جذور سياسة الضم الإسرائيلية::.فالسلام يبدأ من هناك.
قدّمت ’’صفقة القرن‘‘ التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب ضوءاً أخضر أحادياً وفورياً لضم نحو 30 في المئة من الضفة الغربية. تقع أراضي الضفة الغربية التي منحها ترامب لإسرائيل في المنطقة ’’ج‘‘ التي ’’تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة عملاً باتفاق أوسلو.‘‘ كان يُفترَض أن يُطبَّق اتفاق أوسلو لفترة انتقالية من خمس سنوات كحد أقصى، وقد نصّ على أن قطاع غزة والضفة الغربية يشكّلان ’’وحدة جغرافية واحدة‘‘ (البند الرابع). وهذا يعني أن كل من يقول بوجود المنطقة ’’ج‘‘ عليه أن يضع أيضاً في اعتباره ’’الوحدة الجغرافية.‘‘
والآن، بعد ستة أشهر على الإعلان عن ’’صفقة القرن،‘‘ اكتسبت شعارات مثل ’’توسيع العمل بالقانون الإسرائيلي ليشمل يهودا والسامرة‘‘ أو ’’ممارسة السيادة الإسرائيلية‘‘ مستوى غير مسبوق من الدعم في السياسة والمجتمع الإسرائيليين. وقد فسّر كثرٌ الضوء الأخضر الذي أعطاه ترامب لعملية الضم بأنه الإثبات الأخير على أن المستوطنات المموّلة من الحكومة الإسرائيلية هي قانونية، وبأن لإسرائيل حقاً مشروعاً في ممارسة سيادتها على المنطقة.
هذا لا يعني أن إسرائيل سوف تقوم بضم معظم الأراضي الفلسطينية أو جزء كبير منها. فالسلطات الإسرائيلية تسعى إلى ضم أريئيل وعدد قليل من المناطق الاستراتيجية الأخرى، فيما تدفع بالاتحاد الأوروبي إلى تقديم الدعم المادي للسلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية. وتنظر إدارة نتنياهو إلى قطر بأنها المموِّل الأساسي لقطاع غزة.
يجب التشديد على أن ’’الضم الانتقائي‘‘ ليس بالأمر الجديد – وهذا ما تؤكّده الأمثلة في القدس الشرقية ومرتفعات الجولان. والضم الانتقائي الذي قد يحدث في الأسابيع أو الأشهر المقبلة ليس أكثر إشكالية، على الصعيد القانوني أو الأخلاقي، من عمليات الضم السابقة. فمن شأن التمييز على مستوى الرد (القوي) الذي تقتضيه آلية الضم الراهنة والآليات السابقة، أن يجعل عملية الضم الأخيرة ’’مقبولة‘‘ نوعاً ما. وهذا قد يشكّل سابقة خطيرة، على الصعيدَين المحلي والدولي على السواء.
حقوق متساوية في سياق فريد
الضم الكامل من جانب إسرائيل قد يتيح لجميع الأشخاص المقيمين بين نهر الأردن والبحر المتوسط الحصول على حقوق متساوية. لا بد من الإشارة إلى أن الأراضي الفلسطينية المحتلة هي المكان الوحيد في العالم حيث يعيش ملايين المدنيين منذ أكثر من خمسين عاماً من دون دولة ومن دون امتلاك جنسية تابعة لأي بلد.
يملك الفلسطينيون الحق الكامل في معالجة الفراغ القانوني الذي يعيشون فيه، وفي النضال من أجل المساواة في الحقوق. في الوقت نفسه، فإن اعتراف جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطينية (تضم الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة)، مقروناً بتركيز أكثر فاعلية على ’’أجندة التمايز،‘‘ وبفرض عقوبات اقتصادية وسياسية صارمة على كل من لا يبدي استعداداً أو رغبة في الامتثال للتوافق الدولي، لن يؤدّي بحد ذاته إلى إحلال السلام أو التوصل إلى حل شامل. ومع ذلك، إنها الخطوات الثلاث الضرورية للسير في ذلك الاتجاه.
قد يكون مهماً التشديد على أن الاتحاد الأوروبي الذي هو الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، لم يتوانَ عن فرض عقوبات في عدد كبير من السياقات الأخرى، بما في ذلك عقوبات ضد روسيا في شبه جزيرة القرم. أما في الأراضي الفلسطينية المحتلة فلا تزال المنتجات التي تُصنَّع في المستوطنات المموّلة من الحكومة الإسرائيلية تحظى بمعاملة تفضيلية في ما يتعلق بالتعرفة الجمركية بموجب اتفاق التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، فيما يستمر برنامج ’’أفق 2020‘‘ التابع للاتحاد الأوروبي في تقديم دعم مادي كبير لصناعة الأسلحة الإسرائيلية. يميل عدد من صنّاع السياسات والمحللين في أوروبا والولايات المتحدة إلى التركيز على الازدواجية المضلِّلة القائمة على الحديث عن الدولة الواحدة أو الدولتين، بدلاً من كشف دور الاتحاد الأوروبي وغيره من الأفرقاء الخارجيين في ترسيخ الواقع على الأرض، والعمل على معالجة هذه المسألة.
الواقع الانتقائي
على الرغم من أهمية الاعتبارات المتعلقة بالسياسة والقانون الدولي والاقتصاد، لا يستطيع أيٌّ منها أن يساهم في تحقيق تغيير ملموس ومستمر على الأرض، ولا أن يساعد على تفسير الجذور الأيديولوجية لمشروع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. فالتاريخ يكتسي أهمية أكثر من أي وقت مضى، وهو العامل الأساسي من أجل فهم السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والتعاطي معها، وربما تغيير مسارها.
يشكّل ’’الحق التاريخي بيهودا والسامرة‘‘ – وهي الأرض التي احتضنت شعوباً وحضارات مختلفة على مر التاريخ – الحجّة الأساسية التي تبرّر السلطات الإسرائيلية من خلالها سياساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تمثّل الضفة الغربية، وفقاً لعدد كبير من السياسيين الإسرائيليين، ’’قلب الوطن اليهودي التاريخي.‘‘
ولكن إذا كان هذا هو التبرير الذي يُستخدَم للاستحواذ على مساحات جديدة من الأراضي، على إسرائيل إذاً أن تتخلى عن المساحة الساحلية الكاملة بين عسقلان وأشدود، والتي لم تكن مطلقاً جزءاً من أي مملكة إسرائيلية قديمة. لقد أكّدت عشرات البعثات الأثرية التي أُجريت على مر السنين في قلب عسقلان – وهي إحدى خمس مدن فلسطينية قديمة تضم راهناً ما كان حتى عام 1948 قرية المجدل الفلسطينية – أن الإسرائيليين القدامى لم يسيطروا قط على هذه المنطقة.
قد يبدو أن آيةً قصيرة في إصحاح التناخ السابع – الذي يجب ألا يُقرأ على أنه كتاب تاريخ – تشير إلى أن هذه الأراضي احتُلَّت لبضع سنوات. ولكن هذه الآية نفسها يناقضها التناخ اليهودي. وإذا افترضنا أن غزواً قد حصل، لا يمكن لمثل هذا الاحتلال القصير أن يحوّل المنطقة الساحلية في إسرائيل بحكم الأمر الواقع إلى جزء من الوطن التاريخي اليهودي. هذا فضلاً عن أن الغارات المتعددة التي شنّها الفلسطينيون واحتلالاتهم المتقطعة للمستوطنات الإسرائيلية في أقصى الشرق عند غور الأردن تجعل هذه المناطق ’’أقل إسرائيلية.‘‘
يجب اعتماد المقاربة نفسها في ما يتعلق بالتوافق الدولي. لنأخذ على سبيل المثال قرية أم الرشراش الفلسطينية (إيلات حالياً) التي استولى عليها لواء النقب ولواء جولاني في 10 آذار/مارس 1949، بعد ثمانية أشهر من صدور قرار مجلس الأمن الدولي 54 الذي دعا إلى وقف إطلاق النار، مانعاً أي استحواذ للأراضي بعد ذلك.
التوافق الدولي الواسع هو العامل الوحيد الذي يجعل من إيلات اليوم جزءاً شرعياً من دولة إسرائيل. هذا التوافق الدولي نفسه – الذي تتشاركه أكثر من 150 دولة – يعارض ضم الأراضي ويقول بعدم شرعية المستوطنات المموَّلة من الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. من غير المقبول التوصل إلى توافق دولي حول إيلات (ومناطق أخرى)، فيما يُهمَل التوصل إلى مثل هذا التوافق في ما يتعلق بالضفة الغربية أو القدس الشرقية أو مرتفعات الجولان.
يغفل عدد كبير من المراقبين والمحللين عن التوقف عند الاستخدام الانتقائي لمنطق ’’الوطن التاريخي‘‘ والمقاربة الانحيازية في مجال التوافق الدولي.
من أين يبدأ السلام؟
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق شامير، في كلمة ألقاها أمام تجمّع في تل أبيب في عام 1991: ’’لا حاجة إلى شرح الأسباب التي تجعل من هذه الأرض [يهودا والسامرة] أرضنا.‘‘ تتردد أصداء هذه الكلمات لدى جمهور أوسع بكثير اليوم. ولكنها كانت ولا تزال تتعارض مع الأساس القانوني لدولة إسرائيل.
اشتُرِط على إسرائيل لقبولها في الأمم المتحدة في أيار/مايو 1949 تقديم تطمينات محددة بشأن تنفيذ شرعة الأمم المتحدة وقرارات أخرى. وكان مجلس الأمن الدولي قد رفض في خريف 1948 الطلب الأول الذي تقدّمت به إسرائيل لقبولها في الأمم المتحدة، ولم يُتّخَذ قرار الرفض صدفة. ويجب الإشارة أيضاً إلى أن المادة 80 من شرعة الأمم المتحدة – التي تصون المشروعية القانونية للقرارات التي اتخذتها عصبة الأمم – لا تؤيّد المطالب الإسرائيلية بالسيادة على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
قبل إنشاء الأمم المتحدة في عام 1945، لم يكن الحق الممنوح للشعب اليهودي بالاستيطان في الأراضي الخاضعة للانتداب، حقاً حصرياً ولا غير محدود، بل رُبِط صراحةً بحماية ’’حقوق الشرائح السكّانية الأخرى وموقعها.‘‘ وهذه الحقوق نفسها تعرّضت للانتهاك على مر السنين من خلال التمويل المتواصل للمستوطنات واستغلال الموارد الطبيعية المحلية، علماً بأن اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 تحظر هذه السياسة.
على الرغم من أن لإسرائيل/فلسطين شعبَين يمتلكان حقوقاً مختلفة وعميقة التجذر بالأرض، يجب أن يكون التوافق الدولي واحداً وغير مجزّأ. فالسلام يبدأ من هناك.
تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
لورنزو كامل أستاذ مساعد في مادة التاريخ في جامعة تورين ومدير الدراسات البحثية في معهد Istituto Affari Internazionali. لمتابعته عبر تويتر @lorenzokamel.