إبداعات أدبية رغم عيون الرقابة الأمنية

ينتشر أفراد المخابرات في سوريا في كل مكان مثلما ينتشر أفراد شرطة المرور في الغرب. ويتم تسجيل كل حركة وكلمة، لكن بعض الكتّاب يعتبرون ذلك تحديا خلاّقا ومبدعا ليعطون بالنكتة والفكاهة والخواطر لمحة من النظرة الأولى عن المجتمع والنظام السياسي. سوزانه شاندا تلقي الضوء على هذه المسألة.

إنه يوم من الأيام التي لا يريد الكاتب الروائي فتحي شين النهوض من السرير، فشدة القيظ تكتم الأنفاس في غرفته، كما تملؤها الضوضاء المخترقة إليها من النوافذ المغلقة التي تسببها مظاهرة كبيرة مصحوبة بكُورُس تمثيلي وموسيقى عسكرية يقودها أوركسترا. إن رواية "الصمت والصخب" لِنهاد سيريس التي نُشرت العام الماضي مترجمة إلى اللغة الألمانية تُعد هجاءً لاذعا لزعامة ديكتاتور عربي. وفيها يسرد سيرين يوما من حياة الكاتب فتحي شين المليئة بالحظر من الكتابة، حيث صادف هذا اليوم بالضبط يوم الاحتفال بالعيد العشرين لتولي "القائد الكبير" للحكم.

في هذا اليوم كانت شوارع المدينة مكتظة بطوفان من البشر يتحرك ببطء متصببين عرقا يرفع نصفهم لافتة عليها صورة القائد. وكان منظم المظاهرة الذي يقود الكورس التمثيلي عبر مضخم للصوت يهتف عبارات مقفاة فيها حُب وتقدير للزعيم قائلا "ميم ميم يا زعيم" فيردد الحشد من ورائه "ميم ميم يا زعيم".

دعاية من دون انقطاع

ومن لم يستطيع النزول إلى الشارع للانضمام إلى المظاهرة يمكنه متابعتها في البيت عبر شاشات التلفاز ويديره بأعلى صوت حتى لا يُخيل إلى أحد أنه لا يتمتع بالوطنية الكافية. وكان الكاتب فتحي شين هو الوحيد الذي يعتقد أنه بإمكانه عدم المشاركة، بيد أن النظام الذي لم يعد يكفيه الصمت أجبره على ترديد هتافات المظاهرة. ولا يكاد أحد يصدق أن مثل هذه الروايات لم تُمنع من النشر في سوريا. وعن ذلك يقول نهاد سيريس بصوت خافت وهو جالس في بار فندق بارون العتيق بمدينة حلب مدخنا غليونه: "ليس لدي مشكلة في النشر، وعندما أرى أن هناك شيئا لا يلقى قبولا هنا لا أقدمه لهيئة الرقابة في البلاد ولكن أنشره في بيروت".

وهذا ما فعله مع رواية "الصمت والصخب"، التي يمكنها أن تدخل سوريا بطريقة شرعية وتملأ رفوف مكتبات حلب ودمشق للبيع. ثم يروي نهاد سيريس شيئا عن خلفية حظر نشر هذه الرواية، حيث لم يُفرض عليه الحظر صراحة ولكنه مُنع بدءا من عام 2001 من الكتابة للتلفاز السوري وأحيل بينه وبين ذلك حتى جاءت رواية "حالة شغف" التي نُشرت في بيروت إلى المكتبات السورية.

وكان نهاد سيريس المولود في حلب عام 1950 والمشهور برواياته وسيناريوهاته للتلفاز السوري كما لو كان أصابه الشلل جراء هذا الحظر فكفّ عن الكتابة وعاد إلى مهنته الأولى كمهندس معماري.

حُب وجنس ومزاح

​​ثم يتساءل سيريس - وهو مستغرق في التفكير ناظرا حوله – كيف يتحمل كاتب من الكتاب ثلاث سنوات من الصمت الأدبي، ويقول: "لا بد أن يجد المرء حلاّ من الحلول، وأفضلها الحب والجنس والمزاح، وبعد حوالي ثلاث سنوات من الصمت جلست أمام الحاسوب وكتبت هذا الكتاب من أعماقي". واليوم يكتب المؤلف أفلاما وسيناريوهات لشركات الإنتاج الأجنبية ويكتب مقالات وأعمدة لصحف في دول الخليج والأردن ولبنان وينشر كتبه في الخارج.

ويقول مقتضبا: "لن تقوم لي قائمة في سوريا، فأنا لست محبوبا لدى النظام". وكمثل كثير من الفنانين والمثقفين انتاب سيريس الأمل عندما بدأ في سوريا عهد جديد بتولي بشار الأسد الحكم عام 2000، حيث أُطلق سراح المعتقلين السياسيين وشهدت البلاد انفتاحا وظهرت منتديات المثقفين السياسية، إلا أن "ربيع دمشق" لم يدم طويلا. وفي حلب اشتد قيظ الظهيرة في الميدان الخالي من البشر أمام فندق السياحي، أهم مسرح أحداث رواية نهاد سيريس، حيث تظهر صور الرئيس - وهو يلوّح بيده مبتسما - ساطعة على الأركان الأربعة للميدان المضاء بالأنوار لتنعكس على واجهات البيوت. ويقول المؤلف: "في السنوات الأخيرة أخذت ندوات الاحتفال المنظمة التي تقدس القائد تتزايد من جديد"، ثم انتقل إلى موضوع جديد وبدأ يروي قصة حُب كتبها حديثا، فالحب أحد الحلول كما قال آنفا.

عالم الخفاء

هناك أيضا حلول حتى للكتب المحظورة في البلاد كما هو الحال بالنسبة للكاتب خالد خليفة، ففي عام 2006 ظهرت له رواية "مديح الكراهية" عن دار نشر سورية ثم مُنعت من التداول بسرعة. هذه الرواية تعالج موضوعا محرما دوليا، ألا وهو كفاح الجيش السوري ضد الإسلامويين المسلحين في ثمانينيات القرن العشرين بمدينة حماه والذي راح ضحيته عشرة آلاف شخص. وقد استطاع الكاتب نقل أحداث هذه الرواية إلى مدينة حلب في صورة ملحمة عائلية.

بعد الحظر على تداول الرواية في سوريا تم طبعها مرة أخرى عن دار نشر لبنانية، وبهذا أصبح شراؤها بطريقة شرعية ممكنا في جميع أنحاء العالم ما عدا سوريا. وفي العام الماضي تم ترشيح هذه الرواية للجائزة العالمية للرواية العربية التي تُسمى البوكر العربية. ويتصور خالد خليفة فرِحا المأزق الذي سيقع فيه النظام عندما يحصل بالفعل على الجائزة. وعلى الرغم من حظر تداول الرواية في سوريا، إلا أن شراءها ممكن ولكن فقط في الخفاء، فالكل مُلمّ بالمشهد الأدبي في البلاد والمواطنون يعرفون بعضهم بعضا ويعرفون الطرق التي يستطيعون من خلالها الحصول على الكتب بصورة غير شرعية.

الرقابة من الأمور الاعتيادية

وفي أثناء الحديث معه في مقهى النوفرة خلف المسجد الأموي بدمشق تندّر خالد خليفة البالغ من العمر أربعة وأربعين عاما على اهتمام الغرب بالكتب المحظورة في الشرق الأوسط قائلا: "أنتم الأوروبيون تقيمون الدنيا وتقعدوها من أجل الرقابة على الكتب كما لو كان الكتاب المحظور أفضل من غيره. أما بالنسبة لنا فالرقابة من الأمور الاعتيادية التي نعيشها كل يوم ونتكيف معها منذ عقود من السنين".

إنه يعرف موظفي هيئة الرقابية معرفة شخصية، ويقول ببساطة إنه يتصل بهم هاتفيا ويتظلم عندما يريدون حذف شيء من روايته، وعلى الرغم من أن ذلك لا فائدة فيه، إلا أنه مهم أجل الثقة في النفس. ثم ينظر حوله ويشرب قهوته ويدخن سيجارته إلى النهاية ثم يقترح تغيير المقهى.

ويعتبر مقهى النوفرة من المقاهي القديمة الشهيرة التي يجلس فيها المرء أمام طاولات معدنية قديمة ينظر إلى المارة في الشارع الرئيسي للمدينة القديمة والعديد منهم يبقون في المقهى، لكن الكاتب لا يعرفهم جميعا. ويقول بطريقة عابرة: "إن رجال المباحث الذين يعملون مع المخابرات متواجدين في كل مكان" وهو شيء واضح بالنسبة له مثل وضوح الشمس. ويعد خالد خليفة من مشاهير الروائيين وكتّاب سيناريوهات المسلسلات التلفازية في سوريا والعالم العربي، مثله في ذلك مثل نهاد سيريس. إن مسلسلات التلفاز تكفل له نفقات الحياة، أما كتابة الروايات فلا يكاد أحد يستطيع العيش منها في العالم العربي. وروايته الحديثة تم ترجمتها الآن إلى الإيطالية وسوف تُنشر العام القادم باللغة الفرنسية. وعلى الرغم من أي حظر فالقارئ يجد الكتب في كل مكان.

سوزانه شاندا
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

فرض الرقابة على الصحافة الالكترونية في سوريا:
"جهاز المخابرات شريك أسرة التحرير"
لا تؤثِّر الدولة في سوريا على وسائل الإعلام وحسب، بل تحاول أيضًا وبشكل متزايد مراقبة شبكة الانترنت وفرض سيطرتها عليها؛ حيث يتحتَّم على مَنْ يستخدم في سوريا مقاهي الإنترنت أن يبرز أولاً بطاقة هويته وأن يسجِّل بياناته عند مدخل المقهى. كريستين هيلبرغ تلقي الضوء على هذا النوع من الرقابة في سوريا.

برهان غليون:
"الديمقراطية العربية المنتظرة لم تولد بعد"
المفكر برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، يتحدث لقنطرة عن الإصلاحات السياسية، والتطورات الديمقراطية في العالم العربي،ومستقبل الإصلاحات والديمقراطية في سوريا.

سوريا تتحرك ببطء نحو نظام الإقتصاد الحر:
في انتظار الإصلاح الشامل
تشهد سوريا بعض الإصلاحات الإقتصادية المحدودة. ولكن هذه الإصلاحات الهادفة الى ايقاف الإنهيار تسير بخطى بطيئة ولا تمس سوى رواسب متآكلة خلّفها النظام الاشتراكي الذي تخضع البلاد له منذ 40 عاما. مقال كتبته غابرييله كيلر.