عن حلم لبنان "المثالي" الذي لم تحظ به
رغم ظروف الحرب المؤلمة التي جرت بين إسرائيل وحزب الله، لم يفوت اللبنانيون فرصة الاحتفاء بلوغ مطربة لبنان الأولى فيروز عامها التسعين مؤخرا. فقد تحولت ساحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى لحظة احتفاء مدهشة بامرأة صارت رمزا لهذا البلد.
وقد لا يعرف البعض أن كثيرا من أغاني فيروز التي يسمعها محبوها طوال الوقت مأخوذة من المسرحيات التي قدمتها مع الأخوين رحباني في ستينات وسبعينات القرن الماضي. فقبل سبعين عاما، غيرت المطربة الصاعدة ابنة العشرين ربيعا، اسمها من "نهاد حداد" إلى فيروز. وبعد 5 أعوام من تعاونها مع عاصي الرحباني موظف البلدية، وشقيقه ضابط الشرطة منصور الرحباني، تزوجت فيروز، عاصي، الذي استقال من عمله بالبلدية ليتفرغ للكتابة هذه الفتاة الخجولة.
البحث عن لبنان الأخضر والحلو
كانت سنوات الخمسينات كالحلم، تشكل معها العالم العربي بعد الاستعمار الأجنبي. إذ كانت الدول العربية تتحرر واحدة تلو الأخرى، تخطو خطواتها الأولى نحو عالم جديد، أراد العرب فيه أن يثبتوا أنهم على قدر المساواة مع مستعمرهم السابق.
بهذه الروح، ذهب الثلاثي "فيروز وعاصي ومنصور" إلى مهرجان بعلبك للموسيقى، حيث كانت الدورات السابقة للمهرجان لا تقدم إلا فنا غربيا خالصا. وأعلنوا عن وجودهم بتقديم "ليالي لبنانية" من أغاني وأهازيج مرتبطة بالتراث والفلكلور اللبناني. وغنوا أيضا واحدة من أوائل الأغاني التي كتبت عن هذا البلد وهي أغنية "لبنان يا أخضر يا حلو".
لكن لبنان لم يكن يعيش واقعا "أخضر وحلو"، مع دخوله صراعه الأول في سلسلة من الصراعات التي سترسم وجه هذا البلد الجميل الحزين. ففي عام 1958 عقب إعلان الوحدة بين "مصر وسوريا"، يطالب رئيس الوزراء رشيد كرامي (المسلم السني) بالانضمام إلى تلك الوحدة، يرفض الرئيس كميل شمعون (المسيحي) هذا الطلب.
سريعا تتدهور الأوضاع، يحمل اللبنانيون السلاح في وجه بعضهم البعض. يطلب شمعون من الرئيس الأمريكي أيزنهاور التدخل، فترسل الولايات المتحدة الأمريكية 14 ألف من قوات المارينز إلى بيروت في عملية "الخفاش الأزرق" لتدعم شمعون في وجه منافسيه. خلال أشهر الصراع الثلاثة، سقط نحو ألفي قتيل من الجانبين، وانتهت الأزمة بعد تقديم شمعون استقالته، وتولي رئيس الجيش فؤاد شهاب السلطة بدلا منه.
وعلى وقع أصوات الرصاص، كان الأخوان رحباني يراقبان ويكتبان أولى مسرحياتهم "جسر القمر" عام 1962. تدور حكايتها في مكان خيالي، حول قريتين: الأولى قرية "الجسر" والثانية قرية "القاطع". كانت القريتان فيما مضى أصدقاء، لكن شيئا ما غامض حدث بينها، تحولت معه المحبة إلى عداء مطلق. تقرر قرية "الجسر" قطع المياه عن قرية "القاطع"، لتهلك زرعها وتُعطش أهلها، وعلى الماء المقطوع يدور الصراع. لكن فتاة مسحورة تخرج لتعد القريتين بظهور كنز تحت "جسر القمر" الذي يربط الضيعتين ببعضهما البعض.
كانت "جسر القمر" هي العمل المسرحي الغنائي الأول للأخوين رحباني، وحظيت بشعبية كبيرة لارتباطها بأزمة لبنان عام 1958. ومن تلك اللحظة، سيختار الثلاثي رحباني وفيروز، تقديم أعمالهم في شكل مسرح غنائي يلامس أوجاع المجتمع اللبناني والعربي أيضا، ومخاوفه، وآماله، وطموحاته. وتدور أحداث المسرحيات غالبا في "الضيعة" المتخيلة، ذلك العالم القروي البسيط والطيب والمسالم، والذي تعتريه الصعوبات.
غير أن الفتاة تشترط أن يتصالح أهل القريتين كي يحصلوا على الكنز. وحين يتصالحوا، تخبرهم الفتاة أن الكنز هو "السلام" و "المحبة". وتغني فيروز: "الرضا أحلى من الزعل.. والسلام كنز الكنوز". في نسختها الموجودة على "اليوتيوب"، يمكن سماع التصفيق الحار، حين تصل فيروز إلى مقطع "والسلام كنز الكنوز".
نرى أصداء هذا المشروع في كل أعمال فيروز والرحبانية. فحين تقع هزيمة عام 1967، بعد اجتياح إسرائيل لثلاثة بلدان عربية في 6 أيام، يكتب الأخوان رحباني مسرحيتهم "جبال الصوان". وتحكي عن بلدة تعرضت لغزو من غازي هو "فاتك المتسلط" وجيشه. يجتاح "المتسلط" جبال الصوان، ويقتل قائدها وبطلها "مدلج". لكن بعد سنوات، تعود ابنته "غربة"، من غربتها، لتقاوم الغازي بالبناء، والغناء، الاحتفال بمواسم الحصاد. حين يرى "فاتك المتسلط" الأهالي يودعون الحزن، ويعودون للحياة التي سرقها منهم، يدرك أنه لن يستطيع أن يحكم هذا الشعب الذي لم ييأس، فيفر هاربا.
لا مكان للنجوم الزاهرة في محيط معاد للإبداع!
تساءل الكثيرون بعد انتشار صورة فيروز مع الرئيس الفرنسي: هل لدى العرب اليوم نجوم في وزن فيروز؟ وتساءل آخرون نفس السؤال بعد انتشار فيديو في الأيام الأخيرة على وسائط التواصل الاجتماعي يقوم فيه الرئيس جمال عبد الناصر بمنح أوسمة لعميد الأدب العربي طه حسين، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. خالد الخميسي يجيب على هذه الأسئلة في مقاله التالي لموقع قنطرة.
"صح النوم يا مولانا الوالي"
بمرور السنوات، حين يعرف الجميع أن مشكلتهم لم تكن فقط مع "فاتك المتسلط" الغازي في جبال الصوان. لكن مع الحاكم نفسه، يكتب الأخوان رحباني وتغني فيروز، مسرحيات مثل "صح النوم"، عن الملك الذي ينام شهرا ويستيقظ يوما واحدا، ليختم فقط 3 طلبات من طلبات الأهالي. تريد الفتاة "قرنفل" أن يختم لها الملك طلبها بأن تبني سقفا فوق بيتها ليحميها من أمطار الشتاء، لكن الملك ينام دون أن يختم طلبها.
تسرق قرنفل الختم، لتختم طلبها وكل طلبات الأهالي المعطلة. فيقول الرحبانية في المسرحية: "إن كان أملنا بحكامنا المنقذين انهار فنحن الشعوب، علينا أن نوقفهم". وتغني الجوقة (الكورال) للملك: "صح النوم يا مولانا الوالي.. القمر بدر وصارلك شهر يا مولانا الوالي.. أكل وشرب ونوم لمصلحة الأهالي!".
في عام 1977 وعلى وقع الحرب الأهلية اللبنانية وتدخل الدول الكبرى في تحديد مصير البلد الصغير. يقدم الأخوان رحباني مسرحية "بترا"، عن تلك البلدة العربية الصغيرة، التي تقاوم الإمبراطورية المتوحشة "روما"، وتضطر الملكة شكيلا، التي تؤدي دورها فيروز، أن تضحي بابنتها الصغيرة "بترا" فداء لبلدها التي تحمل الاسم نفسه.
تغني فيروز وكأنها تغني عن لبنان وليس "بترا": "بيقولوا صغير بلدي!.. بالغضب مسور بلدي.. وبيقولوا قلال ونكون قلال بلدنا خير وجمال.. يا صخرة الفجر وقصر الندي يا بلدي.. يا صغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي".
نهاية حلم لم يتحقق
في العام التالي 1979، وبعد أكثر من 22 عاما من الزواج، تنفصل فيروز عن عاصي الرحباني، وينفرط عقد المشروع الذي أنتج 500 أغنية، 24 مسرحية على مدار عقدين. انتهت حقبة الرحبانية في حياة فيروز، وهي الحقبة الأثرى والأهم في مشوار حياتها. لم تقدم فيها فقط فنا جعلها أهم مطربة في تاريخ لبنان، لكنها قدمت "وطنا مثاليا" متخيلا لهذا الشعب، سواء وطنا تحل فتاة مسحورة خلافاته، أو فتاة عائدة من الغربة لتقاوم المتسلط، أو فتاة طيبة قررت أن تقاوم الحاكم الظالم بسرقة ختمه!
بعد انفصالهما، يبحث عاصي عن بديلة لفيروز ويختار مطربة تدعى "رونزا" بديلا لها فيقدمها في مسرحية "الربيع السابع"، و"المؤامرة مستمرة"، لم يقبل الجمهور على المسرح الرحباني بلا فيروز. وفي عام 1986 توفي عاصي الرحباني. أما فيروز، تعاونت مع ملحنين لبنانيين آخرين مثل فيلمون وهبي، زكي ناصيف، محمد محسن، قبل أن يكمل مسيرتها ابنها الملحن زياد الرحباني إلى يومنا هذا.
أما الحال في لبنان نفسه لم يختلف، تستمر الحرب الأهلية بعد مسرحية بترا لثلاثة عشر عاما. يخرج لبنان من تلك الحرب، ليدخل في دوامة أخرى من العنف السياسي والاغتيالات، ومحاولات لإخراج الجيش السوري المسيطر على البلاد منذ انتهاء الحرب. سيُغتال رئيس وزرائها رفيق الحريري عام 2005 في وضح النهار وتفشل لجان التحقيق في تعقب الجناة.
في عام 2006، ستخوض البلاد حربا جديدة مع إسرائيل، ثم أزمة سياسية أخرى يظهر فيها السلاح من جديد. لاحقا، تشهد البلاد انتفاضة شبابية عام 2019 تطالب بإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتردية تُقمع الانتفاضة من أنصار حزب الله، وتفشل مرة بعد أخرى في انتخاب رئيس للجمهورية.
في هذا العام، دخل حزب الله حربا جديدة مع إسرائيل شعر معها الكثير من اللبنانيين بأنهم لم يحظوا يوما ببلد مستقر، وأنهم لم يرثوا سوى بلدا ولد للمعاناة. وحدها فيروز والرحبانية قدموا للبنانيين وطنا مثاليا لم يحظوا به أبدا في الواقع.
قنطرة ©