المبحرون على هامش التيار

دار لينوس للنشر، عنوان لمن يبحث عن الأدب العربي الرفيع

إذا ما صدق كلام العالمين بأسرار صناعة الأدب والنشر في ألمانيا، للفظت دار نشر كهذه أنفاسها الأخيرة. فمن وجهة النظر الاقتصادية، لا تجني هذه الدار ببرنامج يتخذ من الأدب العربي المعاصر محور اهتمام رئيسيا سوى السخرية والاستهزاء. ورغم ذلك فلا تعد دار لينوس للنشر من الدور الصغيرة التي تتشبث بأركان معينة ولا تحيد عنها، فهي أكثر طموحا من ذلك وهي تعتني بإصدار كتب جيدة، وقد صار عمرها واحد وثلاثين عاما وهو أكثر بكثير من العمر المقدر لدار نشر صغيرة ومحدودة التطلعات. يمكن لنا أن نصف التصور الذي يعمل به مديرا الدار هايدي زومرر Heidi Sommerer وتوم فورر Tom Forrer منذ البداية تقريبا، على أنه ليس مخالفة لروح العصر، بل إبحارا حذرا على هامشه. في البداية كانت الكتب اليسارية والأدب السويسري ( لكتاب مثل أناماري شفارتسنباخ Annemarie Schwarzenbach وغيدو باخمان Guido Bachmann وبليس سندرار Blaise Cendrars) هما المحوران المميزان لدار النشر التي كان من المفترض أن تسمى "ليروس" على اسم جزيرة المعتقلين أثناء الحكم الديكتاتوري في اليونان. أدت غلطة مطبعية وقلة الأموال اللازمة لطبع كتاب من جديد إلى احتفاظ الدار باسمها الحالي. ترى هايدي زومرر حاليا أن اسم "لينوس"يبدو أكثر ملاءمة.

بدأ الاهتمام بالأدب العربي في عام 1983 من خلال التعرف على المستشرق هارتموت فيندريش Hartmut Fähndrich . صحيح أن الأمور سارت ببطء بعد النجاحات الأولى لأعمال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني. لكن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 قد أدى إلى وضع الأدب العربي في دائرة الضوء وفي نفس الوقت انتعش الأدب النسائي. ومنذ ذاك الحين تربعت كاتبتان من لبنان على قمة قائمة أفضل المبيعات بدار لينوس وهما إميلي نصر الله وحنان الشيخ،Lenos Verlag
Spalentorweg 12
CH-4051 Basel
Switzerland

Tel *41 (0) 61 261 34 14
Fax *41 (0) 61 261 35 18

E-Mail: lenos@lenos.ch

www.lenos.ch

وفي حين أن إميلي نصر الله تتميز بطريقة سرد تقليدية، أثبتت حنان الشيخ أنها واحدة من الكاتبات العربيات الطليعيات. تأخذنا أحداث رواية "حكاية زهرة" الصادرة عام 1980، والتي كانت سببا في الشهرة المفاجئة لحنان الشيخ (من مواليد عام 1945)، إلى بيروت وقت الحرب الأهلية. تعاني زهرة غير المتزنة نفسيا من قهر والدها المستبد ويغتصبها صديق أخيها وتعالج بالصدمات الكهربائية ولا تجد الحنان المنشود إلا لدى أحد القناصة، ثم تحبل منه. وتعد حنان الشيخ من البارعات في تقديم رؤى سردية متعددة وإبراز وجهة النظر الأنثوية في أعمالها وهو ما يدحض الأحكام المسبقة التي كثيرا ما يصدرها الغرب على النساء العربيات.

ورغم هذه الجودة العالية، يرى هارتموت فيندريش أن الأدب العربي ما يزال يعامل باستخفاف، فإلى جانب الأحكام المسبقة، تعد شاعرية الرواية العربية والتي تتعارض مع عادات القراءة الألمانية من العوامل المؤثرة في الاستقبال الجيد لهذا الأدب. فلو لم ينفتح القارئ الألماني ويكون مستعدا لخوض خبرات قراءة مختلفة، فلن ينجح حتى في تذوق أكثر الأعمال تميزا. وتعد أعمال الروائي الليبي إبراهيم الكوني مثالا متميزا على ذلك. نشأ الكوني المولود عام 1948 في الصحراء الليبية بين بدو قبائل الطوارق الرحل وهو يروي عن العنف والتدمير والجنس في عالم آخذ في الزوال. تنزل المصائب بالمجتمع القبلي الصارم المقاوم لعنفوان الصحراء مرارا وتكرارا، وتدمر دورة الحياة المشتركة الهشة بين الإنسان والطبيعة، سواء كان ذلك من خلال الكوارث الطبيعية أو من خلال دخول الغرباء في حياة القبيلة مثلما في "نزيف الحجر" (صدرت ترجمتها بدار لينوس عام 1995)، أو من خلال تجاسر أحد الأفراد مثلما في رواية الكوني "عشب الليل" التي صدرت ترجمتها بالألمانية في العام الماضي.

في هذه الرواية لا توجد حدود أخلاقية متوارثة ولا مجال لاحترام "قانون الأسلاف"، ونرى وصفا لكل من العنف والجنس في ذروتهما وقد استثارهما عشب الليل المليئ بالأسرار والمهيج للغرائز. وليس من النادر أن يتعدى الكوني بأسلوبه المكثف المفخم ورمزيته المؤثرة حدود ما يتوهمونه هنا أدبا جيدا. هذا الأسلوب المتخطي والمتعدي لحدود ذاك الأسلوب الجيد هو سر أدب البدوي إبراهيم الكوني. كذلك تعد روايته الكبرى "المجوس" -التي تتألف من 800 صفحة وتعتبر بمثابة "ملحمة الطوارق"- نهرا سرديا بلا ضفاف وهي تشبه في نفس الوقت كتب الحكمة الشرقية القديمة، وتقدم سعيا حثيثا نحو الحياة الصحيحة. في ظل الظروف القاسية للصحراء تُطرح الأسئلة التالية؟ الاستقرار أم الترحال؟ التجارة أم الرعي، الروح أم المادة، البحث عن السعادة في الدنيا أم في الآخرة؟ إن قراءة رواية "المجوس" تعادل خبرة روحية، لا يمكن للمرء أن يعايشها إلا في الآداب الشرقية.

نذكر من بين الأسماء الكبيرة التي صدرت أعمالها بسلسلة فيندريش الكاتب السوداني الطيب صالح، فبعد النجاح الذي لاقته ترجمة روايته "موسم الهجرة للشمال" عام 1998 (من أكثر الروايات التي ينصح بقراءتها في برنامج دار لينوس للأعمال العربية) أضيفت إلي الرواية في العام الماضي قصص الطيب صالح. ويطرح الأديب في هذه القصص، مثلما في الرواية موضوعات كالمواجهة بين الشرق والغرب وبين التراث والحداثة من خلال المزج ببراعة ما بين عرض الأحداث برقة وبوحشية.

إن عدم وجود ملامح واضحة لسوق الكتاب العربي، حيث لا توجد لوائح للكتب التي يمكن الحصول عليها ولا يوجد نقد أدبي رزين، يجعل من البحث عن أعمال أدبية عربية عملا بحثيا شاقا ومكثفا. من هذا المنطلق يبدو تعاون عدد من دور النشر والمترجمين الأوربيين من أجل تبادل الخبرات دليلا هاديا في ذاك المجال. وثمرة هذا التعاون في الدول الناطقة بالألمانية هي السلسلة التي أصدرتها دار لينوس بعنوان "شهادات البحر المتوسط" والتي أخذت على عاتقها ترجمة أعمال السيرة الذاتية الوثائقية العربية إلى أكبر عدد من اللغات السبع المشاركة في المشروع.

ونجد في السيرة الذاتية للكاتب الفلسطيني المسيحي جبرا إبراهيم جبرا والكاتبة العراقية عالية ممدوح قيمة أدبية كبيرة، فعالية ممدوح تصف فترة البلوغ والمراهقة في مدينة بغداد القديمة، بينما يحكي جبرا عن طفولته بمدينة بيت لحم في العشرينيات. ولو أوليت مثل هذه الأعمال وكذلك أعمال الطيب صالح العناية الكافية، لكانت كفيلة بإخراج الأدب من وجوده الهامشي. ولا شك أن هناك سلسلة من الأعمال العربية ذات الثقل والتي تتطلب اهتماما خاصا، مثل رواية حسن داود "غناء البطريق" التي صدرت بالألمانية في الخريف الماضي وتدور أحداثها في لبنان ما بعد الحرب.

ومن يجد أن ذلك فوق طاقته فليقرأ هذا المزيج من القصة والمقالة والسيرة الذاتية والذي يحمل عنوان "ذاكرة النسيان" وفيه يصف الشاعر الفلسطيني محمود درويش أيام الحصار الإسرائيلي عام 1982 من وجهة النظر الفلسطينية. يصف درويش في أحد المقاطع الشهيرة في الأدب العربي الحديث وعبر صفحات طوال محاولة إعداده للقهوة العربية وسط وابل القنابل. وهذه الصورة تصلح كتشبيه جميل للعمل الذي تقوم به دار لينوس للنشر: فهي تقدم روائع الأدب العربي معارضة بذلك تلك العقلانية المتوهمة ومعرضة وجودها كدار نشر للخطر. أما بخصوص سكر القهوة، فأمر يرجع للمزاج الشخصي.

بقلم شتيفان فايدنر، عن صحيفة "دي تسايت" الألمانية بتاريخ 5 حزيران (يونيه) 2001، ترجمة أحمد فاروق