لماذا فشل حزب العمال الكردستاني؟

رجل يلقي أسلحة في النار. (Foto: Picture Alliance/Anadolu | Stringer)
حرق رمزي: أعضاء حزب العمال الكردستاني في شمال العراق دمروا أول مخزونات الأسلحة في يوليو/تموز 2025. (Photo: Picture Alliance/Anadolu | Stringer)

على مدار عقود من الصراع المسلح مع الدولة التركية، سعى حزب العمال الكردستاني إلى تحقيق أهداف سياسية وقومية متعددة، إلا أنه لم يحقق أيًا منها. واليوم، تجد الحركة القومية ذات الجذور الماركسية نفسها أمام منعطف حاسم، قد ينذر حتى بزوالها.

الكاتبة ، الكاتب: هاله حسيني رامندي

أحرق مقاتلو حزب العمال الكردستاني أسلحتهم في يوليو/تموز الجاري، خلال احتفال رمزي أقيم في الجزء الكردي من العراق، في خطوة لاقت صدى واسعًا وانتشرت صورها حول العالم. وكان زعيم الحزب، القابع في السجن منذ عقود، عبد الله أوجلان، قد دعا سابقًا إلى إنهاء الكفاح المسلح ونزع سلاح التنظيم.

وعزّزت دعوة أوجلان التاريخية في مايو/أيار الآمال في إنهاء هذا الصراع المستمر منذ عقود، واعتُبر اقتراحه بحلّ حزب العمال الكردستاني نقطة تحوّل مفصلية في مشهد الميليشيات الكردية المنتشرة في أنحاء الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن التطورات الأخيرة لا تشير إلى نهاية وشيكة للحزب، إلا أنها تعكس إدراك أوجلان لواقع المعادلة السياسية، وسعيه على ما يبدو إلى ضمان بقاء الحركة عبر الوسائل السلمية، متخليًا بذلك عن نهجه الأيديولوجي السابق.

تأسّس حزب العمال الكردستاني عام 1978 تحت قيادة أوجلان كحركة شيوعية قومية ردًا على عقود من القمع السياسي والثقافي للشعب الكردي في تركيا، وجمع الحزب بين المعتقدات الماركسية والقومية الكردية، بهدف إقامة دولة مستقلة.  

في ذلك الوقت، كان من مصلحة الاتحاد السوفييتي زعزعة استقرار تركيا، نظرًا لكونها عضوًا في حلف شمال الأطلسي وتسيطر على مضيقي البوسفور والدردنيل، وهما معبران استراتيجيان شكّلا عقبة أمام تحركات البحرية السوفييتية.

وسرعان ما بدأ حزب العمال الكردستاني نضاله المسلح بعد سنوات قليلة من تأسيسه، في عام 1984 خلال حكم تورغوت أوزال. وكان أوزال، الذي تنحدر والدته من أصل كردي، أول رئيس حكومة تركي بينتقد علانية النزعة القومية المتطرفة التي تبنتها النخبة الحاكمة في أنقرة.

وقد تبنّى أوزال رؤية قائمة على التعددية، وسعى إلى إنهاء التمييز العرقي والديني في المجتمع التركي، كما أطلق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية. ومن الناحية العملية، أبدى أوزال، رغبة حقيقة لتفكيك الهياكل الاستبدادية، دعمًا لحرية التعبير، واقتصاد السوق، وتعزيز دور القطاع الخاص.

غير أن دعوة أوجلان للكفاح المسلح ضد الدولة التركية، لم تمنع تنفيذ هذه الإصلاحات فحسب، بل أجبر أوزال أيضًا - تحت ضغط الجيش والقوات الكمالية (نسبة كمال أتارتورك) - على التراجع للوراء، ووصف الهجمات المسلحة الأولى لحزب العمال الكردستاني بأنها من عمل "عصابة من قطاع الطرق"، وأطلق العنان للجيش في قمعه.  

كان هذا بمثابة بداية حربٍ دامت عقودًا، أودت بحياة ما يقرب من 40 ألف شخص، معظمهم من المدنيين الأكراد، وجُرح أكثر من 100 ألف شخص، عانى الكثير منهم من إعاقات دائمة، وأُحرقت أكثر من 200 قرية، وشُرد سكانها. 

اعتقد القادة الأوائل لحزب العمال الكردستاني أن الانتفاضة الناجحة في تركيا من شأنها أيضًا أن تحشد السكان الأكراد في سوريا وإيران والعراق وتمكن من إنشاء دولة كردستان موحدة ومستقلة ــ ولكن ذلك لم يكن سوى وهم. 

تراجع الأيديولوجية

وبإلقاء نظرة على الماضي، كان أوجلان ناشطًا شابًا في الأوساط اليسارية أوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت توجهاته الفكرية تغلب على انتمائه العرقي. في ذلك الوقت، كان لا يزال يرى نفسه جزءًا من الأمة التركية، بل وأطلق على ابنه اسم "عثمان"، وهو اسم تركي تقليدي.

ولكن بمضي الوقت، دفعه مزيج من فهم مشوّه للماركسية اللينينية، وتصورات قائمة على الهوية القومية إلى اتباع مسار مختلف، ابتعد فيه تدريجيًا عن انتمائه التركي السابق.

في هذه التوليفة الأيديولوجية، تصوّر أوجلان أن الطبقة العاملة الكردية قد تكون طليعة لثورة اجتماعية بروليتارية في تركيا، وتجاهل حقيقة أن المناطق الكردية زراعية على الأغلب، وأن البروليتاريا، بالمعنى الماركسي، لا تُشكّل سوى واحد بالمئة من سكانها. علاوة على ذلك، لم يكن أيٌّ من الأعضاء المؤسسين الخمسة والأربعين لحزب العمال الكردستاني من العمال فعليًا.

علاوة على ذلك، لم يُحدد أوجلان أبدًا بوضوح مكان دولة "كردستان" المنشودة؛ تارة، تحدث عن كردستان الكبرى التي ستضم جميع الأكراد في تركيا وسوريا والعراق وإيران ولبنان وأرمينيا وجمهورية أذربيجان السوفيتية آنذاك، بالإضافة إلى أكثر من مليوني عامل كردي في أوروبا الغربية. وتارة أخرى، اقتصرت رؤيته على بضع مقاطعات في جنوب شرق الأناضول، رغم أن جزءًا كبيرًا من أكراد تركيا قد هاجروا منذ زمن طويل إلى خارج هذه المنطقة.

وللهروب من هذه التناقضات، شدّد أوجلان على الطابع الطبقي السياسي لحزب العمال الكردستاني منذ عام 1978 فصاعدًا، وكان من المفترض أن يتولى العمال الأكراد قيادة البروليتاريا التركية بأكملها أن يضعوا نظامًا اشتراكيًا في الأناضول، ــ على غرار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917.

لكن هذا المنطق كان مليئًا أيضا بالتناقضات؛ إذا كان التركيز منصبًّا على الطبقة الاجتماعية، فلماذا هذا التصنيف العرقي؟ وإذا كان الهدف هو ثورة بروليتارية، فلماذا لا يتولى العمال الأتراك، الذين يشكلون أكثر من 95% من البروليتاريا، زمام المبادرة؟ 

علاوة على ذلك، تأثرت المنطقة الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية تأثرًا كبيرًا بجماعات دينية مثل النقشبندية والعلويين، وهي جماعات لم تكن لها صلة تُذكر بالرؤية العالمية الإلحادية الماركسية لحزب العمال الكردستاني، وكان من الواضح منذ البداية أن الدولة التركية لن تقبل بمثل هذا المشروع الانفصالي.

بعد ذلك، اقترح أوجلان حلاً فيدراليًا تقوم فيه جمهورية كردية مستقلة إلى جانب الجمهورية التركية، لكن هذه الخطة لم تلق استجابة تُذكر.

وقد أدى هذا في نهاية المطاف إلى توجه جديد مع مطلع الألفية الجديدة، الذي كان واضحًا بشكل خاص في مفهوم الكونفدرالية الديمقراطية الذي طوره أوجلان، وهي الفكرة التي طورها نظريًا بشكل متزايد منذ عام 1999.

ابتعد هذا النموذج عن الفهم الكلاسيكي للدولة وفقًا للماركسية اللينينية، وسعى بدلًا من ذلك إلى نظام اجتماعي شعبي ديمقراطي، متعدد الأعراق، ونسوي، يضع في جوهره الحكم الذاتي.

ومع ذلك، حتى هذا التوجه الجديد لم يُخفِ حقيقة أن حزب العمال الكردستاني لا يزال يواجه تحديات جسيمة، سواءً داخل المجتمع الكردي أو في علاقاته مع الدولة التركية والمجتمع الدولي. ويمكن أن يعزى فشله في نهاية المطاف إلى العوامل التالية: 

1. التفكك الأيديولوجي للحركات اليسارية

كان سوء الفهم الجوهري للعديد من الجماعات اليسارية هو التفسير المشوه لمفهوم "العدالة"، لا سيما في سياق استخدام العنف ضد المدنيين، وتحولت العديد من الجماعات من حركات شعبية إلى منظمات تسعى لتحقيق أهدافها بمنطق مكيافيلي، وحلّ منطق العنف القاسي محلّ المطالبة الأخلاقية بالعدالة. 

وقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر/كانون الأول 1991 نقطة تحول في هذا السياق، حيث كان أهم داعم أيديولوجي ومادي للجماعات اليسارية المسلحة حول العالم، ومع انهياره، فقدت العديد منها، بما فيها حزب العمال الكردستاني، أهم داعميها الأيديولوجيين.

كما كشف انهيار الاتحاد السوفييتي عن نقاط الضعف الجوهرية في النموذج الاجتماعي الشيوعي، فبدلًا من العدالة والمساواة، سادت الدكتاتورية والقمع وانعدام الكفاءة الاقتصادية.

في حالة حزب العمال الكردستاني، انتقد العديد من الأكراد أعماله العنيفة وتفجيراته في المناطق المدنية، معتبرين إياها غير مقبولة، فضلاً عن أن الدعم الاجتماعي لحزب العمال الكردستاني بين الأكراد تفاوت بشكل كبير من منطقة إلى أخرى بمضي الوقت.

وفي حين، اعترفت بعض قطاعات السكان بحزب العمال الكردستاني باعتباره الممثل الشرعي للمصالح الكردية، فقد نأت جهات كردية أخرى بنفسها عن حزب العمال الكردستاني بمرور الوقت ــ بما في ذلك حزب الشعوب الديمقراطي السابق ومنظمات المجتمع المدني المختلفة. 

2. الأكراد كورقة جيوسياسية

يُظهر تاريخ الشرق الأوسط أن الميليشيات الكردية اسُتغلت ثم تُركت دون رجعة، ورغم تاريخها الطويل من الاندماج في مجتمعات متعددة الأعراق، فقد استُخدم الأكراد تكتيكيًا من قِبل جهات إقليمية ودولية في لحظات حاسمة، دون بناء تحالفات حقيقية أو دعمٍ مستدام.

وفي ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، دعم شاه إيران المقاتلين الأكراد في شمال العراق للضغط على الحكومة البعثية في بغداد، المتحالفة بشكل وثيق مع الاتحاد السوفيتي، الذي أجبر العراق في نهاية المطاف على الاعتراف بالمطالبات الإقليمية الإيرانية على طول نهر شط العرب في اتفاقية الجزائر عام 1975. بعد ذلك بوقت قصير، أوقفت إيران دعمها للأكراد.

من جانبها، استخدم العراق، الميليشيات الكردية في وقت لاحق لزعزعة استقرار إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988)، ولكنها سرعان ما استعمل القوة الوحشية ضد نفس السكان الأكراد خلال حملة الأنفال بين عامي 1986 و1989.

كما دعمت إسرائيل، بالتعاون مع إيران، الأكراد العراقيين لمواجهة طموحات صدام حسين القومية العربية، إلا أن هذا الدعم توقف أيضًا بعد اتفاقية الجزائر.

وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تطور التعاون الاستراتيجي الوثيق بين إسرائيل وتركيا، دعمت خلاله إسرائيل الحكومة التركية في حربها ضد حزب العمال الكردستاني. وبحسب التقارير، كان الموساد وراء تعقب أوجلان وتسليمه إلى تركيا عام 1999.

ومع اندلاع الحرب السورية عام 2011، تغيرت التحالفات مجددًا، ولإضعاف نظام الأسد، دعمت إسرائيل والولايات المتحدة الميليشيات الكردية في سوريا، مثل قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، حليفة حزب العمال الكردستاني.

وقد أصبحت قوات سوريا الديمقراطية، التي تُشكّل وحدات حماية الشعب الكردية ركيزتها الأساسية، شريكًا للدول الغربية، لا سيما خلال الحرب ضد داعش. في هذا السياق، حظيت الحركة الكردية باعتراف وتضامن دوليين واسعين لأول مرة، سواءً لدورها العسكري أو لمعاناة المجموعات الكردية، وخاصةً الإيزيدية.

3. الواقع الجديد في الشرق الأوسط

يجب أيضًا يُفهم إعلان أوجلان نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في سياق التغيرات الجيوسياسية الجذرية، فالنظام العالمي الذي تأسس فيه حزب العمال الكردستاني لم يعد قائمًا، كما فقد الشرق الأوسط أهميته في السياسة الخارجية الأمريكية.

إذ فقد نظام الأسد السوري السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد خلال الحرب السورية وخاصة مع الانسحاب الأمريكي من سوريا في عام 2019، وخفضت الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل ملحوظ دعمهما لقوات سوريا الديمقراطية.

أما تركيا، التي كانت في البداية متسامحة إلى حدّ كبير مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ردّت بشن هجمات عسكرية مكثفة بسبب قرب هذه القوات من حزب العمال الكردستاني. الأمر الذي دفع "قسد" نفسها إلى تجنب أي علاقات نشطة مع حزب العمال الكردستاني لتفادي المزيد من الهجمات.

وفي شمال العراق، كانت واشنطن قد وضعت حدًا لدعمها للقوات الكردية عام 2017 برفضها القاطع استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان، وقد أوضح الحصار اللاحق للإقليم المتمتع بالحكم الذاتي من قِبل الحكومة المركزية في بغداد وإيران وتركيا أنه لا يمكن لأي حركة كردية تحقيق نجاح إقليمي دون موافقة القوى الإقليمية.

في غضون ذلك، تسعى حكومة إقليم شمال العراق جاهدةً إلى النأي بنفسها عن الجماعات الكردية المسلحة لضمان بقائها ككيان شبه مستقل، ولتجنب تعريض علاقاتها مع طهران للخطر، قيدّت أيضًا أنشطة حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، الفرع الإيراني لحزب العمال الكردستاني، الذي ينشط هذا الفرع بشكل رئيسي من شمال العراق، حيث يتعرض للقمع العسكري الإيراني.

وقد أدت الغارات الجوية التركية المنتظمة على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق إلى إدراك المزيد من الجهات الكردية أن الملاذات الآمنة للجماعات المسلحة تُشكل تهديدًا للمنطقة بأسرها، وهكذا، تغيّر ميزان القوى في الشرق الأوسط بشكل كبير على حساب الميليشيات الكردية.

حزب العمال الكردستاني كحركة سياسية؟

ربما أدرك عبد الله أوجلان الآن أن أيًا من الأطراف الإقليمية أو الدولية ليس لديه مصلحة دائمة في دعم الميليشيات الكردية وأن دعمهم لا يخدم عادة إلا أهدافًا قصيرة الأجل.

وفوق كل شيء، فإن تخلي الولايات المتحدة عن الأكراد السوريين في عام 2019، جعله يدرك أنه لا توجد تحالفات موثوقة بمجرد أن تتعرض المصالح الاستراتيجية ــ مثل العلاقات مع تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي ــ للخطر.

علاوة على ذلك، وبما أن الأسس الأيديولوجية لحزب العمال الكردستاني ــ الشيوعية والقومية الكردية ــ فقدت الكثير من زخمها، وبما أن القوات الكردية في سوريا والعراق تسعى بشكل متزايد إلى التكامل السياسي عوضًا عن المواجهة، فإن أوجلان يبدو الآن مستعدًا لتحويل حزب العمال الكردستاني إلى حركة سياسية.

يشير إعلانه الصادر في مايو/أيار 2025 إلى تحول مماثل في التفكير - بعيدًا عن الصراع المسلح، نحو الحوار والتكامل، وإذا طُبّق هذا بالفعل، فسيكون بمثابة نهاية لأحد أطول الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط.

 

النص مُترجم من الألمانية: م. تايلور

قنطرة ©