بوتين وحماية ظهر الأسد - الغايات تقزّم الخلافات!
بين جميع حلفائه، يُدرك النظام السوري أن روسيا هي أهم من وقف إلى جانبه، خاصة لطبيعة الأدوات الديبلوماسية والعسكرية التي تتوّفر عليها موسكو مقارنة بالحليف الإيراني، إذ أن استمرار بشار الأسد في منصبه يعود بشكل كبير للدعم الذي تلقاه من فلاديمير بوتين الحريص جداً على استمرار علاقة تاريخية تجمع بلاده بسوريا. بل إن بوتين بات يرى في هذا البلد ساحة مهمة تمكنه من ضرب عدة عصافير عسكرية وسياسية واقتصادية واستراتيجية بحجر واحد.
إسقاط المعارضة السورية المسلحة للمقاتلة الروسية "سوخوي 25"، وإعلان موسكو نتيجة لذلك تنفيذ ضربات دقيقة ضد من وصفتهم بالإرهابيين، في إشارة إلى "هيئة تحرير الشام"، التي أعلنت مسؤوليتها عن إسقاط المقاتلة في ريف إدلب السوري، ليس سوى فصل جديد من الحضور الروسي القوي في سوريا. ويأتي هذا الحدث ليؤكد أن الإعلان السابق لفلاديمير بوتين بسحب جزء من قواته من سوريا لم يعنِ تخلّي موسكو عن نفوذها العسكري في هذا البلد، وهي الحقيقة التي أكدها بوتين سابقا بقوله إن "ما تبقى من قوات روسيا في قواعدها بسوريا كافٍ لتنفيذ ضربات مدمرة للإرهابيين".
أهداف جيوسياسية
مُنيت موسكو بشبه عزلة عام 2014 إثر فرض عقوبات دولية عليها بسبب سيطرتها على شبه جزيرة القرم الأوكرانية، إذ توترت علاقتها أكثر بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، زاد من هذه العزلة اتهامها باحتلال غير مباشر لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية منذ عام 2008. لذلك كانت سوريا نقطة مهمة لبوتين لأجل ترميم نفوذه بلده من جديد وإعادة التوازن إلى الدور الروسي في العالم، وهو معطى نجح فيه الرئيس الروسي بشكل كبير؛ إذ تلعب موسكو حالياً دوراً ديبلوماسياً كبيراً في الموضوع السوري، من أكبر تجلياته مؤتمر سوتشي الذي نظمته موسكو ونجحت من خلاله في إعلاء صوت النظام السوري، بل إنها دفعت نحو استبعاد أيّ نقاش في المؤتمر يخصّ مستقبل بشار الأسد.
وفي هذا الإطار، هناك من بات يعتقد أن بوتين يرغب في إحياء نوع من القطبية مع الولايات المتحدة وحلفائها كما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة، وليست سوريا سوى طريق لموسكو حتى تحقق هذه المسعى، فقد عرقلت روسيا أيّ مسعى لإسقاط النظام السوري واستخدمت حق الفيتو لنقض أيّ مشروع يسير في هذا الاتجاه، كما استفادت من تخبط الخارجية الأمريكية في عهد ترامب لفتح بوابات جديدة في الشرق الأوسط، كمصر عبر اتفاق المفاعل النووي، وليبيا عبر دعم خليفة حفتر.
تبدأ أهمية سوريا من مركزها الجغرافي الاستراتيجي الذي يجعل حدودها مع خمس دول، بينها إسرائيل وتركيا، زيادة على نافذة بحرية، ويُسيل هذا المركز لعاب الكثير من القوى الدولية والإقليمية الراغبة في نفوذ بمنطقة الشرق الأوسط. لكن، وعكس الولايات المتحدة وتركيا والكثير من القوى في المنطقة، كان دخول موسكو على خط الحرب السورية أكثر سَلاسة، مُستندة في ذلك على علاقات تاريخية ممتدة مع النظام السوري، منذ عهد الاتحاد السوفياتي، فقد اعتُبرت سوريا على الدوام إحدى البوابات الاشتراكية القوية في المنطقة العربية.
يؤكد سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة العين للعلوم والتكنولوجيا بأبوظبي، في حديثه معنا، أن الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط بالنسبة لكل القوى، تعدّ من أسباب الإصرار الروسي على دعم نظام الأسد، خاصة وأن موسكو باتت تعيش تهديداً في حدودها الغربية، بسبب إمكانية انضمام دول شرق أوروبا، المحسوبة سابقاً على الاتحاد السوفياتي، إلى الحلف الأطلسي، الأمر الذي دفع روسيا إلى التركيز على الشرق الأوسط كورقة للضغط على القوى المناوئة لها.
وفضلاً عن ذلك، يردف الصديقي، وضع بوتين سياسة واضحة قوامها عدم التخلي عن الأصدقاء لأنه يدرك أن قيامه بهذه الخطوة سيجعله يفقد أصدقاء آخرين، لذلك صمدت موسكو أمام كل المغريات التي قدمت لها للحد من تعاونها الاقتصادي مع إيران".
غنائم عسكرية واقتصادية
حوّلت موسكو هذه العلاقات إلى تعاون من أعلى طراز، خاصة عندما ركز النظام السوري في شراء أسلحته على المصنع الروسي، ممّا جعل موسكو تغنم أرباحاً كبيرة من نظام قائم على تشديد القبضة العسكرية وتقوية القدرات الأمنية. ومن أكبر الأدلة على ذلك القاعدة العسكرية الروسية في ميناء طرطوس بسوريا التي تعدّ النقطة الوحيدة في البحر المتوسط الخاضعة لنفوذ روسي.
كما تُرجمت هذه العلاقات إلى تعاون اقتصادي يؤكده حجم الاستثمارات الروسية في سوريا، فضلاً عن تدريب روسيا للآلاف من الكفاءات السورية في جامعاتها ومعاهدها.
وبناء على ما سبق استخدم بوتين ذريعة الحرب على الإرهاب، خاصة تنظيم "الدولة الإسلامية"، حتى يمنح قبلة الحياة لنظام فقد السيطرة على الكثير من أراضي سوريا، وكان مهدداً أكثر من مرة بالسقوط.
يقول سعيد الصديقي إن هناك رغبة روسية واضحة بالتحكم في سوق الغاز العالمية الذي يتوقع الخبير أن يكون مستقبلاً أحد أهم أدوات التأثير على العلاقات الدولية: "تعي روسيا أن سوريا قد تشكل ممراً للغاز القادم من إيران والمتجه إلى أوروبا، وهي تعلم كذلك أن هناك رغبة أوربية بالبحث عن بديل للغاز الروسي، لذلك تريد تشديد قبضتها على هذه السوق".
خلاف مع طهران؟
من الناحية النظرية، تبدو موسكو متفقة مع طهران ودمشق في دعم نظام الأسد، إذ يشكّل الثلاثي تحالفاً قوياً في وجه كل الخطط الرامية لإزاحة الأسد، لكن في التفاصيل، هناك الكثير من نقاط الخلاف. يشير تحليل لألكيس فاتانكا بمجلة "فورين بوليسي" أن هناك خلافاً داخلياً في إيران بين الحرس الثوري والرئيس حسن روحاني حول دورهم في سوريا، ففي الوقت الذي يظهر فيه روحاني أكثر انفتاحاً لتسوية سياسية متعددة الأطراف، في موقف شبيه بموقف بوتين، يرغب الحرس الثوري، الذي له القرار الأكبر فيما يخصّ الموضوع السوري، في مأسسة ميلشياته داخل سوريا بشكل يجعلها مشابهة لحزب الله في لبنان، حتى تكون أدوات دائمة لنفوذ إيران، وهو أمر لا يروق لموسكو.
يعزز المحلل السياسي حسين عبد العزيز، في مقال على الجزيرة.نت، الفكرة، ويقول إن هناك معالم أخرى للخلاف بين إيران وطهران، تبدأ من طبيعة نظرتي النظامين للأزمة السورية. إذ تنطلق موسكو في تدخلها من معادلة دولية واسعة، بينما تطغى على طهران الحسابات الطائفية الإقليمية، وفق رأيه. وقد تجسد هذا التباين في الواقع العسكري؛ إذ تبقى موسكو أكثر مرونة في التعامل مع فصائل المعارضة السورية من طريقة التعامل الإيرانية. ويمضي المحلل أبعد عندما يقول إن موسكو ترى أن الحوار بين النظام والمعارضة السلمية هو الحل للأزمة، بينما تتبنى إيران رؤية النظام السوري بشكل كامل، لأنها تعي أنه من دون بشار الأسد، فنفوذها سينتهي في سوريا عكس روسيا التي ما يهمها أكثر هو استمرار المؤسسة العسكرية السورية أكثر من شخص الأسد.
غير أن سعيد الصديقي يرى أن هناك تطابقاً في وجهات النظر بين طهران وموسكو ودمشق على المدى القريب: "هناك تكامل بين الأطراف الثلاثة بضرورة استمرار الأسد وضرورة محاربة وإضعاف قوى المعارضة". أما على المدى البعيد، يردف الصديقي، فـ"هناك اختلافات في الأهداف، خاصة للرؤية الاستراتيجية الشاملة التي تتبناها موسكو، لكن هذه الاختلافات في وجهات النظر لا تصل لدرجة التناقض، بل إن قوة العلاقات التاريخية بين الأطراف الثلاثة، سيجعلها تجد قواسم مشتركة حتى تقلّل من مساحة الاختلاف بينها مستقبلاً".
الكاتب: إسماعيل عزام