المسلمون في دولة القانون العلمانية
العلمانية ـ مفهوم عسير
تشكل دولة القانون العلمانية في ألمانيا ودول أوروبا الغربية الأخرى الهيكل السياسي المؤطر لحياة المسلمين الذين يعيشون بها ويمارسون معتقداتهم فيها. وبالتالي يطرح هذا الوضع أسئلة كالآتية:
ما هو موقف المسلمين من دولة القانون العلمانية؟ هل تمثل هذه الدولة "شرا"، لابد من قبوله بحكم تفوق الأغلبية العددية لغير المسلمين ؟
أم ستقدم علمنة(دنيوية) النظام السياسي القانوني فرصة لتجربة أشكال جديدة لنظام إسلامي بذاته مع احتمال التأثير ليس في منطقة الشتات (Diaspora) فحسب بل حتى في البلدان الإسلامية أصلاً؟
كذلك توجد أسئلة في الاتجاه المعاكس:
هل هناك، في الأساس، حق مُسلم به يلزم المسلمين على قبول علمانية دولة القانون؟
أليس من واجب التسامح للديانات المتداخلة والثقافات المتعددة أن يترك الخيار مفتوحاً للمسلمين لكي ينظموا شؤونهم المشتركة حسب القانون (الشرع) الإسلامي بدلاً عن القانون العلماني؟
ألا تمثل العلمانية من جانبها نوعاً من العقيدة الدينية أو (ما بعد الدينية) (بالألمانية(postreligious ) والتي تعتبر إلزاماً فحسب للذين يؤمنون بها بمحض إرادتهم؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة أو ما يشابهها يدور بالضرورة حول المفهوم الشخصي للعلمانية. يؤدي مفهوم العلمانية بالمقارنة إلى مفاهيم أخرى سياسية قانونية دالة إلى كثير من الاختلاف بل إلى تداعي أفكار متنافرة.
العلمانية تُفهم علي أنها إيدلوجية ضد الدين أو ما بعد الدين كنوع من التنظيم الغربي المسيحي الخاص بالعلاقة بين الدولة والدين أو محاولة سيطرة الدولة على التجمعات الدينية أو كتعبير لاحترام الحرية الدينية للبشر. يضاف إلى ذلك ما انبثق من داخل دول القانون الغربية الأوربية الأخرى: فرنسا ، إنكلترا ، هولندا، ألمانيا وإيطاليا من تقاليد متباينة جداً ذات نبرات أخرى للتعامل السياسي القانوني للدين، في سياق العلمانية. يصير النقاش مهدداً بالغموض الكامل عندما تتقابل تفسيرات الفروع العلمية المختلفة، القانون (الحقوق)، الاجتماع، اللاهوت أو الفلسفة.
إن الهدف من هذا البحث ليس فقط التوضيح النظري لمفهوم العلمانية الذي يحيط به عدد كبير من التأويلات المحيرة، وإنما متابعة بل و ترجيح هدفاً عملياً - سياسياً في الوقت عينه.
يهمني الدفاع عن دولة القانون العلمانية كافتراض ضروري للتكوين السياسي المدافع عن التعددية الدينية والدنيوية الموجه لحقوق الإنسان. مثل هذا الدفاع يمكن أن يكون مقنعاً حقا، عندما تؤخذ التوضيحات النقدية لمشروع العلمانية بجدية. كما أن اهتمامي الخاص قائم علي إمكانية، احترام وتقدير دولة القانون العلمانية من الجانب الإسلامي.
لتجنب إمكانية سوء الفهم لابد من التوضيح بأنني نفسي لست مسلماً ولكنني ومنذ سنوات عديدة أخوض، مطمئناً، حواراً منتظماً مع المسلمين - حيث اشعر بارتباط سياسى مع كثير منهم و أحياناً شخصي، فيما يمثل بعضهم خصما سياسيا إلى حدٍ ما.
يحتوي البحث المعروض (أدناه) على التقييم والإدراك الذين اكتسبتهما من محادثاتي مع المسلمين. لقد صارت المحادثات لي دافعاً إلي إعادة تفكير مبدئي حول معنى دولة القانون العلمانية.
حول تحديد علمانية دولة القانون
علمانية دولة القانون كنتيجة لحرية العقيدة
إن علمانية دولة القانون - حسب وجهة نظري الجوهرية- هي نتاج حرية العقيدة: أنها تعني تركيب مبدئي ضروري لنظام حقوقي، يقوم على مبدأ حرية العقيدة كحق من "حقوق الإنسان" يُحقق بطريقة منتظمة، وإذا أردنا التطرف في القول: لا يوجد تحقيق كامل لحرية العقيدة الدينية خارج نظام دولة القانون العلمانية - هذه النظرية قد لا تقنع لأول وهلة. ألا يمكن أيضاً تحقيق حرية العقيدة في إطار نظام حقوقي مؤسس دينياً؟ هل تستطيع دولة مسيحية أو إسلامية أن تحترم حرية العقيدة؟ ألا توجد أمثلة تاريخية للتعايش السلمي بين مجموعات دينية مختلفة مثلاً تحت سيادة السلطنات الإسلامية ؟
حسناً - فلنقر بإمكانية التسامح الديني الحاضر في سياق التقاليد الإسلامية، غير أن حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان، لا تعني التسامح وإنما تعني شئ آخر! ويجب ألا توضع في مرتبة واحدة مع التسامح أو يخلط به. وككل حقوق الإنسان تتطلب حرية العقيدة الدينية المساواة بيد أن التسامح قد يعني عدم المساواة. إن مطلب حق الإنسان في حرية العقيدة لا يمكن أن يحُل بسياسة تسامح الدولة مع الأقليات الدينية. يضاف إلى ذلك أن حق المساواة كحق ملازم لحقوق الإنسان يتحتم ألا يظل مختصراً فى كتالوغ "فهرس" الدولة، وإنما يجب أن يتجلي كنظام سياسي قانوني يؤثر في كافة المستويات.
أن حقوق الإنسان لا تمثل حاجزاً لسلطة الدولة فحسب، وإنما تعمل علاوة على ذلك حسب نص "الدستور كاساس لأي تجمع إنساني" (المادة الأولى- الفقرة الثانية من الدستور)، فهي إذا لا تمثل فقط عدم تخطي الحدود لسلطة الدولة الشرعية، بل هي في الوقت عينه الأساس التى تقوم عليه شرعية النظام القانوني للدولة عموماًً.
من الممكن أن تصبح حرية المساواة كمبدأ من مبادئ حقوق الإنسان أساساً لقانون الدولة عندما يكون الوضع السياسي للأشخاص مستقلاً عن تبعيتهم الدينية.
يجب ألا يسمح بتفضيل أو ظلم أي شخص بسبب عقيدته الدينية أو الدنيوية. وكذلك يجب أن يكون إشراك الأشخاص الذين لهم توجهات دينية أو دنيوية مختلفة في النظام السياسي ممكناً و قائماً علي قدم المساواة.
إن هذا على كل حال مطلب من مطالب حقوق الإنسان في حرية العقيدة (مطلب‘ لم يحل إطلاقاً في ألمانيا كنتيجة سارية المفعول)، لضمان تساوي جميع رغبات الناس ومن اجل احترام مذاهبهم المختلفة، يحُرم علي دولة القانون ألا تتطابق مع دين أو نظرية دنيوية محددة أو حتى أن تتخذ من ذلك أساس معياري لنظامها الخاص.
يتوجب إذاً على دولة القانون الملتزمة بحقوق الإنسان وحرية العقيدة أن تظل محايدة دينياً ودنيوياً.
هذا الحياد الديني الدنيوي لا يعني تقييم حيادي عام كما انه ليس له علاقة أبداً بتدهور المبادئ الأخلاقية أو ارتياب معياري شامل.
لقد اخطأ كارل شميدت (Carl Schmitt) عندما ربط النظرة المحايدة لدولة القانون العلمانية جدل "بزمن التحييد" بمعنى أن الأسئلة الدينية والأخلاقية تفقد، وباستمرار، قيمتها.
إن الحياد الديني الدنيوي للدولة متعلق بواجب الحياد القانوني الأخلاقي. من أجل احترام حرية العقيدة الدينية والدنيوية يجب أن تٌقتصر الدولة كسلطة دنيوية على تنظيم الشروط اللازمة لاحترام الأفراد بعضهم البعض. إعتماداً على هذا المعنى تكون الدولة دينياً ودنيوياً محايدة و بالتالى فهي علمانية. كمثال: القانون يقر بأن لا تمس كرامة أي فرد وكل سلطات الدولة ملزمة باحترامها و حمايتها (المادة الأولى- الفقرة الأولى من الدستور).مهما كانت فكرة كرامة الإنسان كباعث إنجيلي تفسر بأن الإنسان صورة من الإله، أو تفهم استناداً علي وجهة نظر القرآن بأنه خليفة الله في الأرض أو تفسر من التقاليد الإنسية (هيومانيزم) إلا أن ذلك يبقي مفتوحاً نسبياً.
كذلك لا يمكن ولا يحق للدولة أن تقرر ذلك بصورة استبدادية.لا يعني عدم تفسير الدولة مثل هذه الأسئلة الدينية أو الدنيوية عدم المبالاة أو الارتياب أو الاستهانة، وإنما ذلك بدافع احترام حرية البشر الذين بمقدورهم فهم الدولة كرابطة سياسية لا تضير معتقداتهم المختلفة.
إن النظرة الدنيوية المحايدة لدولة القانون العلمانية تجد أساسها فى حرية الإنسان كحرية العقيدة الدينية والتى تتضح علي النقيض من القيمة الإرتيابية المحايدة. فهى ذات معنى وتستحق الدفاع عنها - نعم فبمقدور الفرد اعتناقها سياسياً لأن دولة القانون العلمانية لا يسمح لها ان تطالب مواطنيها ومواطناتها بعقيدة دنيوية شاملة.لا فصل بين الدين والسياسة
إن وجوب فصل الدين عن السياسة نادراً ما يطرح في مجال القانون السياسي العام، كما أن صيغة فصل الدين عن السياسة تظل غير دقيقة ومضللة. وعليه إذا أخذت حرفياً سينتفي الإدراك الحر لحرية العقيدة والبناء المعياري لدولة القانون العلمانية.
إن حرية العقيدة لا تُختصر في ضمان حرية العقيدة أو المذهب الفردي وإنما تحوي ما هو ابعد من المكون الفردى القانونى الغير متنازل عنه وكذلك من حق الجماعات الدينية أن تنظم نفسها بحرية دون وصاية عليها من قبل الدولة وتفتح المجال أيضاً للجماعات الدينية المشاركة في النطاق العام.
بإمكان الجماعات الدينية التعبير عن المسائل السياسية ، علي النطاق العام، فهذا ليس فقط مما يتفق مع دولة القانون العلمانية، بل أن هذا بمثابة نتيجة منطقية لفهم مؤكد لحرية العقيدة الدينية والتي تمثل البناء الذي تعتمد عليه دولة القانون العلمانية نفسها.
إن الدين ليس مسألة شخصية وإنما له مكانته في الحياة العامة. فالمجال العام هو المكان الذي تمارس فيه السياسة فى ظل الديمقراطية وبذلك تستطيع الجماعات الدينية أيضا أن تشارك في السياسة. هنا لا يدور الأمر حول فصل الدين عن السياسة وإنما الفصل المؤسس بين الجماعات الدينية والدولة:- هذا التميز مهم
فالذي يطالب باسم العلمانية بفصل الدين عن السياسة إنما ينادي إلى إبعاد الجماعات الدينية عن الحياة العامة و يُفصح عن تحكم سياسي استبدادي لائكي لا يتفق إطلاقا مع حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان
إن الفصل المؤسس بين الجماعات الدينية والدولة يحمي الجماعات الدينية من قبضة الدولة والتدخل في شؤونها الداخلية كما يحمي أيضا الوضع الحقوقي للمواطنات و المواطنين في دولة القانون العلمانية ويبعد في الوقت عينه التداخل بين العضوية الدينية والدولة ويُكسب هذا الفصل الحرية للطرفين: للجماعات الدينية وللدولة. وبناءا على استقلال الطرفين تستطيع الجماعات الدينية والدولة بلا ريب التعاون مع بعضهم البعض كما أن انفصالهم المؤسس لا يعني بتر الوشائج بينهما فعلاقات التعاون الواضحة بينهما تتفق مع حرية العقيدة دون شك. بناء على شرط متفق عليه، مثلا في عدم التمايز أو اضطهاد مجموعات دينية أخرى.
لذا يجب أن يظل مبدأ الحياد الديني الدنيوي للدولة محافظاً عليه .لقد تطورت علاقات التعاون بين الدولة والكنائس بألمانيا في مجالات كثيرة على النطاق العام ابتداءً بالمساعدات المالية لدعم المستشفيات المسيحية وتدريس اللاهوت في جامعات الدولة والاعتراف بالكنائس قانونيا كمؤسسات عامة
لقد اثبت هذا التعاون نجاحه من وجوه عديدة. بالنظر للواقع التعددي الديني الجديد في ألمانيا فان التضافر بين الدولة والكنيسة مع نمو المؤسسات الأخرى حريُ بمراجعة نقدية، حتى لا تظل هذه الامتيازات وكأنها امتيازات خاصة من قبل الدولة للكنائس فقط مستثنيا من ذلك الجماعات الدينية الغير مسيحية.
لا تهدف ضرورة المراجعة إلى "بتر الوشائج" وإنما لإيصال أفكار عن كيفية وصول مساعدات الدولة -بطريقة عادلة ومفيدة - إلى الجماعات الدينية الغير مسيحية.
العلمانية ليست بالتحديد نموذجا للحضارة الغربية
إن الأنظمة الدستورية العلمانية نُفذت تاريخيا في أمريكا الشمالية و أوروبا الغربية. من الصعوبة الخلاف حول هذه الحقيقة وعليه يطرح السؤال كيف تأول تاريخياً ؟
أتكون النتيجة هى تمثيل دولة القانون العلمانية لتراث الغرب بالتحديد. هل العلمانية هي الوجه المماثل لنتيجة عضوية لتطور خاص للثقافة الغربية مهد لها بداية صراع القرون الوسطى بين الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية هذا إذا ما لم يكن وجدت جذورها من قبل في مقولة المسيح "أعطِ ما لقيصرلقيصر وما لله لله؟".
إن المثل البارز لمثل هذا الاحتواء الثقافي للعلمانية هو صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington) الذي اشتهر بنظريته الخلافية حول صراع الحضارات (clash of civilizations ) ففي خريطته السياسة العالمية يُكون الفصل بين الدولة والجماعات الدينية سمة خاصة بالحضارة الغربية، وهذا هو الاختلاف مع جميع الحضارات الأخرى واسمياً مع الإسلام .
فالذي مثل هنتنغتون يصوغ الفصل المؤسس بين الدولة والجماعات الدينية كجزء من الشفرة (الكودة) الثقافية للحضارة الغربية والغرب بالتحديد يرتكب دون شك خطأين أساسيين.
بدءاً نجده لا يراعي الصراعات التاريخية ا لتي ظلت ضرورية في الغرب لتنفيذ دولة القانون العلمانية. فالكنيسة الكاثوليكية مثلا اعترفت رسميا، ولأول مرة، بحرية العقيدة بعد نزاع داخلي في مجمع الفاتيكان الثاني (1965 - 1962) .إن مقولة المسيح "أعطِ ما لقيصر لقيصر" و التي يعتبرها ممثلو الكنيسة اليوم تقديراً لاهوتيا مثمراً لدولة القانون العلمانية لا تُكون تقريبا "الجذر" الديني الثقافي الذي نبتت منه في الكثير أو القليل الدولة العلمانية عبر الألفين عام تقريبا.
و إنما المٌكون هو النقيض في الأغلب الأعم، بالرجوع الى الماضي ووقوفاً على ارضية الحداثة اولاً، أمكن إخراج الباعث الديني والثقافي و الذي سمح من خلال طيلة كل الصراعات التاريخية إلى إعادة ايضاً أسس التواصل مع التقاليد المسيحية.
إن احتواء العلمانية كتراث للغرب المسيحي فقط - يعني أيضاً وهذه هي المعضلة الثانية- أن الأفراد ذوو أصول غير غربية وليسو علي توجه مسيحي "خاصة المسلمين" يستنكر عليهم جذرياً إمكانية فهم وتقدير العلمانية، كذلك حتى من منظور تقاليدهم الدينية والثقافية الخاصة. إن مطالبة المسلمين بالاعتراف بدولة القانون العلمانية يعني فى الخفاء مطالبتهم على الأقل اعتناق ثقافي للغرب وقيمه المسيحية. فليس مستغرباً عندما يرفض المسلمون هذا الهوان لانفسهم.
من أجل الحرية والمساواة والرغبة في مشاركة كل الجماعات المتعددة ثقافياً ودينياً يجب علي دولة القانون أن تتخلى ولا تروج للمبادئ القانونية علي نهج هنتنغتون وكأنها تراث غربي بالتحديد. فالحقيقة التي لا خلاف حولها بأن دولة القانون العلمانية بدأ اولاً تأثيرها تاريخياً في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية لا تعني بالضرورة حصر النسق العلماني علي الحضارة أو الثقافة الغربية وإلا فهو نظرة ضيقة وطامة كبري.
وبالإضافة إلى ذلك يمكن إعطاء أدلة بان دولة القانون العلمانية كمبدأ قانوني حر اكتسب أهمية أبعد "من الغرب" داخل الجماعات التعددية الدينية و الثقافة الحديثة، فتصعيد الخلاف حول التراث الثقافي للعلمانية يمثل موقف سياسي غير مسئول.النقد الإسلامي للعلمانية
إرث علي عبد الرزاق
إن الحوارالإسلامي الداخلي الجِدّيّ حول دولة القانون العلمانية، والذي ينبه له فؤاد زكريا ليس بشيء جديد فى السياق الإسلامي. في عام 1925 نشر كتاب يطالب بوضوح بعلمانية الدولة ومن الملفت للنظر اعتماده علي حجج إسلامية أصيلة. عنوان الكتاب "الإسلام واصول الحكم" لمؤلفه علي عبد الرزاق الأستاذ في ذلك الوقت بجامعة الأزهر .
كان الدافع المباشر للكتاب هو إنهاء كمال اتاتورك للخلافة الإسلامية عام 1924. بالرغم من إقصاء الخليفة الأخير إلا إن الأمر كان يتعلق بالفعل بالصراع حول السلطة ولم يكن بأي حال من الأحوال، إصلاح ديني. رأى علي عبد الرزاق فى نهاية الخلافة فرصة للإسلام، وذلك لان ادعاء الخليفة حق ممارسة وظيفة السلطة الإلهية أو انه ظل الله فى الأرض، لا تعني إلا تقديساً خرافياً ومما يتعارض مع الوحدانية القاطعة كم يعلنها القرآن .
بجانب ذلك يشير عبد الرزاق إلي القرآن الكريم بأنه يكاد يخلو من توجيهات مفصلة عن إدارة الدولة . إن قراءة الوحي القرآني، ككتاب قانوني أساسي لسياسات الدولة ليس ذا جدوى فحسب، وإنما يتعارض مع القرآن نصاً وروحاً وتقود إلى إنكار الاعتقاد بأن القرآن هو خاتم الوحي .
علي منوال عبد الرزاق ينحو اليوم من بني وطنه "مصر" كل من محمد سعيد العشماوي، نصر حامد أبو زيد و فؤاد زكريا كل بنبرة مختلفة داعياً إلى علمانية القانون والدولة، من وجهة نظر إسلامية. فالعشماوى يرفض أي تقديس لسياسة الدولة مما يلحق أضراراً ماحقة بالسياسة والدين. وذلك لإثبات التجربة أن أي سلطة سياسية مقدسة تنتهي بحكم الفرد، كنتيجة لاكتسابها مناعة ضد التساؤلات الناقدة وفى الوقت عينه يفسَد الدين ويصير أداء لإستراتيجيات الصراع حول السلطة والمؤامرات.- إضافة إلى مثل هذه التجارب الاستغلالية يرى العشماوى تناقض السلطة الثيوقراطية مع ادعاءها للرسالة الأساسية للقرآن، والتي تمثل الوحدانية القاطعة وتظهر فى ضُوئها الثيوقراطية كصورة من الكفر، لأن ذلك تدنى باسم الله إلى مستوى الصراع على السلطة بين البشر.
يشير أبو زيد في نقده للخطاب الديني السائد إلى خلطاً إستراتيجياً متعمداً بين مستويين:- الفصل المؤسس بين الدولة والكنيسة أو بالأحرى المجتمعات الدينية في العلمانية الحديثة وما يضلل به من المحافظين والإسلامويين متمثلاُ فى مطابقتهم بأن ذلك يعني فصل العقيدة عن الحياة والمجتمع. بذلك تبدو العلمانية في الرأي العام المتأثر بالخطاب الديني السائد وكأنها مطابقة للإلحاد .
يطرح أبو زيد مفهوم للعلمانية ليس ضد الدين، وإنما ضد هيمنة الدين علي كل المجالات، والمقصود هنا بالتحديد تقليص السلطة السياسية لرجال الدين. فأبو زيد لا يطالب بعلمنة قانون الدولة ولا يريد بذلك إبعاد الدين عن الحياة العامة ولكنه يريد تحرير الخطاب الديني من قبضة المؤسسات والأيدلوجيات السياسية وبذلك يؤسس لخطاب حر.
لفؤاد زكريا مفهوم مماثل للعلمانية يُعري رأي بعض الإسلامويين فى التعارض بين القانون الإلهي والقانون الوضعي كظاهرة أيدلوجية بديلة. فالذين ايضاً يدْعون الحق الإلهي لأنفسهم ولمواقفهم سيظلون بشراً معرضون للخطأ بيد أنهم لا يجهرون بعدم عصمتهم عن الخطأ ولا يخضعون برامجهم السياسية للنقد الديمقراطي فى ذلك يعترض زكريا إذ يرى في العلمانية الحديثة مبدءاً:- نظام سياسي، آخذين فى الاعتبار قابلية الإنسان للخطأ، فصفة العصمة من الخطأ تظل للخالق وحده. "إن العلمنة تمتنع عن تأليه الإنسان أو جعله كائناً معصوماً من الخطأ، وفي الوقت عينه تعترف بمحدودية العقل البشري وقصور النظم السياسية والاجتماعية" .
بالرغم من أن الكُتاب المذكورين أعلاه بدءاً من أبي زيد وانتهاءً بفؤاد زكريا مُختلف عليهم فى السياق الإسلامي، (ولكن مَن مِن المفكرين البارزين لا يختلف حولهم؟)، يوضحون أن تقديراً إسلامياً لعلمانية دولة القانون ممكن، "وله مغزاه" بالرغم من ذلك إن العلمانية فى حد ذاتها لا تشكل مبدءاً إسلامياً. إن اعتراف المسيحية لا ينبغى ان يقود إلي احتواء العلمانية كجزء من "القيم المسيحية" (كما يحدث كثيراً)، وبنفس القدر لا يجوز أن ينتهي تقدير الإسلام للعلمانية الي "أسلمتها" من طرف واحد بل تبقى علمانية دولة القانون نتيجة للحرية الدينية والتي تظل بدورها كحق من حقوق الإنسان منفتحة لاحترام أي رأي ديني أو دنيوي.
الخلاصة
لعلمانية دولة القانون أهمية قصوى غير أن المخاطر تحوطها وعليه يمكن تطبيقها فقط كمبدء من مبادئ الحرية فى الدستور الديمقراطي، إذا أخذناها مأخذ الجد كتحدي سياسي.
فى البدء يجب توضيح مبدء الحرية في دولة القانون العلمانية، والدفاع عنه ضد الاختزال العقائدي والثقافي كما يلزم التبيين أن علمانية دولة القانون ليس تعبيراً عن نظرية تقدم لائكية كما أنها ليست جزء من رقابة دولانية (من دولة) وإنها لا تمثل نموذجاً غربياً مسيحياً خالصاً لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمعات الدينية. بمعنى أن دولة القانون العلمانية تجسد حقوق الإنسان فى الحرية الدينية. بناءاً على هذا التوضيح المبدئي يمكن أن يكون هناك حوار مثمر بناءُ مع المسلمين بما فى ذلك ممثلي المجموعات الإسلامية، وهذا يستدعى أيضاً الحوار النقدي المفتوح مع الأيدلوجيات الإسلاموية على نهج سيد قطب و أبي الأعلى المودودي وتبعاتها السلطوية.
إن أفضل دفاع عن دولة القانون العلمانية هو أخذ الحرية الدينية كواجب يؤخذ مأخذ الجد ويطبق بدقة.
ككل حقوق الإنسان تهدف الحرية الدينية إلى المساواة وكما هو معروف فإن المساواة القانونية بين الأقليات المسلمة في ألمانيا والكنيسة المسيحية لا تزال معلقة وإن مجتمع الأغلبية له دينُ لابد أن يفي به.
بالتأكيد: أن المشاكل الفعلية- بدءاً بالاعتراف بالمنظمات الإسلامية كمنظمات تخضع للقانون العام ومروراً بتنظيم الدروس الدينية وإلي تأهيل علماء الفقه الإسلامي ومعلمي ومعلمات الدروس الدينية فى جامعات الدولة لا يمكن حلها ببساطة، وإلى الآن فى ألمانيا ليس من الواضح إي من المنظمات الإسلامية تقوم بتمثيل القطاعات المختلفة من السكان المسلمين مما يعنى فقدان الشفافية فيما يتعلق بالتركيبات الداخلية للمجتمع الإسلامي. كذلك يمكن بالتأكيد تحسين مقدرة المنظمات الإسلامية على التعبير داخل المجتمع الديمقراطي.
أحياناً يعلو صوت الشك من الطرف المسلم بأن ممثلي السياسة والإدارة الألمانية يتخذون من النواقص الواضحة والمشاكل كذريعة مرغوبة لتعليق مشاكل المسلمين إلى أجل غير مسمى، وحتى الذين يوافقون على الدروس الدينية "الرسمية" كضرورة يسوقون الحجة بأن فى ذلك القضاء على مدارس القرآن الأهلية. إن هذا الموقف لا يليق بكرامة وأخلاقيات دولة القانون الحرة التي تقوم على الحرية الدينية.
لقد حان الوقت لوضع معلم. رغم كل المصاعب التي لا يمكن إنكارها والأسئلة العديدة التي تنتظر الإجابة - ليس هناك أي بديل مبدئي لمنح المسلمين فرصة المشاركة فى تشكيل هذا المجتمع، على أساس المساواة فى الحرية.
إن الذي يرى خطراً فى ذلك على نظام القانون العلماني لم يفهم بعد معني علمانية دولة القانون.
الأستاذ هاينر بيليفيلد، معروف بأبحاثه العديدة عن مسائل الفلسفة السياسية وفلسفة القانون وخصوصاً عن كونية حقوق الإنسان من وجهة نظر الثقافات المختلفة. يعمل كمحاضر في كلية التربية لجامعة بيليفيلد. شارك سنة 1983 إلى 1990 "بمشروع بحث لحقوق الإنسان" في جامعة توبنجن. منذ 1991 يعمل في كليّات الحقوق لكلٍ من جامعات مانهايم، هايدلبيرج وتورنتو.
ترجمة د. حامد فضل الله
© 2002 مؤسسة ابن رشد للفكر