مآسٍ إنسانية وسط مستقبل غامض
"هذا هو مخيم أدري الذي يجذب انتباه العالم"، يقول سيباستيان أريفيه وهو ينظر إلى المساكن المؤقتة المبنية من الأغصان والقماش المهترئ، والممتدة على مرمى البصر. يدير أريفيه، العمليات الإنسانية في المخيم لصالح منظمة أطلس لوجيستيك، تحت لواء منظمة الإنسانية والدمج غير الحكومية. وقد استقر أكثر من 250 ألف شخص في هذا الموقع الذي لا يُعتبر بموجب القانون الدولي مخيماً، بل مجرد نقطة عبور. ويعني هذا التمييز عدم وجود استثمار طويل الأجل هنا، كما هو الحال في المخيمات الأخرى.
تعتبر أدري، وهي بلدة تشادية تقع في واداي بالقرب من الحدود السودانية، اليوم محور أزمة أكبر منها بكثير. إذ يعد أقصى شرق تشاد معزولا عن بقية البلاد، وخاصة عن العاصمة نجامينا في الغرب بسبب الافتقار إلى البنية التحتية للنقل. تعتبر الدروب الترابية الوعرة ذات اللون الأصفر المائل إلى الإحمرار، عبر المناظر الطبيعية ذات التنوع البيولوجي، الطرق الوحيدة المؤدية إلى المدينة.
تغيرت ملامح المنطقة بسبب الحرب الدائرة في السودان المجاور، التي اندلعت في نهاية أبريل/نيسان 2023 بين طرفين عسكريين. من جهة القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، الذي يحكم البلاد منذ الانقلاب في عام 2021. وعلى الجانب الآخر، قوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي أُنشئت رسميا عام 2013، والتي يطمح قائدها محمد حمدان دقلو إلى الاستيلاء على السلطة.
''القوى السياسية غارقة في الصراع''
تحسن محدود للوضع الإنساني في السودان عقب مفاوضات جنيف، في الوقت الذي تضغط واشنطن لوقف الحرب المستعرة منذ نحو العام ونصف، كما يقول رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية عثمان ميرغني لقنطرة.
وتسببت المعارك العنيفة خاصةً في العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور، في نزوح أكثر من 11.5 مليون شخص، بما في ذلك أكثر من 5 ملايين طفل، فروا إلى مناطق أخرى داخل السودان أو إلى البلدان المجاورة. وقد عبر 640 ألف لاجئ سوداني الحدود إلى تشاد. ومنذ ذلك الحين، تحشد الجهات الفاعلة الإنسانية جهودها في مواجهة هذه الأزمة الضخمة في تشاد التي تعد من بين أقل البلدان نمواً في العالم، وفقاً لتصنيفات مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية.
يقول كزافييه كريتش، نائب المدير الإقليمي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: "إنه صراع لا أعتقد أن جميع الأطراف الفاعلة توقعته". ويضيف أن الحرب اتسمت "بمستوى غير مسبوق من انتهاكات حقوق الإنسان". "بعد 29 عاماً من العمل مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لا يمكنني أن أعتاد على هذه المآسي الإنسانية، وعلى النساء اللواتي شاهدن أزواجهن وأطفالهن يحرقون أحياءً في منازلهن، وعلى عمليات الاغتصاب، وعلى الهجمات على المدنيين الذين يحاولون الفرار".
مدينة صفيح مكتظة
يقول إيريك نديرامييه، رئيس برامج إعادة التأهيل التابعة لمنظمة الهجرة الدولية في المنطقة، إن مخيم أدري "عبارة عن مدينة أكواخ من الصفيح مكتظة". يوضح: "من المفترض أن يبقى اللاجئون هنا لمدة شهر واحد فقط كحد أقصى لإتمام الإجراءات الرسمية المرتبطة بوصولهم، ثم يغادرون إلى مخيم رسمي. لذلك لا توجد رعاية فعلياً".
وكما توضح أليدا ماهورو، المديرة الفنية لبرامج الصحة النفسية في منظمة الصحة الدولية، فإن العديد من اللاجئين يعيشون هنا منذ أكثر من عام، "معظمهم يقاومون فكرة الانتقال إلى مخيمات أخرى قد تكون منظمة ومجهزة، لكن بعضهم يشعرون أن هذه المخيمات معزولة تماماً. الحياة هنا (في هذا المخيم) أكثر حيوية لأن اللاجئين قريبون من المدينة، لذا يمكنهم العمل وإنشاء أعمال صغيرة وكسب القليل من المال".
تبدو الحدود الفاصلة بين هذا المخيم غير الرسمي وبلدة أدري تختفي تدريجياً، ويمكن ملاحظة أجواء قروية حقيقية عند مدخل الموقع. في الساعات الأولى من الصباح الباكر، ينتعش سوق صاخب، حيث يقوم الرجال بنقل البضائع على ظهور الخيل أو الدراجات البخارية، وتنصب النساء أكشاكاً لبيع المواد الغذائية.
في الجوار، ينتظر حوالي مائة شخص، معظمهم من النساء والأطفال وعدد قليل من كبار السن، بصمت وصبر تحت المطر أمام خيام التسجيل التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. لقد وصلوا من السودان خلال الليل.
ويوضح كريتش أن المشكلة الرئيسية في الموقع هي أنه قريب للغاية من السودان، "يجب إبعاد اللاجئين عن الحدود حفاظاً على سلامتهم الشخصية. عندما تكون على بعد بضعة كيلومترات فقط، فإن خطر التعرض لهجمات من بلد المنشأ يكون مرتفعاً للغاية". في العام الماضي، سقطت قذيفة أطلقتها ميليشيا من السودان على الموقع، مما أدى إلى إصابة شخص واحد.
"وجود عدد كبير من اللاجئين في المناطق الحدودية يعني التعرض لخطر امتداد النزاع. كما أن هناك احتمال تسلل مقاتلين مسلحين بين اللاجئين. ولهذا السبب، فإن هدفنا هو إبقاء اللاجئين على بعد 50 كيلومتراً من الحدود بشكل كاف"، يقول نائب المدير الإقليمي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
الفارون من الفظائع في دارفور
وإلى الجنوب، على بعد ساعتين بالسيارة، يظهر مخيم أبوتنقي. ويوجد هنا العديد من المنظمات غير الحكومية أكثر من تلك الموجودة في أدري، حيث تقدم الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم. قطع صغيرة من الأرض، مصممة بنمط شبكي ومقسمة بأغصان مزروعة في الأرض، هي موطن كل عائلة.
تتضمن كل قطعة أرض مسكنًا خشبيًا أساسيًا مغطى بقماش مشمع، وقد أقامت بعض العائلات بجواره مأوى أصغر للترحيب بالزوار. ويستخدم البعض أراضيهم لزراعة الذرة الرفيعة التي تبرز أوراقها الخضراء الزاهية في مقابل اللون الباهت للمخيم.
أنشئت هذه المستوطنة على عجل في يونيو/حزيران 2023، وهي تأوي 53 ألف لاجئ ومقسمة إلى مناطق مرقمة: المربع 1، المربع 2، المربع 3، إلخ. من المستحيل ألا يلفت انتباهك العدد الهائل من الأطفال الذين يعيشون هنا ويلعبون على الطرقات تحت نظرات أمهاتهم.
في منطقة إعادة التأهيل في مستشفى منظمة الإنسانية والدمج، يحاول عمال الإغاثة رعاية أكبر عدد ممكن من المرضى في الفترة الزمنية القصيرة. الطلب على الخدمة مرتفع، إذ ينتظر حوالي 40 شخصًا بصمت لتلقي العلاج الطبيعي لإصاباتهم التي لا يزالون يعانون من آثارها بعد أشهر من وصولهم. وفي حين أن غالبية سكان المخيم هم من النساء والأطفال، إلا أن عدداً كبيراً من الرجال يأتون إلى هنا لتلقي العلاج.
أحدهم، موسى، وهو أب لطفلين يبلغ من العمر 40 عامًا، من بلدة الجنينة السودانية، عاصمة غرب دارفور. وصل إلى تشاد في يونيو/حزيران 2023 بعد شهر ونصف في أوج الصراع. "عندما بدأت الحرب، كانت المتفجرات تتساقط في كل مكان. انتقلت أنا وعائلتي إلى مكان لم يكن فيه أي عنف بعد. اعتنيت بطفلي وكبار السن، مع مواصلة التنقل ذهابًا وإيابًا بين البلدة ومنزلنا القديم حتى اليوم الذي أصبت فيه".
في ذلك اليوم، هاجمه خمسة جنود وأطلقوا عليه النار في ذراعه اليسرى. وبمجرد أن غادر مهاجموه، استلقى موسى على الأرض ولطخ جسده بدماء جرحه ليبدو وكأنه ميت. "ثم مر محاربون آخرون أمامي وركلوني. لم أتحرك، وظنًا منهم أنني ميت، غادروا أخيرًا. وبقيت هكذا حتى حلول الظلام".
كاتبة سودانية: "لم نكن نعيش بكرامة منذ مدة طويلة"
في روايتها الأولى "فم مملوء بالملح" تروي الكاتبة والطبيبة السودانية ريم جعفر القصص المتشابكة لثلاث نساء يواجهن الظلم. يدور الحوار حول الكتابة المسؤولة وقدواتها الأدبية والحرب المنسية في السودان. حاورتها آنا تيريزا باخمان لموقع قنطرة.
عندما عاد موسى إلى المنزل، لفت والدته ذراعه المصابة بضمادات من المناديل. عندها قرر أن الوقت قد حان لمغادرة بلده. انضم هو ووالدته وولداه إلى آخرين متجهين نحو الحدود. ولكن عندما جعلت إصابته المشي صعبًا، اضطرت المجموعة للمضي قدمًا بدونه.
وعند شروق الشمس في اليوم التالي، التقطته سيارة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود كانت تقوم بتمشيط المنطقة. تمكن أحد الأطباء من إعطائه علاجًا طارئًا، وبعد يومين، نُقل إلى المستشفى في أدري حيث تم لم شمله مع عائلته. "الحمد لله أن طفلي ووالديّ بخير، لكنني فقدت الكثير من الأشخاص المقربين مني".
"خياران سيئان"
لتعويض نقص البنية التحتية للنقل في المنطقة، جرى نشر أسطول خدمات الأمم المتحدة للنقل الجوي للمساعدة الإنسانية في تشاد. وهو يوفر خدمة أساسية للعاملين في المجال الإنساني. وقد أعيد بناؤه على وجه السرعة من قبل شركة أطلس لوجيستيك في بداية الأزمة، وأصبح لدى أدري الآن مهبطا خاصا به، وسرعان ما أصبحت المدينة بمثابة قاعدة للمنظمات غير الحكومية العاملة في المنطقة.
يقول أريفيه من منظمة أطلس: "هدفنا الرئيسي في الوقت الحالي هو إيجاد تمويل لمرافق يتم التحكم في درجة حرارتها، علينا نقل الأدوية وتخزينها في أماكن مكيفة الهواء. وستكون هناك حاجة إلى نظام طاقة شمسية مع مولد احتياطي لتمكين مراقبة درجة الحرارة بدقة شديدة".
يتطلب تركيب هذا المستودع استثمارا كبيرا. يقول أريفيه: "لذلك نحن غير قادرين على تخزين الأدوية، وهو أكثر ما يطلبه شركاؤنا". تواجه أدري حاليًا وباء التهاب الكبد الوبائي E، كما سجلت حالات التهاب السحايا والحمى الصفراء وحمى الضنك وحالات مشتبه في إصابتها بالجذام. ويقول أريفيه: "نحن قلقون للغاية بشأن مرض جدري القردة، ولكن لم نسجل أي إصابة حتى الآن".
تعاني الاستجابة الإنسانية في تشاد من نقص حاد في التمويل. يقول كريتش: "أعتقد أنني أستطيع أن أتحدث باسم جميع الجهات الفاعلة في المجال الإنساني عندما أقول إن التحدي هائل، لأننا في وضع مالي يتم فيه مراجعة أولوياتنا باستمرار. نحن بحاجة إلى 630 مليون دولار لجميع العمليات الإنسانية في تشاد. ولم نتلق سوى ربع المبلغ فقط. لذا نحو ثلاثة أرباع احتياجات السكان لا يتم تلبيتها".
لا يزال الطريق طويلاً لإيجاد حلول دائمة تُمكّن 640 ألف لاجئ في تشاد من العيش في حياة كريمة، "السكان في المخيمات صغار السن للغاية. فهم يأتون من المراكز الحضرية في دارفور، إنهم لا يرغبون في البقاء هنا لمدة 20 عاما"، كما يقول كريتش.
"هناك خياران "سيئان" على الأقل أمام هؤلاء الشباب، يوضح كريتش: "الأول هو التجنيد من قبل جماعة مسلحة، والثاني هو أن يشعروا بأنهم مضطرون للمخاطرة بحياتهم بعبور الصحراء أو البحر الأبيض المتوسط. لهذا واجبنا أن نوفر لهم آفاقاً وفرصاً للمستقبل".
© قنطرة 2024