ضرورة إخراج اللغة من السطوة الدينية!

للشاعر اللبناني بالفرنسية صلاح ستيتية أكثر من خمسين كتابا، توزعت على الشعر والدراسة ،والقصة والترجمة. نال جائزة الفرانكفونية الكبرى التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية. في الحوار التالي يتحدث ستيتية عن علاقته باللغة العربية وعن حاجتها الماسة إلى التجديد.

كيف تنظر إلى علاقتك باللغة العربية. وما الذي يمنعك من أن تكتب بها؟

صلاح ستيتية: مع كامل احترامي للغة العربية، ولكن هي ليست على مستوى العالم الحاضر. لذلك أنا كشاعر: إما أن أخلق لغة داخل اللغة العربية، لكي أعبر عن تطور الإنسان العربي الذي أمثله، وإما أن ألتجئ إلى اللغة الأجنبية. كتاب كثيرون فضلوا العربية، واضطروا إلى تغيير قاموسها بصورة موازية. نجيب محفوظ لغته مليئة بالأخطاء اذا ما فكرنا بسيبويه. وهو لو لم يفعل ذلك لما قرأ ولما ترجمت كتبه، وهو أحد الشواهد على تطور الحضارة العربية المعاصرة. كتاب آخرون ،اختاروا اللغة الأجنبية، وأنا منهم.

السبب تاريخي لا أكثر ولا أقل، ويعود إلى الانتداب والاستعمار. كثير من الكتاب العرب تشربوا مضطرين لغة المنتدب أو المستعمر، وكتبوا بلغته، علما أنهم استعملوا لغة المستعمر والمنتدب ليحاربوه بلغته، وليظهروا أنهم أفضل منه، وهم على مستوى راق أدبيا. شئنا أم أبينا اليوم الحضارات منفتحة على بعضها البعض ونحن علينا أن نقبل بهذا الانفتاح.

هل تسمح لك اللغة الفرنسية، بأن تكون أكثر حرية، وتحررا من الكثير من القيود والموانع التي يلاقيها الكاتب باللغة العربية، ناحية المجتمع والسلطات الدينية والسياسية؟

ستيتية: الكاتب العربي الذي يكتب بلغة أجنبية ليس مضطرا إلى القيام بأشياء لا علاقة لها بالكتابة، كالإلتزام بنظم سياسية أو بمعايير دينية. يضاف إلى ذلك أن الكاتب العربي ليس عنده دخل مادي، كما لا تقدم إلى الناشرين أي مساعدات. لا يوجد قراء في العالم العربي. القارئ عندنا هو الأكثر جهلا مقارنة مع قراء العالم. القارئ الفرنسي والألماني يقرأ كتابا سنويا، أما العربي فيقرأ ربع عمود في جريدة، سنويا.

وإذا لم يكن هناك من قارئ، فليس هناك من كتاب. العالم الحديث معقد. وإذا ما أراد كاتب ان يكتب شيئا متحررا، ومطابقا للواقع المعقد، عليه أن يكتب بلغة الآخر التي تصبح لغته. عبر لغة الآخر وعبر الكتب العربية المترجمة إلى اللغات الأخرى يجد الكاتب العربي من يقرأه وينتقده فعلا. ليس في العالم العربي نقاد. النقد الموجود هو على مستوى مفهوم الإنسان العربي. النقد العربي الذي يكتب في الصحف والكتب نقد وصفي فقط. لا توجد مجلات أدبية مهمة عربيا. الوضع العربي مأساوي حقا.

هل تعتبر الروائيين والشعراء العرب الذين يكتبون بلغات غير عربية كتابا عربا؟ وهل هم أيضا يقع عليهم بعض المساهمات غير المباشرة، ناحية اللغة العربية حتى وان لم يكتبوا بها؟

ستيتية: الكاتب العربي الذي يكتب بلغة كبيرة كالانكليزية أو الفرنسية والبرتغالية والاسبانية يمكنه أن يصل إلى القارئ بسرعة. الكاتب العربي يجب ان ينقل إلى اللغات الأخرى لكي يأخذ مساحة عالمية. ثمة كتاب عرب كبار في كل اللغات ،الاسبانية والانكليزية والفرنسية والألمانية،يعبرون عما يختلج في ضمير الإنسان العربي ،وينقلون الصورة الحقيقية للأوطان العربية. إنهم سفراء اللغة العربية إلى العالم الخارجي. الكاتب الأصيل لا ينسى أصله ويعود إلى المشاكل الموجودة في عالم انطلاقته.

يطلق بعض الكتاب العرب باللغات الأجنبية من فترة إلى أخرى آراء حادة عن اللغة العربية ويصفونها بأنها لا تسعف على التعبير الصريح الكاشف في العصر الحالي. كيف تنظر إلى هذه الآراء، بوصفك شاعرا عربيا يكتب بالفرنسية؟

ستيتية: أحب اللغة العربية وأعتبر، استنادا إلى ما كان يقوله أستاذي المستشرق الكبير لوي ماسينيون أن العربية، ربما هي أقدم لغة في العالم. نستنتج من ذلك أنه كلما كانت اللغة قديمة كلما كان نحوها بليغا ومعقدا. والعربية تعتبر من أكثر اللغات بلاغة وتعقيدا. وهي تلك اللغة العظيمة قبل القرآن وقد احتوت على تحف شعرية هائلة مثل: المعلقات.

بعد هبوط القرآن استجد أمر في الدعوة المحمدية، وهو التملص من الشعر، لا بل الحكم عليه. و هذا شيء غريب في أن يكون للشاعر تلك الأهمية في العالم العربي القديم حتى يصبح موضوع اهتمام كتاب سماوي. لا بل تخصص له سورة اسمها "الشعراء". لم يحدث ـ مع حفظ المسافات ـ هذا الاهتمام بالشعر من قبل ثقافة معينة إلا عند سقراط، وأفلاطون ناقل الفكر السقراطي، هو أيضا يهاجم الشاعر وينفيه من المدينة، ويضعه خارج قانونها.

أسباب القرآن وأسباب أفلاطون وسقراط مختلفان: القرآن ينفي الشاعر من حضارة اللغة، لأنه يعتبر أن الشاعر يسعى إلى "تسحيرها" أي يجعل منها عملا سحريا، وهو بالتالي لا يستعمل الكلمات للنص عن حقيقة الأشياء، بل هو ساحر يضع في اللغة شيئا من الكذب، يضع في الكلمات شيئا من الحلم المزعوم، لكي يفسدها من الداخل.

فبدل ان تكون اللغة خادمة الحقيقة، تصبح خادمة الكذب والنفاق، وكل ما هو بعيد عن الحقيقة. إذن، الشاعر هو عدو الحقيقة. بعد نفي الشعر بعشرين سنة من مسرح الحضارة الإسلامية الأولى ها هو يعود عن طريق الخليفة عمر بن الخطاب الذي كان متشدد إسلاميا، لكنه في الوقت عينه كان من أكثر محبي الشعر. وقد سمح بعودة ما كان يسمى آنذاك بديوان العرب.

سمح عمر للشعر أن يعود ولكن عن طريق القرآن وهو المثل الأعلى لاستعمال اللغة. تم تجميد اللغة لفترة طويلة. شعراء كبار جربوا أن يستعملوا اللغة بصورة جديدة ومحددة ،مثل أبي نواس، وإذا به يتهم بالزندقة، والخروج عن الدين والأصول.

الأمر نفسه تم مع عدد من الشعراء الصوفيين. لأن الصوفية هي أيضا داخل الحضارة الإسلامية التقليدية حركة تجديد وانتفاضة لغوية، عندما تستعمل تلك اللغة من قبل شاعر ملهم وخلاق كالحلاج الذي كان مصيره الإعدام والحرق والصلب. كل ذلك كي أقول أن وطأة القرآن قلبا وقالبا على الحضارة الإسلامية كان هائلا وعظيما، لدرجة أن أكبر شاعر عربي، وهو ولا شك المتنبي غرورا وحذرا في آن واحد ،أطلق على نفسه اسم المتنبي أي انه ينظر إلى لغة النبوة ،دون أن يقترب منها ،فهو ليس نبيا بل متنبيا.

أين تكمن مشكلة عدم مقدرة اللغة العربية على مجاراة العصر برأيك، هل هي في سطوة الديني عليها، أم في عدم تطوير المعاجم اللغوية العربية؟

ستيتية: لقد ظل الوضع على ما هو عليه من الثبات حتى دخلت الحداثة العالم العربي في بداية القرن التاسع عشر، وبصورة خاصة في نهاية هذا القرن، فيما سمي بالنهضة الأولى،التي انطلقت من لبنان. من الغريب أن هذه النهضة ركزت كل قواها الأولى على الدعوة إلى تجديد اللغة العربية عبر القواميس قبل عالم المشاعر والفكر والمخيلة.

كان اهتمام اللبنانيين يوم ذاك منصبا على إنعاش اللغة وتجديدها وإخراجها من القيم الدينية المعهودة. هذا العمل كان على يد أدباء مسيحيين، خصوصا البساتنة. فمعجم اللغة العربية "المحيط" كان من عملهم.

إذن، كان التجديد الأول كان على يد كتاب مسيحيين. ما الذي منع الشعراء والكتاب المسلمين من القيام بذلك؟

ستيتية: ربما لأنه لم يتشجع عالم أو أديب مسلم على القيام بعملية لغوية من شأنها أن تعتبر تهديدا للتراث الإسلامي. خذ مثلا آخر: أول شاعر مجدد باللغة العربية هو جبران خليل جبران يدخل ميدان الحداثة بكتابه الأكثر حداثة "النبي" مستعملا اللغة الانكليزية، وهو الكاتب باللغة العربية لم يسع إلى ترجمة كتابه إلى اللغة العربية.

ثانيا: فعل ما فعله المتنبي فقد سمى كتابه "النبي". وعبر هذا "النبي" أتى بقوالب ومعان جديدة قديمة .لأن القالب يعود بتكوينه إلى شيء من الآية القرآنية والتوراة. فهناك لقاء بين نصوص التوراة والقرآن. كتب"النبي" كنص شعري إلى حد ما، موزون بصورة غير آلية. تكلم جبران عن حاجة الإنسان الغربي إلى عودة الروح. ورغم وجوده في أمريكا، إلا أنه عاد إلى الآثار الإسلامية المسيحية في تعاليمها الروحية. كما أطلق على صاحب الكلمة، تلك الكلمة الروحية الشعرية "المصطفى".

ثمة شعراء كشوقي وحافظ إبراهيم أيضا، أطلقوا قصيدة جديدة، ليس بقالبها، وإنما بالمعاني الوطنية والفكرية والعاطفية التي كانت تختلج في ذلك الوقت. هم ليسو بمجددين، بل عائدون إلى أصول الشعر في بداية الديوان العربي، وكثيرا ما يمكن تشبيه شعرهم بشعر البحتري أو أبو تمام.إن الأمر ليس سهلا أبدا. أذكر في هذا المعنى ذلك التناقض بين وطأة اللغة القرآنية ورغبة الإنسان العربي في الوصول إلى شيء من التحرر اللغوي، للتعبير عن ذاتية جديدة له.

هل ترى ضرورة تفكيك القداسة المسبوغة على اللغة العربية، وكيف يمكن أن يتم ذلك برأيك؟

ستيتية: سعى الشعراء على الخصوص إلى الوصول إلى لغة متحررة والخروج على قداسة اللغة. وهذا يعني ألا تأتي بمرادفات جديدة غير مقبولة قرآنيا وتقليديا، وألا تدخل على اللغة العربية وقواعدها استعمالات شاذة من شأنها أن تحطم مبناها الجليدي، وألا تدنسها بتعابير آتية من لغات أخرى، تخص حضارات خارجة عن دار الإسلام أو كافرة.

شعراء الحداثة العرب هجموا على المبنى الجليل للعربية وقالوا إنهم يريدون فتح الأبواب والنوافذ على العالم الجديد ،أفكارا وشعورا وإحساسا. لا بد أن يكون هناك شيء جديد بالمفردات يعبر عن كل هذه الشؤون الجديدة.

هل اللغة العربية غير قادرة على استقبال النصوص العلمية والفلسفية من اللغات الأخرى؟

ستيتية: معظم الكلمات التي تستعمل اليوم في العلوم وخصوصا البيولوجية منها هي غربية. واللغة العربية قادرة ،عبر التكييف على إدخال هذه الكلمات في جهازها عن طريق الترجمة. هناك شيء من الصحة في هذا القول. نحن في وضع حرج جدا. قطار التاريخ يمر سريعا، ونحن ان لم نصعد إلى هذا القطار، فسنخسر نهائيا معركة الحضارة. من الواجب الأساسي على الإنسان العربي وبصورة خاصة على الكاتب والشاعر والعالم أن يتجرؤوا ويدخلوا إلى العربية المفردات والعبارات المعبرة عن الحقائق الجديدة، التي لم تكن أيام العرب القدماء.

ليس من المعقول أن يبقى العرب مكتوفي الأيدي، بانتظار أن يأتي الهام جديد للتعبير عن حقائق جديدة. عصر الإلهام انتهى إلا في الشعر. الواجب الفكري: هو العمل الجدي والمتكامل للوصول إلى قاموس جديد، من شأنه أن يغطي الحقائق السابقة والحالية والمستقبلية، وإلا أصبحنا كلنا ضحية وهمنا التاريخي، بأنه ليس لنا من حضارة سوى ارتباطنا بماضينا المجيد.

ضف إلى ذلك، عندما كان العرب خلاقين في ميادين الحداثة، أدخلوا الكثير من المفردات الفارسية واللاتينية على العربية، لا بل تبنوا جميع الفلاسفة والمفكرين غير العرب، وضموهم بصورة طبيعية إلى العالم العربي، لإيمانهم بأن هؤلاء الخلاقين، حتى وان كانوا أجانب، فإن نتاجاتهم تخص الإنسانية جمعاء. لنأخذ درسا من هؤلاء القدماء، فلسفيا وعلميا في الفكر العربي الإسلامي، ومن ثمّ في الفكر الإنساني بكامله.

ما هو المخرج لأزمة اللغة العربية برأيك؟ وهل لنا عبرة ،نأخذها من تجارب الحضارات الأخرى؟

ستيتية: مشكلة اللغة موجودة ليس في اللغة العربية فحسب، بل في معظم لغات الحضارات العريقة كاليابانية والصينية اللتين تمتلكان تاريخا عريقا جدا يوازي العالم العربي وحضارته. سعت هاتان الحضارتان منذ ثلاثين عاما إلى تبسيط اللغة وتطويرها لكي تصبح قادرة على التعبير عن العالم الجديد الناشئ في الصين واليابان، ولم يكن هناك احتجاج سخيف مثل الذي يحصل في العالم العربي، والذي للأسف لم ينته .

كان الياباني يكتب مستخدما ثلاثمائة ألف ميدوغرام، حيث الصورة تعبر عن الفكرة. أصبح الياباني اليوم يكتب بتسعة آلاف ميدوغرام فحسب. سعى اليابانيون إلى التخفيف عن أنفسهم من ثقل اللغة لكي يدخلوا في التاريخ والأدب المعاصرين.

لنا في اليابانية والصينية مثال في التطور اللغوي. هناك مشاكل في اللغة العربية يجب أن تعالج بحكمة ورويّة، وإذا ما أراد العربي ألا يبقى على سطح التاريخ، عليه أن يتكيّف مع العالم الجديد لغة وفكرا. وليس للحضارة العربية الإسلامية من مخرج سوى التكيّف مع العالم الذي يتجدد يوميا.

أجرى الحوار صالح دياب
حقوق الطبع قنطرة 2006

www

صلاح ستيتية (باللغة الفرنسية)