''لا مكان لي في لبنان بسبب نظامه الطائفي المعقَّد''
السيِّد محمود تركماني، من المثير للانتباه في لبنان وجود الكثير من الموسيقيين الذين يحاولون الجمع بين التقاليد والحداثة. هل تعتبر نفسك جزءاً من هذه الحركة؟
محمود تركماني: أنا أنظر إلى نفسي أكثر على أنَّي محارب وحيد. ولفترة طويلة من الزمن لم أكن أريد أن تكون لي أية علاقة بالتقاليد العربية، وذلك لأنَّني كنت أعتقد أنَّ هذه الموسيقى متخلفة تمامًا مثل المجتمعات العربية. وثم لاحظت أنَّنا نحن الموسيقيين الشرقيين نخاف من التقاليد. ولذلك نلجأ إلى اللغة الموسيقية الغربية التي تسمح في الواقع استخدام كلِّ شيء.
عندما تتحدَّث حول "الخوف من التقاليد" فهل تقصد بذلك الخوف من تغيير هذه التقاليد؟
تركماني: لا، بل المشكلة أنَّ معظم الموسيقيين والمؤلفين الموسيقيين لا يعرفون تقاليدهم معرفة جيدة قطّ. ومن لا يعرف هذه التقاليد جيدًا لا يمكن أن يطوِّرها ويغيِّرها. وأنا في المقابل كنت أعرف التقاليد جيدًا ولكنني لم أكن أريد الاهتمام بها. وبالإضافة إلى ذلك لقد تم تلقيني في معهد الموسيقي في موسكو أنَّ الموسيقى الشرقية هي فلكلور لطيف ولا مكان لها في هذا المعهد. واستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى تمكنت من التغلّب على هذه الحواجز. وكنت أتساءل دائمًا لماذا لا يجرؤ أي مؤلف موسيقي عربي على تأليف حفل موسيقي منفرد حقيقي يعزف على آلة موسيقة عربية تقليدية. والكثيرون يعتقدون أنَّك إذا كنت تدمج آلة العود مع الأوركسترا الأوروبية فأنت مبتكر وتبني جسورًا بين الثقافات. ولكن لا توجد هنا سوى محاولات خجولة جدًا وتافهة ومزركشة ويغلب عليها الطابع الغربي.
لقد أوجدت أسلوبًا مختلفًا وعلى الفور تمت مهاجمتك في مؤتمر للموسيقى العربية. هل يمكنك إخبارنا كيف حدث ذلك؟
تركماني: كانت تلك على الإطلاق المرة الأولى التي تجرأت فيها على الاهتمام بالموسيقى التقليدية. وقبل ذلك حقَّقت مؤلفاتي الموسيقية التي كتبتها للرباعيات الوترية وخماسيات بلوك فلوت وأوركسترا الحجرة في كلّ من القاهرة والجزائر والمغرب نجاحًا كبيرًا. وما دام المرء يؤلف لهذه الآلات الموسيقية الغربية فيمكنه أن يفعل ما يشاء. وثم جازفت بالعمل في فرقة موسيقية عربية واستخدمت الأساليب نفسها ونفس الاهتمام وقمت بإعداد العديد من "الموشحات" العربية الأندلسية. وقبل ذلك كان يتم استقبالي بحرارة كواحد من بناة الجسور ولكن فيما بعد كانت ردود الفعل مدمِّرة.
هل يعود سبب ذلك إلى كون المشاركين في هذا المؤتمر يعتبرون التقاليد مقدَّسة ولا يجوز المساس بها؟
تركماني: هذه هي عقلية الخاسر. وبنظري لم يتبق من المشرق منذ طرد العرب من الأندلس شيء سوى الدين والتقاليد التي تكتنف الموسيقى والحياة الجنسية. وعندما يقدم شخص ما على التطرّق إلى هذه التابوهات الثلاثة فعندها يشعر المرء بأنَّه غير آمن ويتعرَّض لهجوم. وبعد ذلك تمامًا مررت بهذه التجربة في كلّ من المغرب والجزائر والأردن. ولم أكن أريد في آخر المطاف الرقص على أنغامهم وكان ردِّي على هذه الإهانات بعملي "يا شر موت" الذي وصفت فيه نفسي بأنَّني "شرموت".
وعندها لم يعرفوا على الإطلاق كيف يردون على ذلك لأنَّ هذه أسوأ شتيمة في اللغة العربية. وعلى أية حال إنَّ "موشحاتي" تُدرَّس في المعاهد الموسيقية في كلّ من تونس والدوحة ولكنهم يكتمون اسمي. ولم ينكشف ذلك إلاَّ عندما عمل معي في وقت لاحق طالبان من هناك وكانت دهشتهما كبيرة بعد أن علما أنَّ هذه الأعمال من مؤلفاتي الموسيقية. وبالتالي فأنا تمكَّنت على ما يبدو من تغيير شيء ما.
لقد غادرت لبنان في فترة الحرب الأهلية. فهل شكَّلت في تلك الفترة المحرَّات التي تحدَّثت عنها دوفع مغادرتك بلدك؟ وهل تستطيع تصوّر العودة إلى هناك في ظلِّ ظروف معينة؟
تركماني: لا أريد أن أكون شخصًا مملوءً بالحنين إلى الماضي والوطن. فأنا لا أرى في الوقت الراهن أي مستقبل لي في لبنان ولا حتى في جميع أنحاء العالم العربي. كما أنَّني من أصحاب الفكر المستقل الذين لا مكان لهم هناك وخاصة في لبنان بنظامه الطائفي المعقَّد. وعلى سبيل المثال إذا كنت تريد الحصول على وظيفة ما هناك فيجب عليك أن تأخذ بعين الاعتبار عدد الموظَّفين السنَّة والموارنة والشيعة الموجودين في دائرة ما. إذ لا يتم تعيين الشخص بناءً على قدراته بل بسبب انتمائه إلى جماعة ما وتعاطفه مع أحد الحمقى.
وأنا أفضِّل مواصلة العمل ضمن إطار معيَّن في هذه البلدان أو تنفيذ مشاريع فيها. وهذا لا يحتَّم عليّ أن أكون هناك بالضرورة لأنَّ العالم قد أصبح صغيرًا. كنت في السابق ثوريًا ومن المتحمِّسين لأغاني مارسيل خليفة اليسارية السياسية. كما أنَّني كنت شيوعيًا ولم أكن أريد تغيير العالم العربي وحده بل تغيير العالم برمَّته وجعله اشتراكيًا. وأمَّا الآن فأنا أكافح بوسائل أخرى حتى لا أدع العالم العربي يغيِّرني.
من الممكن أن يتوقَّع المرء من شخص مثلك أن يبحث عن الإلهام الموسيقي في باريس أو لندن... كيف تبدو الحياة بالنسبة لمفكِّر مستقل في الريف السويسري؟
تركماني: تسود في سويسرا أجواء جيدة جدًا. والناس هنا متسامحون معي وحتى أنَّهم يتقبَّلونني ويقدِّمون لي العمل ويساندونني في مشاريعي. وأنا الآن أشعر براحة كبيرة في هذه القرية التي تقع بالقرب من مدينة برن ويبلغ عدد سكَّانها مائتي نسمة. وطبعًا لا أحد يفهم هنا موسيقاي ولكنهم يعتقدون أنَّني رجل ذكي وأفعل شيئًا مفيدًا. والمدن التي ذكرتها جيِّدة للأشخاص الذين يعزفون موسيقى عالمية أطلق عليها اسم "تبّولة موسيقى" مثل الموسيقى التصويرية في إعلان لماكرة بينيتون فيه كلّ شيء لطيف جدًا والجميع يحبّون بعضهم.
تعدّ أعمالك تجريبية للغاية فهل تشعر بارتباط مع الموسيقى الجددة، الموسيقى ذات النغمة الاثنا عشرية؟
تركماني: لا على الإطلاق، أنا لا استخدم سلم النغمة الاثني عشرية ولا حتى المقامات، بل أبحث عن الموسيقى في داخلي، في لغتي الموسيقية الخاصة. ومن الممكن أن أبدأ فجأة التأليف بأسلوب جديد يستطيع التعبير حسب التقنية الأنسب عن مشاعري وعن أفكاري، إذ إنَّني لا أريد أن أكون عقائديًا قطّ. وفي عملي "يا شر موت" أردت وبمختلف الوسائل إظهار الإهانات التي انهالت عليَّ. ولهذا السبب تسمع في هذا العمل عناصر مختلفة تمام الاختلاف، متناغمة وغير متناغمة وتجريدية ومحدَّدة وكذلك أيضًا عناصر تقليدية. لقد تجاوزت التصنيفات.
إذا كنت تكتب بشكل غير مقصود وتتجنَّب العناصر المتناغمة من دون قصد، فما هي المعايير التي تعتمدها في التأليف الموسيقي؟ هل تعتمد لغة حرة تمامًا ومرتجلة؟
تركماني: الارتجال أيضًا جزء من عملي الإبداعي، ولكنني لا أحب استخدام هذه الكلمة وذلك لأنَّها تشير دائمًا وبسرعة إلى موسيقى الجاز. في الموسيقى الشرقية لدينا وصف أفضل بكثير هو الابتكار في اللحظة. وأنا أميل إلى هذا التفسير. تعلمت أثناء دراستي أنَّ بوسع المرء وضع هياكل قبل البدء بالتأليف. والآن أصبحت على العكس تمامًا، أصبحت أجلس أمام ورقة بيضاء أو أمام الحاسوب وأسلّم نفسي ليداي أو فمي. ومقطوعاتي الموسيقية تتطوَّر من خلال مشاعري التي أشعر بها في تلك اللحظات مثل كرة الثلج التي تتكوَّن في أحجام وأشكال مختلفة. والأسلوب بالنسبة لي نوع من أنواع السجن.
لقد عدت من جديد إلى آلة العود بعد أن قطعت طريقًا طويلاً مع آلة الغيتار الكلاسيكي التي درستها في موسكو. فهل ما يزال العود بالنسبة لك الآلة الموسيقية العربية بامتياز؟
تركماني: لقد رافقني العود منذ أن كان عمري خمسة أعوام. وكرهته لأنَّني كنت أعارض دائمًا وبشكل تلقائي بسبب العناد أو الغباء كلَّ ما كان يحبه والدي. وكنت أريد دائمًا أن ينظر لي على أنَّي عازف غيتار، وذلك لأنَّ الغيتار كان يعني بالنسبة لي العالم الجديد الليبرالي بينما كان العود يجسِّد الأغاني الأبدية المفعمة بالحزن والبكاء. ولكن آلة العود آلة رائعة لديها لغتها الخاصة بها التي يمكن من خلالها التعبير عن شيء لا يمكن التعبير عنه بأية آلة موسيقية أخرى. وكنت أتساءل هل هذه الآلة الموسيقية هي المتخلفة؟ بالطبع لا وثم أدركت نَّ الوحيد المتخلف هو أنا بالذات. ومن الممكن أن تكون علاقتي بهذه الآلة الموسيقية حداثية أو معاصرة، تقليدية أو من الطراز القديم، ولكن ليس الآلة بحدّ ذاتها.
سبق وأن ألفت موسيقى مسرحية "عودة ليليث" وشاركت في إنجاز تمثيلية إذاعية اسمها "المحيط في كشتبان". وقريبًا ستصدر لك مجموعة كاملة من التسجيلات الجديد. هل لك أن تعطينا فكرة عن بعض أعمالك!
تركماني: قمت بالاشتراك مع فرقة اسمها "Chant 1540th" بتسجيل ألبوم "لموسيقى المودال" فيه تناوب بين الترانيم الميلادية ومقطوعات على العود ولكن على نحو لا يجعله يبدو مزركشًا وتقليديًا. وبعد فترة قصيرة سأقوم بالإضافة إلى ذلك بتسجيل ألبومين منفردين سيضم الأوَّل أسلوبي من موسيقى الفلامنكو وقد شجَّعني على تسجيله العازف الإسباني باكو دي لوسيا بعد زيارته لي. وسيكون الألبوم المنفرد الثاني راديكاليًا للغاية وصاخبًا وقد استلهمته من الربيع العربي الذي ربما يعتبر أقرب إلى الشتاء منه إلى الربيع - وهذا ما يزال أمرًا مجهولاً حتى الآن.
ما رأيك في الربيع العربي؟ هل ستكون هناك فرصة للتغيير أم أنَّ العرب سيعودون مرة أخرى إلى عاداتهم القديمة؟
تركماني: نحن وعلى أية حال مقبلون الآن على حقبة ستتصادم فيها المتناقضات الاجتماعية والثقافية مع بعضها بعضًا. ومن الممكن أن تنشأ من حالة الفوضى هذه أشياء مثيرة للغاية. وحتمًا سوف تصل القوى المتطرِّفة إلى السلطة وذلك لأنَّها منظَّمة بصورة أفضل من تنظيم حركات الشباب الديمقراطية والليبرالية. غير أنَّهم سيفشلون وذلك لأنَّ ممثِّليهم لا يملكون أية حلول لهذه المجتمعات. كما أنَّني أرى هزيمتهم في الانتخابات القادمة. وقبل فترة غير بعيدة كنت في القاهرة وتحدَّثت مع كثير من الفنَّانين والمثقَّفين، وهم يشعرون بأنَّهم معزولون تمامًا ولا يعرفون حتى كيف ستكون الأمور بعد شهرين، ومن سيحصل مثلاً على دار الأوبرا. وحالتهم مربكة، وسوف يستغرق الأمر جيلين حتى تعتاد المجتمعات هناك على عادات جديدة.
أجرى الحوار: شتيفان فرانتسن
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012