الجلوس على فوهة بركان
حين عاد الملك السعودي الكهل عبد الله في نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي إلى مملكته بعد غياب عنها بسبب المرض لمدة أربعة أشهر تقريباً، كال الخيرات على رعيته، فقد أعلن عن برنامج معونة عملاق بحجم 36 مليار دولار تقريباً. وبموجب هذا البرنامج تقرر رفع رواتب كل العاملين في القطاع العام بنسبة 15 في المائة وتقديم منح مالية مباشرة للطلاب وللراغبين في الزواج وللمدينين.
لكن في الوقت ذاته عمد نظام عائلة آل سعود إلى ممارسة مزيد من الممارسات القمعية، فالمظاهرات التي كان من المقرر أن تنطلق في 11 آذار/ مارس 2011 وفق النموذجين المصري والتونسي تم حظرها، كما تم اعتقال المعارضين وممارسة الضغط عليهم ودفعم إلى التخلي عن احتجاجاتهم. وكانت هذه الممارسات على أشدها في التعامل مع المعارضين الشيعة. وبعد أن طالب الناشط والداعية المعروف توفيق الأمير في نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي بإقامة مملكة دستورية وبوضع حد للتمييز الذي يواجهه أبناء مذهبه، تم الزج به في السجن. أما رد فعل الشيعة الموجودين في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية فتمثل بتنظيم مظاهرات، طالب المشاركون فيها بإطلاق سراح الأمير، لكن النتيجة كانت اعتقال المزيد منهم.
قيادة سعودية متوترة
وتظهر الأحداث كم كان متوتراً رد فعل القيادة السعودية على الثورات، التي حدثت وتحدث في تونس ومصر وليبيا، كما تظهر أين تكمن أكبر العوامل التي تشكل تهديداً على استقرارها. إنها تكمن في شرق البلاد حيث يعيش قرابة مليونا شيعي يشكلون نصف سكان المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. وربما تكون سياسة العصا والجزرة قد حققت نجاحات على المدى القصير، لكن الأحداث تظهر لأكثر من مرة أن المملكة العربية السعودية بلد يعاني من انقسامات عميقة، لكن قيادته لم تبدأ إلا في وقت متأخر وبشكل غير حازم، ببذل ما في وسعها لقيام شعور بالانتماء الوطني. وربما سيقوم الشيعة بإيستغلال كل فرصة متاحة أمامهم للتخلص من نير الدولة السعودية. وتظهر الأحداث في شمال القارة الإفريقية الآن أن هذه الفرصة يمكن أن تُتاح في وقت أقرب مما يُتوقع.
تاريخ مليء بالتوتر
إن المملكة العربية السعودية ما زالت دولة حديثة العهد نسبياً، تم السيطرة عليها في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي من قبل مؤسس هذه المملكة الملك عبد العزيز، المسمى بابن سعود. وكان مركز نفوذه في منطقة نجد الواقعة في وسط الجزيرة العربية وعاصمتها الرياض، والتي انطلقت منها قواته لاحتلال المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية عام 1913 تقريباً، ولاحتلال الحجاز عامي 1924/1925، والتي تظم أرضها الأماكن المقدسة في مكة والمدينة. وبينما بدا في أول الأمر أن أهم احتلال تم القيام به هو احتلال غرب البلاد الذي تقع فيه مدينة جدة الساحلية ذات الإيرادات المالية الكبيرة المتأتية من موسم الحج سنوياً، ما زالت المنطقة الشرقية تعطي المملكة الحديثة العهد إيرادات مالية ضخمة منذ عام 1945 من خلال استخراج البترول وتصديره، فغالبية حقول البترول المهمة في السعودية تقع في هذه المنطقة.
ولم يستفاد شيعة المنطقة الشرقية من الثروة المفاجئة، التي حلت على البلاد، إلا قليلاً، بل جلبت عليهم المعاناة، فقد أتى المحتلون من صحارى قلب الجزيرة العربية بأيدولوجيا دينية تكفر الشيعة، وهذه الايدولوجيا هي الوهابية، وهي حركة إصلاحية سنية متزمتة، تحاول أن تميز نفسها نحو الخارج عن بقية المسلمين من غير الوهابيين. ولا يُستثنى المسلم العادي من تكفير الوهابيين، بل فقط أولئك الذين يتبعون القواعد والتعليمات الصارمة بدقة ويعتنقون آرائهم الدينية من دون تحفظ. ومن الواضح أن هذا الأمر لا ينطبق على الشيعة، لدرجة أن الوهابيين يمقتونهم أكثر من اليهود والمسيحيين، لأنهم - كما يتحجج الوهابيون دائماً- يدعون الإسلام زوراً وكذباً، ويعملون من خلال ذلك على هدم الدين الإسلامي من الداخل.
نجحت المؤسسة الدينية الوهابية في تطبيق تصورات سياستها الدينية في المنطقة الشرقية المحتلة بشكل واسع، ويعزى هذا النجاح إلى التوافق المبدئي بين الحكام وعلماء الوهابية في النظر إلى الشيعة. ووفق ذلك ما زال يتم معاملة الشيعة منذ عام 1913 بقدر كبير من التمييز في المملكة العربية السعودية، ولذلك لم يُسمح لهم منذ عام 1913 حتى 2001 ببناء مساجد جديدة، كما كان عليهم إحياء الطقوس الدينية الشيعية مثل مراسيم عاشوراء في الخفاء لعقود طويلة من الزمن. وحتى تدريس عقائد المذهب الشيعي ممنوع في مدارس هذا البلد، ويُضاف إلى ذلك الإهمال الاجتماعي-الاقتصادي. ولهذا السبب يقل عدد الشيعة الذين يشغلون مناصب حكومية مهمة في المملكة العربية السعودية، ولا يكاد يوجد شيعة في المناصب القيادية، ولا يوجد أي شيعي على الإطلاق في الشرطة وقوات الأمن.
إن أوضاع شيعة السعودية تزداد سوءا منذ عام 1979، فقد قامت الثورة الإسلامية في إيران بتأجيج الصراع الخفي في الأصل بين إيران والمملكة العربية السعودية على الزعامة الإقليمية في المنطقة، ومنحه بعداً مذهبياً. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 اندلعت اضطرابات في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، لأن الشيعة المتأثرين بالثورة في إيران المجاورة أحيوا مراسيم عاشوراء علناً واشتبك المتظاهرون مع قوات الأمن. وفيما بعد بدأت القيادة السعودية في النظر إلى شيعة المنطقة الشرقية بشكل خاص على أنهم "طابور خامس" لإيران الشيعية ويمثلون تهديداً أمنياً.
الإصلاحات وحدودها
بعد عام 2001 ومرة أخرى بعد عام 2003 سعت القيادة السعودية إلى التقليل بعض الشيء من إهمال شيعتها، لذلك تم تقليل منع بناء المساجد والسماح بإحياء طقوس عاشوراء أحيانا. وكانت هذه التسهيلات الممنوحة للشيعة جزءا من مساع إصلاحية شاملة، قامت بها القيادة السعودية على ما يبدو نظراً لضغوطات أمريكية ومنذ عام 2003 بسبب التهديدات المتأتية من تنظيم القاعدة. وكان محرك هذه المساعي ولي العهد السابق والملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الذي أظهر منذ منتصف تسعينات القرن الماضي على أنه - حتى وإن كان ذلك على درجة عالية من الحذر- مصلح في السياسة الداخلية والدينية في السعودية. وربما يعد أهم إجراء إصلاحي قام به هو البدء بـ"حوار وطني"، فقد دعا الملك عبد الله في فترات غير منتظمة شرائح اجتماعية مختلفة في المملكة إلى النقاش حول مواضيع عدة، مثل وضع الأقليات الدينية ودور المرأة والمشاكل الاجتماعية العامة.
وأثار اللقاء الأول في حزيران/ يونيو 2003 اهتماماً كبيراً بشكل خاص، إذ جمع بين شيعة وعلماء دين وهابيين. ويبدو أن هدف الحكومة في المقام الأول هنا هو التقليل من حجم التوترات المذهبية في المملكة العربية السعودية. لكن نتيجة لذلك سرعان ما بدأت تتضح حدود المساعي الإصلاحية لعبد الله، فبمحاولته رفع الخطوط الفاصلة بين السنة والشيعة ارتكب خرقاً للمحرمات، إذ اُنتقدت لقاءاته بممثلي المصالح الشيعة انتقاداً لاذعاً من قبل الأوساط الوهابية المحافظة. وكانت نتيجة ذلك أن القيادة السعودية ترددت في رفع التمييز المسلط على الشيعة وإهمالهم.
وفي الفترة التي تلت ذلك اتضح جلياً أن عبد الله أيضاً لا يرغب مبدئياً في زعزعة التحالف مع علماء الوهابية، الذي تقوم عليه الدولة السعودية منذ منتصف القرن الثامن عشر. وصحيح أن عبد الله قلل من نفوذهم في السنوات الماضية بشكل واضح، إلا أنهم يعدون جزءا من قاعدة نفوذه في وسط الجزيرة العربية ومصدراً مهماً للشرعية الدينية، التي لا تريد العائلة المالكة التخلي عنها بأي حال من الأحوال. واتضح هذا الأمر بشكل لا يقبل الشك بعد 2005/2006، حين تراجعت الضغوط الأمريكية الرامية لإجراء إصلاحات وتهديدات تنظيم القاعدة الأمنية. وعلى الرغم من الملك الجديد عبد الله ألحق هذه المساعي بخطوات إصلاحية أخرى، إلا أنها لم تكن تتعلق بالشيعة مطلقاً.
ويعد التصعيد التدريجي للصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران سببا هاما لهذه السياسة ، فالرياض تخشى من أن تستخدم إيران نفوذها الإقليمي، الذي ازداد إثر حرب العراق عام 2003 في تحريض الشيعة العرب في منطقة الخليج على حكوماتهم. وفي ضوء هذه الخلفية تعتبر هذه السياسة أن البرنامج النووي الإيراني هو الآخر سيقود، بحسب وجهة نظر القيادة السعودية، إلى إقامة مظلة نووية تحمي سياسة تصدير الثورة. وكما هو متوقع أثارت نهاية المساعي الإصلاحية موجة كبيرة من السخط لدى شيعة السعودية، والاضطرابات التي شهدتها المدينة في ربيع 2009 كانت إشارة إنذار واضحة على ذلك.
النظام السعودي في خطر
صحيح أن النظام السعودي لا يواجه في الوقت الراهن مخاطر أن يتم إسقاطه من قبل حركة شعبية واسعة، إلا أن مخاوف عائلة آل سعود الحاكمة لها ما يبررها. وحجم هذه المخاوف يتضح في التقارير الإعلامية التي تحدثت عن اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والملك عبد الله في نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، والذي اشتكى فيه عبد الله بمرارة من أن الولايات المتحدة الأمريكية تدع حليفاً مهماً لها مثل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك يسقط بسرعة.
وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية بثروتها النفطية الضخمة تعد شريكاً مهماً مثل مصر على الأقل، إلا أن رد الفعل القادم من واشنطن إلى الرياض أثار شكوكاً في مدى الإعتماد على الحليف الأمريكي. وإضافة إلى ذلك فإن الاحتجاجات التي تشهدها البحرين يمكن أن تكون لها آثار على المملكة العربية السعودية، ففي البحرين أيضاً يطالب الشيعة المغيبة حقوقهم من قبل النخبة السنية الحاكمة بنهاية للتمييز الممارس بحقهم وبالمساواة السياسية. وإذا ما سقط نظام آل خليفة، فإن ذلك سينعكس سلباً على استقرار الدولة السعودية.
لكن المشكلة الجوهرية تتمثل في قلة الاستعداد لإجراء إصلاحات لدى النخبة السياسية الحاكمة، لذلك سوف لا تتمكن المملكة العربية السعودية من مواجهة تصدعاتها الدينية والاجتماعية إلا من خلال إنهاء التحالف القائم بين الحكام وعلماء الدين منذ القرن الثامن عشر. لكن عوضاً عن ذلك يجب على الشيعة والإصلاحيين في السعودية أن يخشون موت الملك عبد الله، المولود عام 1923، قريباً وإمكانية تولي أحد أخوانه المحافظين سدة الحكم في البلاد. وبشكل خاص فإن وزير الداخلية نايف، الذي سيبلغ قريباً السابعة والثمانين من العمر، هو الرجل القوي الجديد في الرياض والملك المستقبلي ربما، وهو يعد عموماً أحد ممثلي التحالف التقليدي مع علماء الوهابية وأحد معارضي الإصلاح. إن القوى الإصلاحية في السعودية ترى فيه ألد أعدائها بين الأمراء الحاكمين. ولأن العائلة الحاكمة لا تنجح في تسليم مقاليد الحكم إلى أمراء ذوي توجهات إصلاحية أصغر عمراً، فإن الصراعات من الأمور الحتمية مستقبلاً. وإذا لم تغير الرياض سياستها، تجاه الشيعة بشكل خاص، فإن المملكة العربية السعودية مقبلة على فترات تتميز بعدم الاستقرار.
غيدو شتاينبيرغ
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: لؤي المدهون
حقوق النشر: قنطرة 2011
غيدو شتاينبيرغ باحث مختص في الدراسات الإسلامية، يعمل منذ خريف عام 2005 في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية، حيث يعنى بشؤون العالم العربي والحركات الإسلامية. عمل قبل ذلك مستشارًا في مكتب المستشارية الألمانية ومحاضرا في معهد أوتو- سور للدراسات السياسية في جامعة برلين الحرة.
قنطرة
الشيعة في السعودية:
انتفاضة المهمشين على قبضة الوهابيين
حسب رأي الباحثة السعودية المعارضة مَيّ يَماني فإن قمع الشيعة في السعودية يمثل جزءاً من الاستراتيجية التي تتبناها المملكة لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة وأنه لم يعد أمام النظام السعودي إما تمكين الشيعة في إطار النظام، أو مشاهدتهم وهم يكتسبون المزيد من السلطة والنفوذ من خلال التحالفات الخارجية.
فّهم الإنفتاح السياسي الحالي في العربية السعودية:
الإستيقاظ من السبات الوهابي
"هذا بلد لا يُتَوَقَّع منه أن يُجيز الأحزاب السياسية أو تنظيم إنتخابات تنافسية صحيحة في المستقبل القريب، ناهيك عن ظهور سلطة تشريعية قوية أو نظام قضائي مستقل" شهدتْ السنوات الأخيرة حِراكاً سياسياً لا سابق له في العربية السعودية. فقد اتخذت الحكومة سياسات إصلاحية متنوعة منذ عام 2002. ورغم أن هذه الإجراآت تبدو أقل أهمية بكثير حين مقارنتها بالتطورات السياسية في بلدان عربية أخرى مثل لبنان ومصر، فإنها تُشكل عناصر إنفتاح ذي مغزى في السياسة السعودية الدكتاتورية. تحليل عمرو حمزاوي
حوار مع الإصلاحي السعودي توفيق السيف:
"الجميع ينتظر إعلانا عن برنامج للإصلاح السياسي والاجتماعي"
"في اعتقادي، أن الجدل حول الاصلاح، هو الوجه الظاهري لجدل أقدم حول الحداثة" يرى توفيق السيف، السياسي والكاتب السعودي الإشكالي، أن الدعم الشعبي والدولي الذي يتمتع به الملك الجديد، إضافة الى الظروف الاقتصادية والسياسية المواتية جدا، هي فرصة استثنائية لاتخاذ قرارات تاريخية، لتجديد النظام السياسي والاجتماعي في المملكة.