل شخص أعرفه من غزة من الشعور بذنب الناجي أو الناجية، سواءً كان داخل القطاع أو خارجه. لا سبيل حقًا للتأقلم مع المعاناة المتواصلة، أستيقظ كل صباح غير متأكدة مما إذا كنت سأفقد أحد أحبّائي في غزة الذين لم تتح لهم فرصة النجاة من العنف. لطالما تمنيت أن ينتهي كل شيء بعد بضعة أيام أو أشهر، الآن وبعد مضي عامين، كيف يمكن لأي شخص أن يبدأ بالتعافي من شيء لم ينتهِ بعد؟
كيف تنظرين إلى اتفاق وقف إطلاق النار الأخير؟ هل أنتِ متفائلة بأن المعاناة ستنتهي أخيرًا ـــ خاصةً وأنك كتبتِ على إنستجرام يوم توقيع الاتفاق أن "الإبادة الجماعية انتهت"؟
لقد شهدنا انهيار اتفاقات وقف إطلاق النار من قبل. ولكن بعد عامين من الدماء والركام، أردتُ التعبير عن الأمل، ومع ذلك، لن يصدق أحدٌ حقًا أن الإبادة الجماعية قد انتهت حتى يستيقظ الفلسطينيون دون دوي القنابل أو أنباء عن المزيد من القتلى. فوقف إطلاق النار لا يعني عودة الحياة في غزة إلى طبيعتها، وبسبب العنف الشديد الآن، بدأ الناس يحنّون للحياة قبل أكتوبر/تشرين أول 2023، وأحيانًا يبالغون في تجميلها، غير أن تلك الحياة لم تكن طبيعية، ولا ينبغي أن تُعتبر كذلك.
لا يزال كثيرون في عداد المفقودين دون أثر لهم؛ لا نعرف إن كانوا على قيد الحياة أو ما الذي ستحمله الأيام القادمة، إنهاء القصف أمرٌ أساسي، لكن المشكلة أعمق. ماذا سيحدث للفلسطينيين في غزة، لمنازلهم المدمرة ومستشفياتهم ومستقبلهم؟، من الصعب البقاء متفائلًا، ومن الصعب أيضًا فقدان الأمل تمامًا، إنها دوامة من المشاعر المتقلبة.
ترجمة من الإنجليزية: سارة عرفة
قنطرة ©