"الإسلام كان ينتمي دائمًا إلى أوروبا"
السيد بورغولته، يتم مرارًا وتكرارًا خوض جدالات حادة حول الإسلام وبناء المساجد. فكيف يعلِّق على ذلك الخبير المختص في العصور الوسطى؟
ميشائل بورغولته: أي خبير سوف يكون سعيدًا. لقد كانت دائما الإشكالية الدينية أقرب إلى تاريخ العصور الوسطى من قربها من التاريخ الحديث. بيد أنَّنا في الحقيقة كنا تقليديًا نقتصر كثيرًا على المسيحية الكاثوليكية. ولكن هذا يتغيَّر الآن. ومن خلال الاهتمامات المعاصرة ينتقل أيضًا الإسلام إلى بؤرة الاهتمام.
في كتابك "المسيحيون واليهود والمسلمون - ورثة العصور القديمة وصعود الغرب" تصف العصور الوسطى على أنَّها فترة لانتشار الديانة المسيحية والإسلام واليهودية في وقت متزامن. فهل كانت أوروبا في تلك الفترة أكثر تنوّعًا مما هي عليه في يومنا هذا؟
بورغولته: لقد كانت على الأقل بمثل هذا التنوّع. وعلى الرغم من أنَّ الديانة المسيحية مارست التأثير الأقوى على الثقافة الأوروبية، إلاَّ أنَّ الديانتين، اليهودية والإسلام، كان لهما على أي حال تأثير قوي جدًا.
هل كان الإسلام أكثر من مجرَّد مصدر إزعاج؟
بورغولته: لقد كان الإسلام ينتمي دائمًا إلى الثقافة الأوروبية. وبالتأكيد كان يشكِّل تحديًا، وذلك لأنَّه ظهر في البداية باعتباره دين غزوات وفتوحات. ولكنه استقرّ فيما بعد في أطراف مختلفة من القارة الأوروبية وأثَّر تأثيرًا حاسمًا في نقل العلوم والمعارف القديمة.
كانت إسبانيا وصقلية في العصور الوسطى منطقتين مسلمتين، ثم أصبحت في العصر الحديث منطقة البلقان منطقة مسلمة. هل تشكِّل أوروبا من دون الإسلام باعتباره عامل قوة - مثلما هي الحال منذ الحرب العالمية الأولى - إذن حالة استثنائية؟
بورغولته: الحالة الطبيعية هي حالة تعدّد الأديان. ومنذ نهاية الفترة المتأخرة من العصور القديمة كانت يوجد دائمًا في أوروبا في العصور الوسطى العديد من الثقافات المتزامنة والتي كانت تقوم على أسس دينية. وعودة الإسلام إلى أوروبا - في هذه المرة عن طريق الهجرة السلمية - تعتبر إعادة لهذا الوضع الطبيعي إلى نصابه.
لماذا تناسى المرء ذلك طلية هذه الفترة؟
بورغولته: لأنَّه كان يتم ربط تقدّم الإسلام بأحداث مزعجة. كما أنَّ سقوط القسطنطينية وحصار فيينا أثَّرا تأثيرًا عميقًا في الوعي الأوروبي، مثلما أثَّر فيه أيضًا التهديد المبكِّر في القرن الثامن.
هل يمكن النظر إلى خط النزاع من منظور ديني في هذا الوقت المبكِّر؟
بورغولته: لقد تم اعتبار الفتح الإسلامي لإسبانيا من دون شكّ فقدانًا للحرية. ولكن فكرة النزاع الديني نقلها فقط فرسان الحملات الصليبية الفرنسيين في القرن الحادي عشر إلى هناك. وفي البداية لم يكن هذا النزاع يحتل مكان الصدارة، لاسيما وأنَّ المسيحيين ظلوا يمارسون شعائرهم الدينية بحرية.
إذن لم تكن الحال ستكون مختلفة بالنسبة للقوطيين الغربيين في إسبانيا لو كان الفاتحون من الفرنجة المسيحيين؟
بورغولته: بكلِّ تأكيد؛ على الرغم من أنَّ القوطيين الغربيين كانوا ما يزالوا يعتنقون في هذه الفترة المذهب الآريوسي، بينما كان الفرنجة كاثوليك منذ عهد طويل. وحتى أنَّ لديّ انطباع بأنَّ الهراطقة المسيحيين تمت محاربتهم بشدة أكثر من محاربة المسلمين واليهود. والمرتدّون عن دينهم كانوا يعتبرون أشخاصًا يستحقّون الموت، بينما كانت توجد بين اليهود والمسيحيين والمسلمين من دون شكّ آليات تسامح. وربما كان من المستحيل مع الديانة المسيحية وحدها أن يتطوّر التسامح في أوروبا، حيث كان المرء يقرّ للآخرين اعتناق أديانهم كونهم لم يكونوا يعلمون أفضل بسبب افتقارهم إلى الرؤية الدينية. وفي المقابل لم يكن من الممكن التراجع عن اعتناق الديانة المسيحية.
متى انتهى التسامح الديني؟
بورغولته: لقد كانت دائمًا العلاقة بين الديانات التوحيدية الثلاث متناقضة. ومع الحروب الصليبية ازدادت حدة الصراع. وفيما بعد لم تنته اضطهادات اليهود والمسلمين حتى نهاية العصور الوسطى. وفي ذروة العصور الوسطى نشأت في أوروبا الغربية دول مركزية، وكان يبدو أنَّ كلَّ اختلاف ديني يهدِّد هذه العملية. وفي الدولة المركزية المستقرة مثل بيزنطة كان ذلك مختلفًا. وهناك كان المرء يتسامح مع معتنقي الديانات الأخرى في الأقاليم والأرياف، طالما كانت العاصمة خالية منهم.
إذن الأصولية الدينية هي ظاهرة ظهرت لدى المجتمعات المتقدمة نسبيًا؟
بورغولته: إذا كنت تقصد بذلك المجتمعات ذات الكثافة السكَّانية العالية في الدولة، فإنَّ الأمر كذلك. وحيثما كان الناس، مثلما كانت الحال في بداية العصور الوسطى، يعيشون غير متمركزين في مناطق غير مركزية وكانت عملية التواصل صعبة بينهم، لم تكن هناك مثل هذه المبادئ المتطرِّفة.
أتقول إنَّ هناك صلة بين التوحيد ونظام الحكم الملكي؟ ألم تكن في العصور القديمة ممالك ، على الأقل في أواخر العصور الوسطى جمهوريات؟
بورغولته: الإسلام عل سبيل المثال لم يكوِّن أي نظرية سياسية. وعلى الرغم من أنَّ الخليفة في بغداد كان يعتبر الزعيم الروحي، إلاَّ أنَّه لم يكن يمارس أي سلطة سياسية حصرية. ولم يكن من الممكن مقارنة ذلك مع السلطة الملكية في الغرب.
ولكن هذا يعني أنَّ الصلة ما بين السياسة والدين كانت في المسيحية أضيق عما كانت عليه في الإسلام؟
بورغولته: بالتأكيد لا؛ إذ كان الملوك المسيحيون يعرفون منذ البداية أنَّ عليهم التمييز بين سلطة الأسقف وسلطة الملك. وهذا كان يمنح الحكَّام أيضًا بعض الحريات التي لم تكن متوفِّرة من حيث المبدأ لدى الحكَّام في المحيط الإسلامي - على الرغم من أنَّهم كثيرًا ما كانوا في الحقيقة يستفيدون من مثل هذه الحريات.
لقد كتبت أنَّ الحياة السياسية في الأندلس ابتعدت إلى حدّ كبير نسبيًا عن الخلافة. ولكن في المقابل أًلم يكن من الممكن بطبيعة الحال الحديث عن فصل الدين عن الدولة في الأسقفيات الأميرية الألمانية؟
بورغولته: في الأندلس كان يوجد في الحقيقة ازدهار سياسي. ولكن وعلى العكس مما كانت عليه الحال في الغرب لم تكن تتم معالجة هذه الظواهر نظريًا والسماح بها رسميًا. وفقط أتاتورك ألغى الخلافة بشكل منهجي.
تعتبر العلاقة بين السياسة والدين غير محدَّدة ثقافيًا، فهل يمكن أن تتطوّر بشكل مختلف؟
بورغولته: يدور الحديث كثيرًا في يومنا هذا حول تحديث الإسلام باعتباره شكلاً من أشكال اللحاق بعصر التنوير. وأنا لا أعتقد أنَّه من الحكمة أن نراهن على ذلك. فلا بدّ من أخذ الاختلافات الأساسية بين الأنظمة السياسية المسيحية والإسلامية بعين الاعتبار. ولكن ومع ذلك فإنَّ تاريخ العصور الوسطى يبيِّن أنَّ المصالحة المؤقتة تعدّ أمرًا ممكنًا.
في العصور الوسطى كان معظم اليهود يعيشون في المناطق الخاضعة لنفوذ المسلمين. فهل تعتبر معاداة السامية في الإسلام ظاهرة خاصة بالقرن العشرين؟
بورغولته: يجب علنا ألاَّ نتحدَّث عن معاداة السامية، وذلك لأنَّه لا وجود هنا لعامل العنصرية. وما من شكّ في أنَّه كانت توجد معاداة لليهودية. وفي إسبانيا الإسلامية (الأندلس) تظهر هذه الظاهرة للمرة الأولى في القرن الحادي عشر، وذلك عندما ارتقى اليهود إلى قمة الإدارة - وانتهكوا بذلك حكم القرآن الذي يفيد بأنَّه لا يجوز لغير المسلمين أن يحكموا المسلمين. ولكن على العموم كان اليهود أقرب إلى المسلمين من المسيحيين.
لماذا كانت معاداة اليهود واضحة أكثر لدى المسيحيين مما كانت عليه لدى المسلمين؟
بورغولته: كان يوجد أيضًا هنا تقليد قوي خاص بالاستعداد للتسامح، حيث كان ينظر إلى اليهود على أنهم هم المحافظون على كتاب العهد القديم. وفي أثناء الاضطهادات والمذابح التي تعرَّض لها اليهود في منطقة الراين الأوسط (الألمانية) كان الأساقفة هم الذين يريدون حماية اليهود من الغوغائيين المسيحيين. ومنذ القرن الثاني عشر كانت توجد دائمًا عمليات اضطهاد لليهود وكذلك عمليات حماية لهم. والكنيسة لم تترك قطّ أي مجال للتشكيك في المبدأ القائل بعدم جواز قتل اليهود.
أجل، فقد نشأت ولفترة قصيرة من الزمن إلى الشمال من البحر الأسود دولة يهودية - أي مملكة الخزر. فكيف حدث ذلك؟
بورغولته: من أجل تجنّب انصهار اليهود وذوبانهم في مجتمعات ودول جيرانهم، تعمَّدت الطبقة الحاكمة إلى اتِّخاذ قرار ديني مختلف. ولكن أكثرية السكَّان ظلت مسلمة أو مسيحية. وتوجد من القرن العاشر رسالة رائعة أرسلها سياسي يهودي من إسبانيا إلى أمير الخزر. وفي هذه الرسالة يتحدَّث السياسي اليهودي الإسباني بقدر كبير من الإعجاب عن أنَّ اليهود صار لديهم الآن في آخر المطاف دولة خاصة بهم - بعد نحو ألف عام من تدمير دولتهم من قبل الرومان.
أجرى الحوار رالف بولمانّ
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: صحيفة تاغستسايتونغ/قنطرة 2010
يعمل ميشائيل بورغولته منذ عام 1991 أستاذًا جامعيًا لتاريخ العصور الوسطى في جامعة هومبولدت في برلين، ويدير هناك معهد تاريخ أوروبا المقارن في العصور الوسطى. وصدر له مؤخرًا كتاب بعنوان "المسيحيون واليهود والمسلمون - ورثة العصور القديمة وصعود الغرب"، عن دار نشر زيدلر، 2006، في 639 صفحة.
قنطرة
حوار الأديان في العصور الوسطى:
اليهود والمسيحيون والمسلمون بين الصراع والتفاهم
إصدار جديد يتناول فكرة التسامح الديني في العصور وبعض الشخصيات الأوربية التي دخلت في حوار جدي مع فقهاء مسلمين. مراجعة كريستيان هاوك
الأندلس
تعايش الأديان في الماضي
يدعو مارك كوهين، أستاذ في جامعة برنستن الأمريكية، المسلمين واليهود إلى إعادة اكتشاف الثقافة المشتركة التي كانت تجمعهم في العصور الوسطى. ويعرض في مقاله أسباب اختلاف تعامل المجتمع الإسلامي والمسيحي مع الأقلية اليهودية في تلك الحقبة.
نموذج التعددية الثقافية في العصور الوسطى:
معرض عن الفيلسوف ابن ميمون
حياة وأعمال ابن ميمون، المثقف المعترف به في الأوساط الإسلامية والمسيحية واليهودية، هما موضوع معرض ينظمه المتحف اليهودي في فرانكفورت بمناسبة الذكرى الثمانمائة لوفاة الفيلسوف وكمساهمة في معرض الكتاب لهذا العام، الذي استضاف العالم العربي.