حين يفقد الإنسان كل شيء
حسين الموزاني من مواليد سنة 1953 في مدينة العمارة بالعراق، وهو يقيم ويعمل ككاتب في برلين. حصل في العام 2003 على جائزة أدلبرت فون شاميسو. وفي روايته الأخيرة يروي الموزاني مسيرة التيه التي يعيشها سرحان المواطن الألماني العراقي الأصل، الذي اضطربت أحوال حياته بعد طلاق زوجته ووفاة أعز أصدقائه. وبعد إقامة غير موفقة بالقاهرة يعود إلى ألمانيا مجددا ليتحول فجأة إلى قاتل. ينفذ سرحان جريمة قتل بارون تجارة اللحوم كليمب الذي كان يجلس أمامه أثناء عرض مسرحي.
السيد الموزاني، ما الذي أدى إلى حصول هذه العملية الدموية؟
حسين الموزاني: لا أريد في البداية أن أصدر حكما ما على هذه العملية الدموية التي حدثت في نهاية الرواية، بل سأكتفي بإجابة عمومية. سرحان يرى في كليمب منافسا، ويختزله في مجرد طرف مقابل معاد. وهو يعتقد أن الحياة في ألمانيا قد تسببت له في فقدان التحكم في زمام أمور حياته، وأنه ينبغي أن يدمر الطرف الآخر المقابل، الذي يتمثل هنا في بارون تجارة اللحوم.
مع ذلك فإن جريمته الفظيعة تفاجئنا. فسرحان رجل مثقف، وهو لا يكف عن التفكير في وضعه، يطرح على نفسه أسئلة حول الأخلاق والسياسة وينظر بعين نقدية إلى البشر من حوله. فكيف يمكن لمثل هذا الرجل أن يقترف مثل هذه العملية الجبانة؟ ذلك أن كليمب لم يمسه بسوء بالنهاية؟
الموزاني: العقل كما نعلم جميعا لا يتنافي بالضرورة مع العمل الإجرامي. لنتذكر فقط شخصيات المجرمين الكتاب في عهد النازية. أو ما حدث أخيرا لطبيبين من مدينة غلاسغو، طبيبان موهوبان كانا قادرين مع ذلك على تنفيذ عملية انتحارية.
لكن سرحان لا يبدو واحدا من أولئك الإرهابيين الانتحاريين الذين تعميهم القناعات الإديولوجية والدينية. فهو يفتقر إلى الحقد العميق وإلى الدوافع الدينية لمثل هذه الجريمة. إنه بالأحرى مجنون، واحد يعيش حالة من الضياع التام.
الموزاني: أعتقد، بل أنا مقتنع تمام الاقتناع، بأن هناك عددا كبيرا جدا من الناس ممن يمكن اعتبارهم عاديين جدا ولطيفين أيضا، لكنهم في حالات معينة يقومون بأعمال انتقامية.
هل سرحان رجل مجنون؟ إنه غالبا ما يتكلم عن مؤامرة تحاك ضده.
الموزاني: سرحان بكل تأكيد رجل مقهور بما يدور حوله من أحداث. إنه محاط برموز الثراء والسلطة، وهو محبط بسبب طلاقه من جهة وبفعل واقعه كعراقي من جهة ثانية. عراقي فقد كل شيء. وطنه قد دمر وبلاده قد غدت مستعمرة...
لكننا نقرأ في الصفحة الأولى من الرواية ما يلي: "والآن أجدني، أنا القاتل، أمام الأمر المقضي. وإنه لمن غير المجدي حقا أن يحاول المرء إيجاد مبررات ما لهذه العملية الإجرامية." فهل سيكون بوسعك تبرئة سرحان؟
الموزاني: كلا، لن أسعى لتبرئته بأي حال من الأحوال. فهو كمجرم لا يستأهل أن يُغفر له. إنه قاتل لإنسان بريء. وقد وقع في الخطأ باعتقاده بأنه بإمكانه التحرر عن طريق جريمته من نير الهوية الألمانية التي يشعر بنفسه واقعا تحت وطأتها.
هذا هو ما ينطبق على ذلك المرض الغريب الذي يعاني منه سرحان، أي من ظاهرة "ألْمنة" متزايدة. هذا المصطلح يتردد العديد من المرات في روايتك. فما الذي يعنيه هذا المصطلح؟
الموزاني: أولا، هذا المصطلح هو اشتقاق خاص، من باب اللعب اللفظي. كان مهما بالنسبة لي أن أجعل من ذلك التأثير أمرا ملموسا، ذلك التأثير الذي يمارسه المحيط الألماني عليه. وبالنهاية فإن هذه الظاهرة تستعصي على التحليل. وأنا أكتب أدبا وليس تحليلا ما لشخصية سرحان. كل ما أفعله أنني أحاول إنارة هذه الشخصية بوسائل أدبية. غير أنني كنت ألاحظ دوما من خلال العديد من المحادثات، بأن المهاجرين القادمين من الفضاء الإسلامي والعربي يعانون من حالة عدم ارتياح كلي.
لكن ما الذي تعنيه "الألمنة" بصفة ملموسة. وما هو العيب في هذه الحالة؟
الموزاني: هؤلاء الناس لا يريدون التفريط بهويتهم بأي حال من الأحوال. إنهم يحاولون التشبث بشيء واه في الأساس. إن الفوارق بين مستويات التطور شاسعة جدا بين البلدان العربية وأوروبا الحديثة، بما يجعل الكثيرين لا يجدون من خيار إلا في التشبث بهوياتهم "المزيفة"، أو في التخلي عنها نهائيا.
منذ كم من الزمن يعيش سرحان في ألمانيا؟
الموزاني: هذا ما لا تذكره الرواية بدقة. نعرف فقط أنه درس في ألمانيا، وهو يقيم هنا منذ زمن طويل، ربما منذ ثلاثين سنة...
ومع ذلك يظل لا يشعر بنفسه كألماني؟
الموزاني: لا. أي أنه يشعر بنفسه بالأحرى "مؤلمَنا".
الجزء الأكبر من القصة تدور أحداثها في القاهرة. لكن في القاهرة أيضا لم يكن لسرحان من حظ يذكر. بل إنه على العكس من ذلك قد وجد نفسه واقعا في قبضة المخابرات المصرية. وقد تم إيقافه واستنطاقه وتعذيبه. ألا يمكن أن نقول بأنه في الحقيقة إنسان ضائع ومنكود أينما كان على وجه الأرض؟
الموزاني: ربما. لكن واقعة إيقافه واستنطاقه من طرف المخابرات المصرية لوحدها ليست مجرد مصادفة في الرواية، بل هي تبرز كم من الفوارق هناك بين الحياة في مصر وفي ألمانيا. هذه الاستنطاقات البوليسية التي تصور في الرواية قد عشتها شخصيا. ومع أنني لم أتعرض إلى التعذيب، لكنني أخضعت مرتين إلى الاستنطاق من دون أي موجب. وقد التقيت بأناس كانوا قد تعرضوا إلى التعذيب على أيدي أجهزة النظام الحكومي لمجرد شكوك ما حولهم.
وهذا ما حصل مع سرحان أيضا. فهو لم يقترف شيئا من شأنه أن يجعله مذنبا بوجه من الوجوه، ومع ذلك يتعرض إلى التعذيب من طرف رجال المخابرات...
الموزاني: إنه أمر على غاية السهولة في البلدان العربية أن يجد المرء نفسه واقعا في قبضة المخابرات لمجرد شكوك ما حوله. لقد أقمت لسنة ونصف في القاهرة ووجدت نسي خاضعا بدوري لسلطة قوانينها التعسفية. وعندما اشتكيت من ذلك إلى السفارة الألمانية قيل لي: "إن كنت تريد الإقامة هنا فما عليك إلا أن تقبل بما تطلبه منك أجهزة المخابرات من استعداد للإجابة عن أسئلتها." وبالتالي فإن روايتي، وانطلاقا من مصير فردي لشخص بعينه، تعرض اتهاما موجها ضد الأوضاع التي تسود في بلاد مثل مصر. ضد الأوضاع السيئة في ظل الأنظمة البوليسية في البلدان العربية.
تروى وقائع الرواية بضمير المتكلم وتتمحور بصفة مكثفة حول شخصيتها الرئيسية. ووفقا لهذه الزاوية تبدو الشخصيات الأخرى للرواية مغمورة شيئا ما. ألم يكن من المحبذ لو أن قصة فشل علاقته الزوجية على الأقل قد حظيت بمكانة أكثر بروزا في الرواية؟
الموزاني: لقد التجأت عمدا لاختيار زاوية نظر المتكلم الراوي من أجل معاينة أفضل للأشياء من خلال شخص سرحان. فهو منغلق كل الانغلاق على وجهات نظره ولا يسمح بأية معاينة موضوعية للأشياء، بل يجعل من نفسه إلها على الأشياء. إنه ينصب نفسه سيدا على الحياة والموت.
بالرغم من وجهة النظر الأحادية التي تتوخاها الرواية، فإنها تروي بالنهاية قصتين. هناك من جهة الطريق التي تقود سرحان إلى التحول إلى قاتل، ومن جهة أخرى هناك قصة محاولته بدء حياة جديدة في القاهرة، محاولة كان من شأنها، لو أنها كللت بالنجاح، أن تمنع حدوث الجريمة التي اقترفت في ما بعد. فما هي العلاقة التي تربط بين هاتين القصتين؟
الموزاني: أعتقد أن الحياة قائمة في جزء كبير منها على المصادفات. فلو أن سرحان التقى بامرأة أخرى، من يدري، لعله كان سيسصبح شخصا آخر. فالرواية هي أيضا رواية الفرص الضائعة. وفي مصر أيضا لم يجد سرحان من سند يعضده، وصديقه قد تخلى عنه وخذله.
تقدم الرواية صورة قاتمة جدا عن الحالة التي يعيشها عراقي ألماني. فهل يتفق هذا جزئيا ومشاعر حياتك الخاصة؟
الموزاني: طبعا لا. بل إنه يمكنني أن أتكلم عن الحظ الذي أوتيته للعيش في ألمانيا. هنا يمكنني أن أتكلم مع الناس في الأشياء التي أرغب في الحديث عنها، وهو أمر ليس متيسرا في كل مكان من العالم. هنا ألتقي بنساء يمكنني الحديث معهن في مسائل من الفلسفة والفن والتاريخ، وهو أمر طبيعي جدا هنا. في العالم العربي لا وجود لهذا الأمر، أو أنه لا يوجد إلا في حدود ضيقة. وفي ألمانيا توجد جهود كبيرة لدعم الثقافة، وهذه الثقافة تحظى باهتمام شديد. إن الهوية لا تعني بالنسبة لي هوية بالمعنى الاقتصادي أو السياسي، بل إن هويتي تتحدد بكوني جزءاًً من الثقافة الألمانية.
أجرى الحوار فولكر كامينسكي
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
التبادل الأدبي الألماني - العربي
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء: المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية