!القذافي ... ما بعد صدام حسين
أخيراً تنفس حاكم ليبيا العقيد القذافي الصعداء. فقد عَلتْ خشخشة الدولارات وسطوتها على كل ما عداها من مطالبات دولية بالكف عن الإرهاب، والقيام بإصلاحات جذرية في أكثر من ملف، والكف عن التجاوزات الخطيرة المتعلقة بحقوق الإنسان المنتهكة في ليبيا.
وبدا أن مليارات الدولارات كفيلة بغسل أكثر من عار: عار المجرم وعار الجريمة. إذ أُفتتحت بورصة التعويضات المالية الهائلة عن جرائم إسقاط الطائرة الأمريكية فوق لوكربي عام 1988 والطائرة الفرنسية"يوتا"عام 1989 وتفجير ملهى"لابيل"عام 1986في برلين الغربية.
وفُتحت خزائن القذافي، المنهوبة من الشعب الليبي الذي سيدفع لاحقاً، كما هي حاله منذ ثلاثة عقود، ثمناً مضاعفاً نتيجة لإيغال القذافي في الاستفراد به. ففحيح الكراهية الذي كان ديكتاتور ليبيا ينفثه في وجه الغرب أخذ يندحر، ليعلو خطاب مذل يتوسل رضى الغرب بأموال التعويضات الضخمة، ودعوة الشركات النفطية الغربية للاستثمار في الحقول الليبية بشروط تفضيلية.
هاهي أبواقه الإعلامية تجعل من تقدماته الذليلة تلك "انتصارات مظفرة"،كما كان الحال دائما مع كل معاركه الدونكيشوتيه التي لمئات المرات دحضها المنطق قبل أن يدحضها الواقع.
لقد اقتصر الحصار الدولي الذي فرض على ليبيا،بسبب لوكربي، على قطاع الطيران المدني وبعض القطاعات الأخرى، التجارية منها، فيما بقى قطاع النفط بمنأى عن الحصار. وبالتالي لم يشكل الحصار الدولي على النظام الحاكم في ليبيا ضغطا فعليا يجبر النظام على الامتثال (المبكر) للمطالب الغربية.
وهو عندما امتثل في النهاية، إنما فعل ذلك بسبب خوفه من أن يتكرر معه ما حدث لنظام صدام حسين. فقد شعر مبكرا ،منذ نهاية حرب الخليج الثانية 1990أن الأمريكيين لن يتركوه وشأنه. فقام بعد ممانعة طويلة، مقابل أن يتم التغاضي عن دوره الرئيسي في الجريمة، بتسليم المتهميْن في تفجير طائرة البانام الأمريكية فوق بلدة لوكربي العام 1988 ودفعَ تعويضات مالية هائلة.
أهي رؤية الجيش الأمريكي يُخرج صدام حسين من جحر الجرذ هي من جعلت القذافي يُصعق ويسارع إلى "التطوع" بالكشف عما لديه من معدات ومخططات بدائية لبرامج أسلحة دمار شامل وما إليها من وثائق سرية(وهنا مربط الفرس) تتضمن أسماء الجهات(دولا وشركات وأفرادا) التي تعاونت أو شاركت بشكل أو آخر في تطوير برامج "المشروع الليبي النووي والكيمائي والجرثومي" بغض النظر عن جديته من عدمها؟
ولكن من الرابح الفعلي في هذه اللعبة؟
بوش وبلير استخدما جبن القذافي لتعزيز مصداقيتهما السياسية في حربهما ضد الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل، وحظوظهما الانتخابية بالفوز بولاية جديدة. وأصحاب شركات النفط الأمريكية يفركون أيديهم متحفزين للعودة إلى منابع النفط الليبي المغري.
والليبيون عاجزون مرة أخرى عن ملاحقة ثرواتهم التي طالما بددها القذافي تغذية لأوهامه في"القيادة الأممية" التي لم تتحقق له حتى الآن! بينما الذي أصبح واقعا لا يختلف عليه اثنان هو عوز الليبيين وهدر ثروتهم في ظل حرص القذافي الدائم على تفادي وضع أي آلية شرعية تقوم بالمحافظة على المال العام، كما أنه لا توجد في جماهيرية العقيد مرجعية أخلاقية تؤسس لـ قيم الوطنية وشرف الدولة وكرامة الأمة، فهذه لوغاريتمات ليست لها علاقة بأولويات نظامه الحاكم ولا تشكل لديه قيمة تذكر.
من الخاسر إذن؟ أهي العدالة،التي جرى العبث بها على نحو مخزٍ،بحيث سُمح للمجرم الرئيسي بالإفلات من العقاب على جريمته، واقتصر الأمر بإدانة متهم ثانوي كبش فداء اسمه عبد الباسط المقرحي نزيل زنزانة في اسكوتلاندا.
أهم الليبيون الذين قد يجدون في تجريد نظام إرهابي كهذا من برامج أسلحة الدمار الشامل، نوعاً من إزالة خطر يهددهم بشكل مباشر،إذ ما الفرق في هذا الخصوص بين صدام والقذافي؟! ولكن الأكثر خطورة على مستقبلهم هو أن يكافئ المجتمع الدولي القذافي على خضوعه بالسكوت المخزي عن استخدام القذافي لأسلحة القمع الشامل ضد شعبه. وكأن الجميع اتفق على هذا الشعب المنكوب. فهذه المبالغ الهائلة تُقطع من لقمة عيش الليبيين.الذين، وحدهم، يدفعون تكاليف بقاء عقيد على هذه السوية في السلطة. بل و يؤخَذون بجريرة ما يفعله. من مشاق حصار مركّب،إلى دفع الدية عن قاتل متعدد الجرائم، لم يحصل أن اختاروه لا حاكماً،ولارئيساً،ولا قائداً.
الزهراء بن الشيخ، قنطرة 2004
الزهراء بن الشيخ كاتبة ليبية مقيمة في ألمانيا