نادي الرجال البيض؟
في خريف عام 2008 أصبح عمر الجمهورية التركية ثمانين عامًا - وهذا العمر يعتبر بالنسبة للبشر عمرًا مثيرًا. وفي المقابل من الممكن أن يستمر في أغلب الأحيان وجود جماعة سياسية حتى القرن القادم. وتشهد تركيا منذ بداية محادثات دخولها إلى الاتِّحاد الأوروبي في أجواء كثيرة أزمات حقيقية. وبعد عقد من النمو الاقتصادي الرائع تراجعت الصادرات التركية، كما أنَّ المواطنين الأتراك صاروا يعانون من ديون باهظة، بالإضافة إلى أنَّ عدم الاستقرار السياسي يفزع المستثمرين الأجانب.
وقد شهدت تركيا واحدة من أغرب الأزمات الدستورية في تاريخها؛ إذ تعرَّض الحزب الحاكم والمنتخب ديمقراطيا إلى خطر الحظر بسبب تعديل قانوني تم إجراؤه بشكل شرعي. ولا يمكن للمرء أن يفهم بالعقل العادي أنَّ مشروع قانون يسمح بارتداء الحجاب في الجامعات يمكن أن يقضي على نظام الدولة العلماني وبذلك أيضًا على الدستور - مثلما زعمت المعارضة. وتسود فقط في المجال الثقافي تعدّدية وحرية شبه فوضوية، بينما تشهد الجماهير التركية محاولات جادة من أجل التغلّب على الماضي.
ولا يدور الجدال في يومنا هذا فيما إذا كان الأرمن قد تعرَّضوا لمذابح، بل إذا كانت هذه المذابح تشكِّل إبادة جماعية للشعب الأرمني أم إذا كان من الممكن أن يُنظر إلى هذه المذابح باعتبارها دفاعا مشروعًا عن النفس قام به العسكريون الأتراك والشعب التركي ضدّ المساعي الانفصالية للمتمرِّدين الأرمن.
فكر قومي متعطِّش إلى الانتقام
ولا يوجد شكّ منذ عهد طويل في أنَّ أتاتورك أيضًا كان ينظر إلى المذابح التي تعرَّض لها الأرمن على أنَّها جرائم حرب. وأخيرًا تم رفع ستار النسيان الذي كان يغطي الأصول المفزعة لنشأة الجمهورية التركية. وبذلك يتكوَّن الجدال حول الإرث الانتقامي والسلطوي والقوموي لهذا البلد والذي كان يعمي النخب طيلة عقود من الزمن. إنَّه الفكر القومي المتعطِّش إلى الانتقام والذي أدَّى إلى اغتيال الصحفي الأرمني هرانت دينك. ولكن كيف يمكن تفسير استمرار هذا الفكر القومي؟
والبدايات تعتبر دائمًا مفزعة؛ ويرافق خاصة في الأجواء السياسية نشوء جماعة ما أساطير عن الأصل يتم فيها إسقاط موضوع الوحدة التي تهدف في المستقبل إلى توحيد الشعب إلى الماضي. وأفلاطون سمَّى ذلك "الكذبة النبيلة".
وفي حال تركيا كان يجب على أساطير التأسيس والنشوء أن تخلق من الشعب غير المتكامل ذي اللغات والثقافات المتعدِّدة والمتأثِّر بجميع المذاهب والأقليات الممكنة والذي كان يكوِّن منظومة الأمة العثمانية التي كان يتمتَّع في ظلها غير المسلمين بحقوق واستقلالية معيَّنة أمَّة تركية موحَّدة.
وضمن سياق تعبئة وحشد الأمَّة التركية على أنقاض الدولة العثمانية المنهكة حصل تحوّل عكسي؛ إذ تحوَّل الآن الأتراك الذين كانوا يحكمون الدولة العثمانية إلى ضحايا هزيمة. وهذا التحوّل - من سادة إلى عبيد مثلما يقول هيغل - أصبح بالنسبة للكثيرين من خلال اتِّفاقية سيفريس Sèvres حقيقة تاريخية.
صدمة في العقل الباطني الخاص بالشعب التركي
وفي عام 1920 تقاسم المنتصرون في الحرب العالمية الأولى - البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون - الدولة العثمانية بين بعضهم بعضًا. وهكذا تمزَّق "الوطن". وكذلك تعتبر كلا الصدمتين - دور الضحية الذي تحتَّم على الأتراك تحرير أنفسهم منه في حرب تحريرية وطنية وكذلك حقيقة كون الغرب عامة والأوروبيين خاصة كانوا يريدون تقسيم الوطن وتوزيعه - دفينتين في أعماق العقل الباطني الخاص بالشعب التركي.
ولهذا السبب يخلط الكثيرون في تركيا بين الدفاع عن نظام الدولة الجمهوري وبين الفكر القومي المستبد. فالعسكريون وموظَّفو الدولة والمحامون وموظفو دوائر القضاء والمعلِّمون - جميعهم ينظرون إلى أنفسهم على أنَّهم "حماة الدستور".
صراع طبقي بين نخب جديدة وقديمة
ويسود حاليًا صراع طبقي تدور رحاه باعتباره "صراعًا ثقافيًا" في الكثير من مجالات الحياة بين هذه النخب الجمهورية وبين الطبقة الجديدة المكوَّنة من تجَّار مسلمين وصناعيين وصغار رجال الأعمال والذين يألِّفون سوية مع الفلاحين قاعدة حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ونتيجة لذلك تباطأت الإصلاحات التي ما يزال يجب إجراؤها على تركيا كونها مرشَّحة لدخول الاتِّحاد الأوروبي. فلو اختارت المحكمة الدستورية التركية في بداية شهر آب/أغسطس 2008 حظر حزب العدالة والتنمية لكان سوف يتم التشكيك في ترشيح تركيا لدخول الاتِّحاد الأوروبي.
ومع الأسف تنعكس بعض التطوّرات في تركيا أيضًا داخل الاتحاد الأوروبي. ففي حين تكافح تركيا ضدّ أساطير نشوئها وتعالج صدمات البدايات، يحاول أيضًا الاتِّحاد الأوروبي ترسيخ تجربته السياسية ذات العواقب الوخيمة وذلك من خلال تركيزه على مُثُل "أوروبا الأساسية" و"الأمَّة الأوروبية" والقيم اليهودية المسيحية (أين هم بالضبط - هكذا يجب على المرء أن يتساءل - يهود أوروبا؟) وعصر النهضة والتنوير.
أصل متعدِّد الثقافات والأديان للاتِّحاد الأوروبي وتركيا
غير أنَّنا نعيش في فترة تعدّ فيها جميع الطبقات والهوية أمران غير ثابتين. وبإمكان الأمَّة التركية أن تنكر قليلاً أصلها ذا الثقافات والأديان المتعدِّد تمامًا مثلما يستطيع الاتِّحاد الأوروبي تحديد حدوده من خلال إصراره على تجانسه الديني والثقافي.
وبعد أن قال الفرسيون والهولنديون والإيرلنديون "لا" لدستور الاتِّحاد الأوروبي فَقَدَ الاتِّحاد الأوروبي جزءًا من شرعيته الديمقراطية؛ إذ إنَّ مشروع دستور يتم دفعه إلى الأمام فقط من قبل نخب سياسية ويجب عليه أن يكون محجوبًا عن رأي الشعب لا يمكن أن يخلق الثقة. ومع ذلك تؤيِّد أغلبية المواطنين الأتراك دخول تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي إذا كان الأوروبيون أيضًا يريدون ذلك.
ومن شأن دخول تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي أن يخلق تحدِّيات كبيرة لمؤسسات الاتِّحاد الأوروبي. فإذا كان تعداد سكَّان تركيا في موعد دخولها الاتِّحاد الأوروبي يبلغ سبعين مليون نسمة فعندئذ يجب أن تحصل تكيا داخل المجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي على عدد أصوات أقل من أصوات ألمانيا، ولكن أكثر من أصوات أي بلد آخر داخل الاتِّحاد الأوروبي.
وكيف سيكون موقف الفرنسيين أو البريطانيين أو الإيطاليين من ذلك؟ ويجب أيضًا توقّع صعوبات في سياسة الاقتصاد الزراعي. وكذلك من شأن دمج تركيا اقتصاديًا في الاتِّحاد الأوروبي أن يخلق استثمارات أوروبية وفرص عمل جديدة في قطاعات الاتِّصالات وبناء المنازل والمال والسياحة.
وسوف يكون الخاسر هو قطاع الزراعة التركي الذي سوف يتحتَّم عليه التنافس مع إسبانيا واليونان وإيطاليا على أسواق الخضراوات والفواكه الأوروبية. ومن المنتظر أن يصبح الكثير من الفلاحين الأتراك عاطلين عن العمل أو أن تصبح لديهم في الهجرة إلى المدن الكبرى أو إلى بلدان أخرى من دول الاتِّحاد. غير أنَّ هذه المشكلات المؤسساتية لا تعتبر مستحيلة الحلّ. فمن الممكن أن يجد الاتِّحاد الأوروبي مصالحة مؤقَّتة أيضًا مع تركيا في مجالي السوق الزراعية وسياسة الانتقال مثلما كانت الحال مع بولونيا وهنغاريا. ولكن يبدو لي أنَّ الأمر الأخطر يكمن في حالة الخوف المرضي الثقافي من الإسلام والتي تسود حاليًا في أوروبا.
إنَّ قضية الحجاب في فرنسا وألمانيا واغتيال تيو فان غوخ والخلاف حول الرسومات الكاريكاتورية، بالإضافة إلى الجدالات التي لا تنتهي لدى الرأي العام الألماني والتي تؤدِّي إلى اعتبار أبناء الأقلية التركية جناة وأخيرًا موت بعض المهاجرين الأتراك في الحريق الذي وقع في مدينة لودفيغسهافن - كلّ هذا يشكِّل نتاجا للتاريخ الحديث الذي يشر إلى وجود انزعاج عميق من الإسلام في أوروبا.
وكنت أتفاءل في أنَّ أوروبا تريد الآن دمج تركيا على المستويين الثقافي والسياسي، بيد أنَّ تفاؤلي هذا أصبح أقل مما كان عليه قبل عام. والحرب التي نشبت في جورجيا التي تحدّ تركيا سوف تجعل الكثيرين من الساسة الأوروبيين يرغبون في عدم توسيع حدود أوروبا لتصل حتى جبال القوقاز. ومن ناحية أخرى لا يتم اعتبار "الشراكة الممتازة" مثلما توصف من قبل المستشارة أنجيلا ميركل بدلاً عن العضوية الكاملة في الاتِّحاد الأوروبي فقط هزيمة بالنسبة لتركيا، بل تعتبر أيضًا بمثابة تحوّل الاتِّحاد الأوروبي إلى "نادٍ للرجال البيض".
تركيا باعتبارها قدوة للعالم الإسلامي
وسوف تنظر البلدان الواقعة في العالم الإسلامي ولكن كذلك الهند والمكسيك والصين وأندونيسيا إلى ذلك باعتباره إشارة واضحة على استمرار المركزية الأوروبية المسيحية. وكذلك تؤيِّد الغالبية في الولايات المتَّحدة الأمريكية انضمام تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي، وليس بسبب اعتبارات جيوسياسية - تعدّ تركيا عضوًا موثوقًا به في حلف الناتو منذ عام 1953، بل أكثر من ذلك بسبب الاعتقاد بأنَّ خطوة دخول تركيا إلى مجموعة الدول الأوروبية يمكن أن تكون مثالاً لبلدان إسلامية أخرى من أجل السير في طريق نشر الديمقراطية وبحسب الرأي الرسمي في الولايات المتَّحدة الأمريكية فإنَّ تركيا هي الدولة الديمقراطية الوحيدة القادرة على التطوّر من بين الدول الإسلامية، كما أنَّها صديق حميم لإسرائيل والشريك الحاسم ضمن تحالف أمريكي في المنطقة.
وبرأيي فإنَّ الطريق الوحيدة والمعقولة من أجل مستقبل العلاقات بين الاتِّحاد الأوروبي وتركيا هو الاستمرار في توسيع الخيال المؤسساتي للاتِّحاد. وأكاد أقطع بأنَّ الجمهورية التركية تمضي في انتقال من حالة تشابه مواطنيها القسرية إلى تكافؤ ديمقراطي حقيقي.
إنَّ الجدالات الحالية حول ارتداء الحجاب والاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للشعب الكردي والإقرار بإرث تركيا ذي الثقافات المتعدِّد من خلال إعادة اكتشاف آثاره اليونانية واليهودية والأرمينية - كلّ هذا يشكِّل نقاشات في الانتقال إلى ديمقراطية رشيدة.
ومن الممكن أن تحمِّل هذه التجربة البعض أكثر مما في وسعهم، مثلما تبيِّن ذلك النخب القوموية القديمة الأقرب إلى الهستيرية. ولكن في آخر المطاف من الممكن أن تفشل هذه التجربة أيضًا بسبب شعور تركيا بأنَّها معزولة من قبل الأوروبيين الذين لا تثق الأغلبية على أية حال بدوافعهم.
شيلا بن حبيب
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009
تعمل شيلا بن حبيب أستاذة للعلوم السياسية في جامعة ييل الأمريكية. وصدر لها مؤخرًا كتاب: "حقوق الآخرين - الأجانب والمهاجرون والمواطنون Die Rechte der andern. Ausländer, Migranten, Bürger"، عن دار نشر Suhrkamp 2008.
قنطرة
الجدل حول "القيم الأوروبية":
أيديولوجيا لتحصين أوروبا وعزلها ؟
هل تعتبر القيم التي بنيت عليها حقوق الإنسان خاصية من خواص الحضارة الأوروبية التي تعزل القارة الأوروبية عن مناطق العالم الأخرى؟ تراوغوت شوفتهالر يلقي نظرة ناقدة على آراء مراكز الأبحاث والمؤسسات الأوروبية.
تعليق لجيم أوزديمير:
"انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يصب في مصلحة أوروبا"
إنَّ انضمام تركيا المزمع إلى الاتحاد الأوروبي يدعو إلى التساؤل عن ماهية أوروبا، حسب رأي النائب في برلمان الاتحاد الأوروبي، جيم أوزديمير. وأوروبا بالنسبة له هي مشروع سلام ينبغي أن لا يتم تحديدها في البدء من خلال إرثها المسيحي الغربي.
تجميد المسألة التركية:
حيرة الإتحاد الأوروبي في التعامل مع المرشح المسلم
لقد تم تأجيل بدء المفاوضات بين تركيا وبركسل في النقاط الهامة وبقيت العلاقة بين دول الإتحاد الأوروبي وتركيا المسلمة غير واضحة. دانيلا شرودر تسلط الأضواء على المواقف الأوربية