"الحل يتطلب شجاعة سياسية"

3 سيدات وامراة يظهران من الخلف وأمامها أعلام مرفوعة.
صراع حدودي: هنا، اتهمت الجزائر الرباط بالوقوف وراء مقتل 3 جزائريين في غارة على الحدود قرب وجدة بالمغرب، نوفمبر/تشرين الثاني 2021. (Photo: picture alliance / AP| M. Elshamy)

تسابق محموم نحو التسلح في منطقة شمال أفريقيا وسط علاقات متوترة متزايدة بين الجزائر والمغرب. يحذر الباحث المغربي، هشام معتضد، في مقابلة، من تفجّر الصراع في المنطقة، ويجادل بأن الحل يتطلب مقاربة جيوسياسية شاملة تتجاوز قضية الصحراء.

الكاتبة ، الكاتب: محمد بن رجب

قنطرة: تصاعدت وتيرة التسلح بين المغرب والجزائر في الفترة الماضية: اقتنت الرباط طائرات "F-16"ومنظومات "SkylockDome" الإسرائيلية، بينما دعّمت الجزائر أسطولها بطائرات "35Su-" الروسية... ما دوافع هذا التسابق؟

هشام معتضد: لا يمكن فهم سباق التسلح بين المغرب والجزائر بمعزل عن الذهنية السياسية المتحكمة في علاقتهما. فهو ليس وليد اللحظة، بل يتغذى من رواسب تاريخية وصراع سرديات يتعلق بالهوية والسيادة والنفوذ الإقليمي. في كل مرة، تُبرم فيها إحدى الدولتين صفقة تسليح، تسارع الأخرى إلى القيام بخطوة مماثلة، ما يعزز منطق الردع المتبادل. لكن هذا التوازن هشٌّ، وقد ينقلب إلى صراع مفتوح إذا فُقدت السيطرة أو غابت الوساطات. في المحصّلة، تبقى الحقيقة الثابتة أنّ الأمن لا يُبنى فقط بالعتاد، بل بالثقة والتّكامل الإستراتيجي.

وماذا عن إعلان الجزائر التعبئة العامة في أبريل/نيسان الماضي؟

إعلان التعبئة العامة يتجاوز الطابع الرمزي؛ إنه يحمل رسائل واضحة للداخل والخارج. داخليًا، هو محاولة لإعادة ترتيب البيت السياسي وتعزيز الاصطفاف حول المؤسسة العسكرية، وخارجيًا، هو رسالة تحذير تُفهم في سياق تصاعد التوتر مع المغرب، لكنها تفتقر إلى خطاب سياسي موازٍ يبعث على التهدئة، ما يزيد من منسوب الترقب والقلق في المنطقة.

Hicham Mouatadid. Photo: private
خبير في السياسات الاستراتيجية

هشام معتضد، خبير في الشؤون الاستراتيجية والأمن الإقليمي، وباحث في قضايا الجيوسياسة العسكرية وتحولات ميزان القوى في العالم العربي وإفريقيا. مدير MetaPolicy Group بكندا، ومؤسس منظمة Africans For Change. يساهم بانتظام في تحليل النزاعات المسلحة والسياسات الدفاعية ضمن سياقات مغاربية وساحلية.

 

لكن كيف بدأت جذور الصراع، وكيف ارتبط بقضية الصحراء الغربية؟ 

كان النزاع الحدودي، الذي قاد إلى حرب الرمال سنة 1963، أول تجسيد لصراع الهويات السياسية بين نظام ملكي مغربي يرى في البيعة مرجعية سيادية، ونظام جمهوري جزائري بشرعية ثورية تعتبر "تقرير المصير" امتدادًا لعقيدتها الثورية ومواقفها التاريخية من الكفاح المسلح ــ تجلى ذلك لاحقًا في دعمها حركة البوليساريو في قضية الصحراء التي تعتبرها المغرب مسألة في صلب شرعيته التاريخية والدينية والدستورية. 

سرعان ما تعززت هذه الرواسب بغياب التواصل الرسمي، وبفعل سياسات إعلامية وتعليمية في كلا البلدين كرّست صورة العدو. ففي الخطاب الجزائري، يُصوَّر المغرب كقوة توسعية وذراع غربي في المنطقة، بينما يُقدَّم النظام الجزائري في الخطاب المغربي كمنظومة مغلقة تحركها جنرالات العهد البائد (أيّ العسكريين الذين تصدروا المشهد بالجزائر إبان العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي حتى عهد بوتفليقة). تتراكم هذه الصور النمطية عامًا بعد عام، ما يجعل أي مصالحة محتملة مثقلة بالتحديات، ولا يمكن تجاوز ذلك دون مشروع تاريخي–ثقافي مشترك يعيد كتابة السردية المغاربية على أسس تكاملية.

امتد التوتر المغربي-الجزائري إلى الجارة تونس، فقد سحب المغرب سفيره من تونس منذ أغسطس/آب 2022 بعد استقبال رئيس تونس قيس سعيد لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي. ما دوافع هذا الخلاف؟ 

قد تجد الجزائر في مثل هذا التصدّع فرصةً لإضعاف محيط الرباط، لكنها ليست بالضرورة محركها الوحيد، إذ بدت تونس وكأنها تتحرك بمنطق السيادة، لكنها تجاهلت حساسية السياق الإقليمي. 

فهناك ديناميكيات داخلية في تونس، سواء على صعيد تراجع الدور الفرنسي وتدخل قوى جديدة مثل الصين وتركيا على الخط. ومع ذلك، لا يزال هناك أمل في وساطات عربية أو أفريقية تذيب الجليد وتعيد العلاقات إلى مسارها الطبيعي.

يلقي التوتر أيضًا بظلاله على منطقة الساحل، حيث تدهورت العلاقات بين مالي والجزائر رغم لعبها دور الوساطة بين حكومة مالي والحركات الأزوادية في الشمال عام 2015، كيف تقرأون هذا التوسع الإقليمي للتنافس؟

دخلت العلاقات في مسار تصادمي بعد انقلاب 2021 في مالي وصعود سلطة انتقالية تتبنى خطابًا سياديًا رافضًا للتدخلات الخارجية، وبلغت الأزمة لاحقًا ذروتها حين اتُّهمت الجزائر ضمنيًا بدعم فصائل متمردة في الشمال. لا يؤثر هذا التصدّع على العلاقة الثنائية فقط، بل يخلق فراغًا أمنيًا قد تستغله جهاتٌ متطرّفةٌ وعابرةٌ للحدود، وما يجعل هذا الخلاف بالغ الخطورة هو تزامنه مع غياب الفاعلين الدوليين الكبار مثل فرنسا وتراجع وساطات الأمم المتحدة. 

من جهتها، تنظر الجزائر بقلق متزايد إلى تنامي النفوذ الروسي في مالي، لا سيما عبر مرتزقة فاغنر، وترى في ذلك تهديدًا لعمقها الأمني وحدودها الجنوبية. لذلك، تحاول استعادة توازن نفوذها التقليدي في الساحل من خلال تحرّكات دبلوماسية وأمنية متعددة.في المقابل، يراقب المغرب هذه التحولات، ويتبنى سياسة براغماتية في تعامله مع دول الساحل، خصوصًا مالي والنيجر، عبر مشاريع تنموية وخطاب غير صدامي. هذا يمنحه موقعًا متقدمًا في معادلة النفوذ والوساطة.

ننتقل إلى نقطة أخرى، وقعت المغرب، في 17 يونيو/حزيران الجاري، اتفاقية شراكة استراتيجية للتعاون الدفاعي مع إثيوبيا، كيف ترى تلك الخطوة؟

لا يمكن عزل هذه الشراكة الدفاعية عن طموح المغرب في أن يصبح لاعبًا قاريًّا من طرازٍ جديدٍ، قادرًا على التأثير في معادلات الأمن الإقليمي، وفرض نفسه كفاعلٍ في النزاعات الإفريقية الكبرى، سواء في ليبيا، والساحل، أو حتى الصومال. إنها مقاربة ناعمة لبناء القوة، تتّسق مع نظرية "السلطة الذكية"، حيث تتداخل الدبلوماسية الدفاعية مع الاقتصاد والسياسة والثقافة لبناء موقعٍ متقدّمٍ في خرائط القوّة العالمية.

أبدى مبعوث ترامب لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط مسعد بولس اعتزامه زيارة الجزائر والمغرب لإنهاء الأزمة بينهما، فهل واشنطن وسيطًا مقبولًا للطرفين بعد اعترافها بسيادة المغربية على الصحراء الغربية؟

تعكس الزيارة المرتقبة وعيًا أميركيًا متزايدًا بضرورة تحجيم تداعياته قبل أن يتحوّل إلى أزمةٍ إقليميةٍ، لكنّ السؤال الجوهري: هل واشنطن فعلاً قادر على لعب دور المُصلح بعد أن فقدت جزءًا من حيادها من وجهة نظر الجزائر؟

تسعى الإدارة الأمريكية إلى التوازن في خطابها: فهي تريد أن تكون وسيطًا مقبولًا، دون أن تُفقد المغرب امتيازات الاعتراف بالسيادة على الصحراء، ودون أن تُثير غضب الجزائر أكثر ممّا هو حاصل. فواشنطن تراهن على إدماجهما في معادلةٍ أوسع ترتبط بأمن الساحل ومحاربة الإرهاب، مع الحفاظ على مصالحها في غرب المتوسط وإفريقيا. ورغم ذلك، قد تُهدئ الوساطة الأجواء مؤقتًا، لكنها لا تكفي لصياغة حل دائم ما لم تترافق مع إرادة سياسية حقيقية من الجانبين.

وكيف ترى الحل من وجهة نظرك؟ 

تاريخيًا، فقد كانت هناك بالفعل محاولات لتقريب وجهات النظر، سواء عبر وساطات عربية، أو عبر لجان التنسيق الثنائي في التسعينيات، لكن معظم هذه المبادرات اصطدمت بغياب الإرادة السياسية وتغليب التصعيد الإعلامي. لا يمكن أن يكون الحل تقنيًا أو دبلوماسيًا فقط، بل يتطلب مقاربة جيوسياسية شاملة تتجاوز قضية الصحراء، وتعيد صياغة العلاقة الثنائية في إطار "توازن تنافسي" بنّاء، خصوصًا في ظلّ اشتعال الجوار الجنوبي (الساحل) وتعدد التدخلات الخارجية. قد يوفر التعاون في ملفات كالأمن الحدودي أو الطاقة أو البنية التحتية أرضية مشتركة لخفض التوتر، على غرار التجربة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.

في الوقت نفسه، هناك حاجة لمسارات موازية (Track II diplomacy)، من خلال انخراط نخب ثقافية واقتصادية وأمنية في بناء قنوات تواصل غير رسمية تُمهّد الأرضية لاستئناف الحوار الرسمي لاحقًا. الحل ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب شجاعة سياسية.

قنطرة ©