حياة في سبيل الجهاد
اعتقل في تركيا في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني يوسف بولات البالغ 29 عاما من العمر، الذي يعتبر مدبر الاعتداءات التي وقعت في اسطنبول. وقد دلت التحقيقات بوضوح على تورط جماعتين إسلاميتين في تلك العمليات وهما أولا جماعة محلية محدودة الأهمية تسمى "جبهة المناضلين من أجل الشرق الإسلامي الكبير" التي مضى 10 أعوام على تأسيسها، وثانيا القاعدة وهي بمثابة الجناح الدولي للإرهاب التابع للحركة الإسلامية. والظاهر أن كل منفذي العمليات تقريبا من الأتراك.
ما هي العلاقة بين الإرهاب المحلي والعالمي؟ وما هي الأسباب التي دفعت شبابا متطرفين مسلمين في شتى بقاع العالم إلى الانضباط في صفوف حركة تتبنى كحال القاعدة فكرة عالمية؟
يعود ذلك لكون الصفة الأساسية التي تتسم بها القاعدة ليست في المقام الأول صفة المنظمة "الإرهابية" التي يمولها ويسيّرها أسامة بن لادن بل لكونها تتبنى فكرة ثابتة معينة. ويبدو أن هناك في تركيا أيضا تربة صالحة وإن كانت صغيرة لتبني هذه الفكرة.
عندما أسس بن لادن عام 1988مكتبا لتجنيد المتطوعين للكفاح ضد الغزو السوفييتي في أفغانستان، كانت القاعدة لا تعدو كونها مجموعة من المحاربين المتدينين المؤمنين برسالة ما والذين عمدوا إلى استخدام لغة إسلامية ذات طابع ميثولوجي.
وعندما أعلن بن لادن نداءه الشهير والمشبوه في آن واحد في فبراير 1998 بهدف إقامة "جبهة إسلامية عالمية لمحاربة اليهود والصليبيين"، اتضح بأنه كان يرمي إلى تحويل منظومته المتفرقة الهيكل إلى تنظيم ثابت متين. ولكن قلة قليلة من جماعته دعمت فكرة إكساب الحركة طابع المركزية. فلم يتبقى من ذلك سوى الفكرة وحدها التي استخدمت بمثابة غطاء شرعي للعمليات التي وقعت منذ عدة سنوات بصورة متفرقة ولكن دورية وهزّت العالم كله.
تحول جذري للحركات الإسلامية
وسواء كان وراء القاعدة شبكة أعمال أو مثل عليا أو أفكار، فإنها في جميع الأحوال تعكس التحول الجذري الذي طرأ على الحركة الإسلامية منذ الثمانينيات. وتعود أسباب جعل اسم جماعة بن لادن يصبح رمزا لهذا التوجه الجديد إلى الهجمات التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر 2001. هذه الصيغة الجديدة للعمل الإرهابي أو تحديدا "بروباغندا العمل الناشط" نجحت في تعبئة الشباب المسلم الذي انفصل عن نهج الحركات الإسلامية التقليدية كحركة الإخوان المسلمين في مصر.
وهناك قواسم مشتركة بين هذه المجموعات المتفرقة التي نشأت في العديد من البلدان الإسلامية ومنها تمجيدها في أغلب الحالات لزعيم محلي ما واعتباره بطلا لا يتزعزع عن أفكاره بالإضافة إلى أنها كلها تعتبر انتماءها للإسلام قضية وجود مصيري. فهذه الحركات لم تعد تتبع الاستراتيجية الإسلامية القديمة التي كانت تهدف إلى تحقيق فكرة الأمة الإسلامية بل أصبحت تستشعر وجودها على أنه تعبير عن الإيمان المطلق بالدين الإسلامي.
وهنا يشكل مفهوم "الجهاد" شعارا لطريقة حياة مبنية على المبادىء. فأنصار هذا النهج الجديد لا يفسرون إسلاميتهم من خلال ممارسة الشعائر الدينية وحدها، بل في المقام الأول من خلال مطابقة مصيرهم الشخصي بفهمهم وإدراكهم للإسلام. ومن بين خصومهم الاتحادات الإسلامية التقليدية التي يتهمونها بالتحول إلى محض أحزاب تؤمن بالقيم المحافظة لا أكثر.
من أمثلة ذلك الحزب الحاكم اليوم في تركيا الذي أثبت نجاحه في عملية الانعطاف السياسي. من الخصوم الآخرين المثقفون الإسلاميون الذين يوصموا ب "الديموقراطيين" من قبيل تدنيس موقعهم. تأتي بالإضافة إلى ذلك كل رموز الدولة التي يعتبرها أنصار النهج الجديد مؤسسات "معادية للإسلام".
الانفصال عن جيل الأباء
التيار المحافظ التقليدي داخل الحركة الإسلامية يجسده بالصورة الرئيسية جيل الآباء الذين شهدوا الإخفاق السياسي للأطوبيات الاجتماعية في الثمانينيات التي ظهرت نتيجة قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. فلا هذه الحركة الإسلامية هناك ولا في البلدان العربية أدت إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسكان.
ولاحظ جيل الأبناء الذين ترعرعوا في ظل تربية متزمتة بأن هذا النمط التربوي لم يخلق لهم آفاقا لحياتهم الوظيفية مستقبلا. وقد انتقدت أقلية متطرفة منهم جيل الآباء وانفصلت عنه رمزيا من خلال تبنيها لما سمي "الحياة في ظل الإسلام". وشكلت مواقع مثل أفغانستان والبوسنة وشمال القوقاز أهدافا لتطبيق هذا النمط المنشود من الحياة.
بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبحت القاعدة رمزا لهذه الفكرة وإن لم يدل ذلك بالضرورة على وجود علاقة تنظيمية في هذا الصدد. لكن الاتصالات كانت وما زالت قائمة بين الطرفين. فالكثيرون من مبعوثي بن لادن والمقربين منه استغلوا هذا الظرف محاولة منهم في الاتصال بمثل هؤلاء "المجاهدين" الشباب وتشجيعهم على القيام بعمليات ناشطة. وهنا شكل الزعماء المحليون حلقة وصل بين الطرفين وربما حثوا بعض هؤلاء الشباب على القيام ب"عمليات عظيمة" تدل على الترابط الوجودي بين حياتهم وبين إدراكهم للإسلام.
كفاح عالمي
وعلى عكس الحال لدى الإسلاميين التقليديين لا يعتقد رواد حركة الجهاد الجديدة بضرورة فرض معايير اجتماعية جديدة ترافق إنشاء النظام الإسلامي، بل يدركون بأنهم بأنفسهم أدوات لتكريس المطامح والرغبات المصبوغة إسلاميا، تلك الرغبات التي تعطيهم شرعية "القيام بالعمل الناشط".
هنا تختلط عناصر عالمية بأخرى محلية. فالمجاهدون يعملون في الحقل العالمي إدراكا منهم بأنهم يجتازون كفاحا عالميا بين ما هو كائن (الإسلام) وبين ما هو غير كائن (عالم الكفر)، كما أنهم يعتقدون بأن هذا الكفاح قائم مبدئيا في كل أنحاء العالم. أما على المستوى المحلي فإنهم ينشطون قناعة منهم بأن البيئة التي يعيشون فيها في حاجة إلى الطهارة والعفة.
بوسع المرء أن يتعامل مع هذين المستويين معا. ولكن في أغلب الحالات يوجد خلاف بين المجاهدين الذين يتخطون النطاق القومي وبين المجاهدين الناشطين محليا، كما أن العلاقة بينهم لا تتسم دوما بالسلم والتآخي.
أندونيسيا والمغرب
الحال في إندونيسيا كان خلاف ذلك. فقد التفت جماعة صغيرة من المجاهدين الذين شاركوا من بعد في الاعتداءات الواقعة في بالي في أكتوبر 2002، حول واعظ قروي يدعى علي غوفرون الملقب ب "مخلص". هذه الجماعة المحلية تم الاتصال بها من قبل مبعوث ينتمي إلى القاعدة.
هناك ارتباط مثيل في حالة المغرب. فالاعتداءات الخمسة التي وقعت في الدار البيضاء باستخدام القنابل في 16 مايو 2003 قامت بها جماعة مكونة من 14 شابا اعتبروا الواعظ المعتقل ملودي ذكريا رمزا بطوليا عظيما لهم.
معظم هؤلاء الشباب نشأوا في ضاحية سيدي مؤمن وانخرطوا هناك في صفوف عصابة للشباب. وقد سبق أن اتجهت الأنظار نحو هذه الجماعة عندما عمد أفرادها من خلال استخدام القوة إلى منع زوار المقاهي من تناول المشروبات الكحولية. وقد اقتصر نشاط هذه الجماعة على الحي الذي كان أعضاؤها يسكنون فيه في الدار البيضاء، إلى أن طل عليهم مبعوث زعم بأنه يزور المدينة بتكليف من بن لادن سعيا لتجنيد مجاهدين ناشطين. والظاهر أن مهمته كانت مكللة بالنجاح ، فسرعان ما اتفقت الجماعة على القيام بالأعمال الانتحارية الجماعية.
قد تختلف إلى حد كبير مواصفات الأجواء الاجتماعية التي تفرز الأشخاص المؤهلين لدور المجاهدين، لكن الفكرة التي تتبناها القاعدة تتطلب تعبئة شباب يرون مصيرهم ووجودهم متطابقين تماما مع "الإسلام" بمعني أن تكون حياتهم مرادفة للإسلام. ولا توجد إلا قلة قليلة من الناس على استعداد لنبذ فرديتها على هذا النحو الراديكالي الذي تتسم به صفة المجاهدين الناشطين في إطار المجموعة. ويعتمد اتخاذ هذا القرار على نوعية سيرة حياة كل من هؤلاء الأشخاص.
نتيجة المشاكل الاجتماعية
أعطت أفكار القاعدة بعض الشباب المسلمين إمكانية إعادة تفسير التزعزع والتمزق اللذين طرأ على حياتهم في السابق، وذلك على نحو جذري. الجزء الأكبر من الشباب في المجتمعات الإسلامية سلك طرقا أخرى للتعامل مع فشل الحركات الإسلامية التقليدية.أما في بلدان أخرى كالعراق والسعودية وأفغانستان وباكستان فقد أفرزت تفاعلات اجتماعية وسياسية وقعت هناك لا مجرد مؤشرات عابرة للتزعزع والتمزق بل مشاكل اجتماعية بمعنى هذا المفهوم.
تختلف أسباب ذلك حسب الدولة المعنية أو المجتمع اختلافا كبيرا. في السعودية أصبح الطريق نحو تقلد المناصب في المؤسسات الإسلامية صعبا يوما بعد الآخر وذلك بسبب التحولات العميقة التي وقعت. هذا يثير غضب الأكاديميين الشباب الذين درسوا علوم الإسلام كمادتي الدين والشريعة. وهنا تشكل أفكار القاعدة بالنسبة لهم إطارا مناسبا للبحث والتفسير.
في العراق كان لاندلاع الحرب وانهيار العهد القديم وقع جسيم في نفوس عدد كبير من الشباب. في هذه الحالة أيضا فإن القاعدة قد يمكنها أن توفّر خيارات جديدة للخروج من مأزق التمزق. في اللحظات الدقيقة الصعبة يمكن تعبئة خيارات التفسير الجديدة من أجل التطبيق الراديكالي لمبدأ القاعدة القائل "ذهابي إلى طريق الجهاد يعني أنني قد حققت ذاتي". وهذا قد يصل في بعض الحالات حتى إلى درجة الاستعداد للتضحية بالروح "كدرجة قصوى من تجربة تحقيق الذات بالمفهوم الإسلامي". لكن الطريق الفعلي نحو الأعمال الانتحارية المنسقة يأخذ مدى زمنيا طويلا.
الحياة في سبيل الجهاد
في الكثير من الحالات توجه الشباب الذين أخذوا على عاتقهم قرار "الحياة في سبيل الجهاد" إلى المناطق المتوترة الراهنة ولا سيما كشمير وأفغانستان والشيشان. من هناك يعمدون إلى نقل طاقتهم النضالية إلى مواطنهم حيث قد يجدون فيها أشخاصا يفكرون بذات معاييرهم ونظراتهم وينوون هم أيضا تكريس فكرة "الحياة في سبيل الجهاد". بمعنى أن الابتعاد عن المحيط المباشر تليه مرحلة العودة إلى حظيرة الجو الاجتماعي المألوف أي المحلي. وهنا يدخل العمل الإرهابي في حيز الإمكان.
فمن الممكن أن المجموعة الإرهابية التي قامت بعملياتها في اسطنبول في ظل الجو المحلي المألوف لها قد نشطت قبل ذلك في أفغانستان أو باكستان في إطار فكرة "الحياة في سبيل الجهاد"، وذلك بمساندة شبكة ناشطي القاعدة.
مثل هذا التمزق المهيمن على سير حياة الناشطين المسلمين يزيد درجة تجاوبها مع أفكار القاعدة. مع أن هذا النمط ليس بالضرورة الخيار المهيمن أو الأكثر شعبية في العالم الإسلامي، إلا أن هذه الفكرة التي نشرتها القاعدة ستبقى لفترة طويلة خيارا واردا طالما لم تتواجد خيارات بديلة للتغلب على معضلة التزعزع والتمزق البيوغرافي.
صدر المقال في صحيفة تاغستسايتونغ 2/12/2003
راينهارد شولتسه أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة بيرن/سويسرا. ألف كتابا هاما حول "تاريخ العالم الإسلامي في القرن العشرين".
الترجمة عن الألمانية عارف حجاج