نيكولاس بيرغ يدفع ثمن جرائم سجن أبو غريب
فيما كنا ننظر إلى المشهد التلفزيوني، ذاك الذي كان الشاب المذعن يستمع فيه، بلغة لا يفهمها، إلى حكم جلاديه بقتله، لم نستطع حماية أنفسنا من الرعب الذي كان يطبق عليه ويشلّه أو اننا لم نستطع أن نحمي أنفسنا من التخيل أننا هناك في مكانه، جالسين مذعنين، ومنتظرين تلك الحركة التي سيقوم بها ذلك الرجل الواقف في الوسط، الذي سيستل سيفه وينزل به على ضحيته.
كنا نضع أنفسنا في مكان الضحية، الشاب الأميركي، مذعورين مثله من جلاديه. لكننا، في صباح اليوم التالي، حين صدرت الصحف الأميركية أو البريطانية مكتفية بكلمة واحدة للعنوان العريض الأول: Savages شعرنا بأننا، على الرغم من خوفنا ذاك وسخطنا، لم نبّرأ، أو لم نستثن، من تلك الإدانة ـ الشتيمة.
ذاك اننا، حتى وإن كنا لا نعرف أي وجوه تختفي تحت تلك الأقنعة، كان علينا أن ندفع دائماً أثمان ما تفعله. ما جرى في 11 أيلول بالولايات المتحدة أفسد حياة مئات آلاف المهاجرين منا، بل الملايين، الذين كان عليهم أن يتحملوا ذلك الجزء من الإدانة ـ الشتيمة. انفجارات القطارات في اسبانيا أدت الى الشيء نفسه . أولئك الذين لا نعرفهم، والذين لا نشاهدهم ابداً في حياتنا، باتوا، رغماً عنا، يمثلوننا جميعاً.
ونحن لا نملك حتى أن نحتج على ذلك. حين تعلن أحد الأحزاب استنكاره لذبح الشاب، نيكولاس بيرغ، نقول إن في ذلك شجاعة أو نقول إن موقف الحزب ذاك صحيح ومتميز، هكذا كأن الناس، إزاء جريمة على هذا القدر من البشاعة، تملك أن تقف غير هذا الموقف.
لقد أخافنا مشهد الذبح لأننا، على ما بتنا معتادين، نخاف من الشيء عند حدوثه للمرة الأولى. حين نقول لبعضنا بعضاً، نحن اللبنانيون، اننا، طوال حربنا الأهلية، لم نشاهد ما يحمل هذا القدر من العنف، وانهم في العراق بدأوا من أبعد مما انتهينا نحن، نروح نجيب بعضنا بعضاً انه ربما كان قد حصل عندنا ما يحصل الآن هناك، لكن الفارق هو أن الأولين، في لبنان، لم يجرؤوا على تصوير ذلك وبثه على التلفزيونات.
أن يعرض مرتكب الجريمة جريمته على مشاهدين فهذا يعني ذهاباً إلى أعلى في درجة العنف. لم يسبق لنا، على رغم سنوات الحروب المتعاقبة علينا، أن رأينا ما نبدأ نراه الآن. أقول »نبدأ« لأن واحد منا بات يعرف، من الحدس لا من التحليل، أن ما نراه الآن، على قدر الرعب الذي فيه، ليس إلا بداية لما هو أكثر رعبا.
بتنا نعرف ذلك بالحدس، أو بالخوف الذي يتسرب فينا مهتدياً بنفسه إلى اسبابه. الخوف الذي يجعلنا نعتاد على ما نعرفه منه، على ما رأيناه منه وعرفناه. ذاك يتعلق أيضاً بشعورنا تجاه ما نشاهده. حين بدأت تظهر صور تعذيب المساجين في سجن أبو غريب كنا نحن، في بلداننا، ولنعترف بذلك، اقل احساساًَ من سوانا بفظاعة المشاهد.
الزعيم الكردي جلال الطالباني قال ذلك صراحة منذ أن ظهرت الصور الأولى: »في أيام صدام حسين«، قال، »كانت تجري في السجن أمور افظع من هذه«. صحيح أنه كان يقصد، بكلامه ذاك، أن يوصل كلاماً في السياسة، لكنه، من ناحية أخرى، كان يقول ما هو حقيقي. وربما قال كثيرون ذلك بعد الطالباني. أحد الشعراء العراقيين ممن لا يزالون مقيمين في المنفى قال إن الهول الذي شهده سجن أبو غريب في تاريخه بات معششاً بين جدرانه إلى حد انه، بنفسه، يرشد السجانين إلى كيفية معاملة سجنائهم.
ما قاله الطالباني، وما قاله الشاعر المنفي من بعده، يدفعان إلى القبول وإلى الاستغراب معاً. القولان، شأنهما شأن أقوال كثيرة تتردد بيننا، يصدران من درجة الخوف أو التعود على الخوف، التي بتنا فيها. أي اننا نعيش الفظاعة الجديدة من موقع الفظاعة القديمة التي وُضعنا فيها. كأننا نحتاج إلى فظاعة أكبر من تلك التي تؤثر في سوانا.
أي انه كان على كل واحد منا أن يبذل جهداً أكبر ليضع نفسه في مكان أولئك الرجال الذين عُرّوا من ثيابهم وراحوا يخفون »عوراتهم« بأن يغطوها بانكماش انحاء من أجسامهم العارية فوقها. كان على واحدنا أن يبذل جهداً لكي يشعر بقدر الذل الذي كان فيه ذلك الرجل العاري المطوّق عنقه بطوق كلب تجره تلك المجنّدة التي سبق لها، في صور أخرى، ان راحت تلهو بأن تقلّد، بيدها الفارغة، اطلاق النار على أعضاء الرجال المكشوفة.
كان على واحدنا ان يبذل جهداً ليتخيل نفسه واحداً من أولئك الرجال الذي كوّموا، عراة أيضاً، ليشكلوا »هرماً« من أجسام مجموعة مثلما تجمع النفايات المستهلكة. الأجسام التي اختيرت، من بين السجناء، لتكون قوية موفورة الصحة، ولتكون في الوقت نفسه أجساماً مذلولة.
ذلك قدر من الكراهية الذي يعتمل في صدور المعذبين نحتاج إلى جهد أيضاً، لكي ندركه ونصل إلى قراره. الرجل الملثم، الواقف في الوسط بين صف الرجال الملثمين أيضاً، كان، في ظنه، يسعى إلى نصرتنا، إلى الانتقام لنا، حين استل سيفه ليقطع به رأس نيكولاس بيرغ.
مرة أخرى ينتصر أولئك الملثمون، بسبب مشاهد سجن أبو غريب، على ترددنا الذي لا نخلص منه الى استنتاج ما هو الأفضل، أو الأسوأ: صدام حسين أم الاحتلال الأميركي للعراق. أولئك الملثمون انتصر موقفهم مرة أخرى. ومرة أخرى لن نتمكن من أن ندين، بأصوات عالية، جريمة ذبح ذلك الشاب ورفع رأسه على الملأ في مشهد أخير عرفت القنوات التلفزيونية مدى فظاعته وادانته فامتنعت عن عرضه على مشاهديها.
أما في ما يتعلق بأولئك السجناء العراة، فنحسب ان تصريحات الاعتذار من جورج بوش ودونالد رامسفيلد وبعض الجنرالات باتت أهم من الجريمة، أو الجرائم، نفسها. »لقد انتقلت المسألة إلى هناك، وهي صارت شأناً أميركياً«، قال صديق صحافي في بيروت. و هي ستبقى هناك حيث قد تتحول ربما إلى واحدة من الفضائح التي اسقطت رؤساء أو أوشكت أن تسقط رؤساء.
لقد حدثت هنا، في سجن أبو غريب، لكن صداها يتردد هناك. وهي، هناك، ستحفظ وستصير ملفاً في أرشيف التنازع السياسي. أما في العراق، المحيط بسجن أبو غريب، فسيترك ذلك غير مفهوم في ذاكرات فردية متفرقة ومتضعضعة.
أي أن مرتكبي جرائم التعذيب تلك سينجون بفعلتهم. كل ذلك الندم والأسف والاعتذار يقابله ذلك القدر من البخل في اتخاذ الاجراءات. الرد القانوني على تلك الفظاعات، وبعد أيام من الكلام عن هولها، أعلن عن ارسال جنديين اثنين الى المحاكمة وربما يلحق بهما اثنان أو ثلاثة آخرون.
ذاك كفيل بأن ينهي الجانب القانوني، والأخلاقي أيضاً، من الملف. انها ديموقراطية، نقول هنا، متأسفين كيف أن الرجال الملثمين، ذابحي الشاب الذي وضع كل منا نفسه في مكانه، انتقموا لنا بالطريقة التي لا يقل كرهنا لها عن كرهنا للجرائم نفسها. انهم يحاربون عنا، نحن ضحايا الحروب والمحاربين على اختلافهم.
بقلم حسن داوود، كاتب وصحفي لبناني
نشر المقال بالاتفاق مع الكاتب