المغرب: تنمية اقتصادية بلا إصلاح سياسي
شهدت العشرين سنة من العهد الجديد إنجازات غيّرت وجه البلاد، ونقلتها من حال إلى أخر. فقد صاغت الدولة على مدارها استراتيجيات كبرى، وبلورت مخططات مندمجة، وأطلقت مبادرات وطنية، واعتمدت سياسات قطاعية.
كل ذلك قصد ضمان تغيير الأوضاع على كافة الأوجه، ما منح المؤسسة الملكية فرصة لتجديد مشروعيتها من ناحية، وأهّل المغرب من ناحية أخرى لتسويق نفسه كدولة نموذجية، تمكنت من إنجاح خيار الإصلاح في العالم الثالث.
شكلت سنة 2011 وما رافقها من أحداث، لحظة مفارقة في مسار التحولات التي تعرفها المملكة، منذ تولي الملك الجديد لمقاليد الحكم خلفا لوالده الحسن الثاني؛ الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأزيد من ثلاث عقود. وليس من المبالغة في شيء، القول بأن ما جرى في هذا العام كان فاصلا بين مرحلتين مختلفتين، لكل واحدة عنوان عريض وتفاصيل خاصة.
منذ بداية العهد الجديد، كان "الانتقال الديمقراطي" اللازمة التي تنتظم في الخطاب الرسمي لرجال الدولة، وكان إقامة "المجتمع الديمقراطي الحداثي" شعار المرحلة، بعُدة مفاهيمية دخيلة على السياق المغربي، من قبيل "الملكية المواطنة" و"المفهوم الجديد للسلطة" و"سياسات الأوراش الكبرى"، و"هيكلة العديد من الحقول"... وما إلى ذلك، مما يراه صناع القرار مداخل أساسية لتحقيق الانتقال، حتى اعتقد كثير من المغاربة أنهم على وشك تكرار سيناريو الملكية البرلمانية في الجارة الشمالية إسبانيا.
جاء الربيع العربي؛ في نسخته المغربية مع "حركة 20 فبراير"، فاهتدى النظام إلى تعليق كافة خطط السلطوية ومشاريع التحكم، وعمد في المقابل إلى تبني أسلوب مجارات التيار، بعدما اكتشف أن كلفة خيار معاكسته باهظة؛ من نتائجها الإطاحة بأنظمة في المنطقة العربية.
تفاعلت الدولة بشكل سريع مع الأحداث بخطوات استباقية، اعتبرت بمثابة تبني رسمي لمطالب المحتجين، معلنة شعار "الإصلاح في ظل الاستقرار"، الذي يتوافق مع متغيرات المرحلة، بل وشكل حينها استثناءا في سياق إقليمي ثائر.
جاءت نتائج العشرين سنة من الحكم بأساليبه المختلفة، طيلة هاتين المرحلتين؛ أي ما قبل وما بعد 2011، متباينة من حيث النوعية والنطاق. فامتد تقييمها على الدرجات الثلاث؛ جيدة ومتوسطة وضعيفة، بحسب القطاعات. بمعنى أخر، لم تؤت اختيارات الدولة نفس الثمار على كافة الأصعدة، إذ تراوح حصاد السياسات المتبعة في مختلف المجلات، ما بين النجاح والفشل والمرواحة بينهما أحيانا أخرى.
فكيف كان تأثير هاتين المرحلتين على التحولات التي تشهدها المملكة؟ وما هي المجالات التي استطاع الملك محمد السادس أن يحقق فيها ثورة حقيقة في عهده؟ وهل تمت أولويات قطاعية تحدد معالم التحول في البلد؟ في المقابل، أي المجالات شهدت إخفاق سياسات العهد الجديد؟
ثم ماذا عن دواعي الفشل؛ أهي ذاتية أم موضوعية أم هما معا؟ وهل فعلا لدى صناع القرار بالمملكة رغبة لتحقيق إقلاع حقيقي على كافة الجبهات أم أن الهدف كان تحولا على مقاس السلطة؟
لا أحد ينكر أن المملكة عاشت، منذ وصول محمد السادس إلى الحكم، على إيقاع تحولات كبرى؛ بفضل المبادرات والمشاريع والمخططات التي أطلِقت في كافة المجالات. وكانت الخطب الملكية حينها بمثابة قناة تواصل مباشرة مع المغاربة لتحديد الأولويات والمقاربات، وطرح رؤى وتصورات الملك الشاب الرامية لإحداث التغيير المنشود في مختلف الجبهات بالمغرب.
كانت المؤسسة الملكية قائدة لقاطرة التغيير في البلد، من خلال سياسة الأوراش الكبرى التي غطّت كافة الحقول؛ من الاقتصادي والاجتماعي حتى السياسي والدبلوماسي مرورا بالديني والأمني. فلا يكاد يخلو مجال معين من سياسة ملكية لتدبيره والاهتمام بشؤونه، ما حوّل وزراء الحكومات المتعاقبة إلى مجرد منفدين للخطط والتعليمات الملكية السامية كل في مجال اختصاصه.
تم إطلاق إصلاحات طموحة، وتبني ترسانة قوانينة جديدة لتحرير وانفتاح الاقتصاد تدريجيا، وإعادة هيلكة النظام المالي، وتعزيز الحكامة وسيادة القانون، والسعي لضمان حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا، تم تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، وكرس إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة في عام 2004، العدالة الانتقالية كأداة لتقصي الحقيقة وجبر الضرر. وتم تعزيز حقوق المرأة بشكل كبير، عبر مراجعة قانون الأسرة.
وفي عام 2005 جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي تشكل أحد أعمدة النموذج التنموي، لمحاربة الفقر والنهوض بأوضاع الفئات الهشة في المجتمع، من خلال تمويل ومواكبة المشاريع المدرة للدخل في مختلف جهات المملكة. وقبلها بسنة (2004) أطلِق مشروع هيكلة الحقل الديني لضبط وتنظيم شؤونه، قصد ضمان حماية وسلامة الأمن الروحي للمغاربة.
عزّزت رياح الربيع العربي مسار التحولات في المغرب، حيث سارعت المؤسسة الملكية الخطى بمجرد خروج المظاهرات، واستبقت الأحداث بخطاب 9 مارس 2011 الذي رفعت فيه سقف التطلعات، حين أعلنت عن أول مراجعة لدستور في عهد محمد السادس، قوامها توسيع هامش الحقوق والحريات، وتقوية الطابع المؤسساتي بالتنصيص على هيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية في البلاد. وتم تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة؛ اتسمت بحياد السلطة في سابقة من نوعها. وبالموازاة مع ذلك باشرت الدولة جملة من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، قصد تسكين الأوضاع بالاستجابة للمطالب الفئوية للمحتجين.
بالموازاة مع هذه الإصلاحات على الصعيد السياسي، تم تفعيل سياسة المخططات في المجال الاقتصادي، من قبيل مخطط الإقلاع الصناعي سنة 2005، ثم الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي بعد أربع سنوات، فمخطط تسريع التنمية الصناعية عام 2014، ما شكل خطة متكاملة ترمي إرساء صناعة قوية وتنافسية. ومخطط المغرب الأخضر في القطاع الفلاحي، قصد جعل الفلاحة من أولويات القطاعات الاستراتيجية الوطنية، ثم مخطط أليوتيس للصيد البحري عام 2009، من أجل تثمين الموارد البحرية، وجعل القطاع أكثر تنافسية. في ذات السنة، اعتمدت الدولة الاستراتيجية الطاقية الوطنية التي أثبتت نجاعتها؛ حيث جعلت المغرب نموذجا يحتدى به على الصعيد الجهوي والقاري.
استطاع المغرب مع توالي السنوات أن يجني ثمار هذه السياسات، من خلال تعزيز مكانته في بعض القطاعات، والارتقاء إلى مراتب متقدمة قاريا وعالميا. ففي مجال تكنولوجيا الفضاء أضحت لديه، في عهد محمد السادس، ثلاثة أقمار صناعية، ما جعله الثالث افريقيا بعد مصر وجنوب افريقيا. وارتقى في مجال الملاحة البحرية إلى المرتبة الأولى قاريا و45 عالميا، بفضل مشروع ميناء طنجة المتوسط. أما في مجال النقل البري، فالمملكة تأتي في المرتبة الثانية بأزيد من 1400 كلم من الطرق السيارة. وأطلقت أول خط للنقل السككي الفائق السرعة، يعد الأول من نوعه في القارة الإفريقية. دون أن ننسى أكبر محطة لإنتاج الطاقة الشمسية "نور" في العالم بمدينة ورززات.
بعيدا عن الاستغراق في التفاصيل القطاعية، تكشف التقارير -وبلغة الأرقام- أن التقييم المنجز حول حجم وقيمة الثروة الإجمالية للمغرب؛ طيلة عقد ونصف من العهد الجديد (1999-2015)، تجاوزت الضعف بقليل، حيث انتقلت من 5904 إلى 12833 مليار درهم. وذلك بما يعادل زيادة تصل إلى 5% في المتوسط. وانتقل الاقتصاد الوطني إلى عتبة جديدة من النمو؛ سجلت في 4,6% حاليا مقابل 3% خلال عقد التسعينات. بالموازاة مع ذلك، تقلصت نسبة الفقر في البلاد من 15,3% إلى 4,2%، وانخفضت نسبة الأمية ب 16 درجة، إذ انتقلت من 48% إلى 32%.
هذه الأرقام شجعت المغرب لدفع بتجربته بعيدا، فعمَد إلى تصديرها نحو العمق الإفريقي، وعمل على تسويقها في العديد من دول القارة السمراء؛ التي عادت إليها الرباط بقوة، بعدما استعادت مقعدها بمنظمة الاتحاد الافريقي (2017). وأبدت رغبتها الواضحة في الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا؛ المعروفة اختصارا بتجمع دول الإيكواس. وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير، بعدما أضحت تحتل المراتب الأولى في قائمة المستثمرين ببلدان قارة المستقبل، بفعل دبلوماسية الاختراق الناعم التي نجحت المملكة فيها بشكل كبير.
تحول السياسة الخارجية إلى سياسة براغماتية وواقعية
مقابل الدبلوماسية الناعمة المتعددة الأوجه (الاقتصادية والدينية والأمنية والثقافية...)، أقدمت الرباط على مراجعة سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة، حيث تبنت سياسة براغماتية وواقعية، لا تقطع حبل الود مع الأصدقاء التقليديين. لكنها في ذات الآن تحرص على ضمان حسن الاصطفاف في مختلف الأحلاف، كي لا تجد نفسها عرضة للابتزاز، مثلما وقع لها مع قوى كبرى (باريس وواشنطن ولندن...) فيما يخص وحدتها الترابية، ومع الرياض وأبو ظبي بشأن الموقف المحايد للمغرب من الأزمة الخليجية.
صفوة القول إذن، أن الحصاد إيجابي وسبورة الإنجازات في العشرين سنة تكاد تكون مليئة، لكن كل ما سبق يبقى ضعيف الأثر والوقع لدى فئات عريضة من المجتمع المغربي، لذا تنتشر موجة استياء في صفوف المواطنين، مصحوبة بأحكام تنقيص وتبخيس وتقليل شأن كل هذه التحولات النوعية؟
المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة
دعابات وضجيج ومشاكسات...الشعبوية تزحف على المشهد السياسي المغربي
الزفزافي: رمز حراك الريف المغربي و"وريث" عبد الكريم الخطابي
القصر الملكي...ضابط الإيقاع الحكومي المغربي
الرهان على التنمية بدون ديمقراطية
يكشف إمعان النظر في التحولات التي عرفها المغرب، خلال العقدين الماضيين، عن سيادة تصور غير صائب لمفهوم التنمية لدى صناع القرار في البلاد. فقائمة المنجزات التي تستدعى بين الفينة والأخرى للدلالة على أن الأوضاع جيدة في البلد، تبقى في نطاق الدولة سؤال إشكالي؛ قديم يتجدد منذ بداية العهد الجديد إلى اليوم؛ ألا وهو: أيهما أهم وأولى هل التنمية أم الديمقراطية؟
تدريجيا، أدرك المغاربة معالم المشروع الذي تحمله المؤسسة الملكية، وتقدمه نموذجا للإصلاح المرتجى، والذي يعزز من مركزية الملك في قلب النظام السياسي، لا كحكم يبث في الخلافات بين الفرقاء والمؤسسات أو كرئيس للدولة، بل كفاعل أساسي حامل لمشروع مجتمعي. يفرض الحديث عن "مشروع ملكي" استحضار الطبيعة التوافقية والإجماع الذي تحظى به هذه المؤسسة في المغرب، ما يعني أن ما تطرحه غير قابل للنقاش، وبعيدا عن أية محاسبة أو مساءلة.
إن لغة الأرقام والنسب التي يحتج بها لتأكيد بأن المملكة على المسار الصحيح، تكشف في بعض الأحيان، جانبا من الحقيقة فقط. فاحتلال المراتب المقدمة والتوجه نحو العمق الافريقي وزيادة الثروة وتحسن معدل النمو وارتفاع المؤشرات... وما إلى ذلك، ليست دلائل يمكن الركون إليها للقول بأن المغرب على سكة اللحاق بنادي الدول الديمقراطية، وأن الوضع الداخلي بخير، ويشجع على الاطمئنان، كما توحي بذلك تلك الأرقام.
خير دليل على ذلك الخطب الملكية النقدية، التي باتت لغتها أقرب إلى لسان أحزاب المعارضة منها إلى مؤسسة تنفيذية، حيث انخرطت الملكية بدورها في انتقاد حصاد بعض السياسات العمومية، في العديد من الخطب منها؛ التعليم (غشت 2012) والعدالة (غشت 2013) والإدارة (14 أكتوبر 2016). ثم ما لبثت أن أعلنت في خطاب العرش لسنة 2017 عن فشل النموذج التنموي برمته؛ والذي كان قطب الرحى بالنسبة لمختلف السياسات القطاعية في البلاد؛ طيلة فترة حكم الملك محمد السادس، بالرغم من كم الوسائل وحجم الإمكانيات التي رصدت له.
ولنا أكثر من قرينة؛ في العديد من التقارير والدراسات الصادرة عن مؤسسات رسمية (بنك المغرب، المندوبية السامية للتخطيط، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الأعلى للحسابات...) تدق فيها ناقوس الخطر حيال جملة من القضايا في البلاد. فالعديد من القطاعات؛ كالتعليم والصحة والتشغيل وإصلاح الإدارة... بحاجة إلى تدخل هيكلي عاجل، فالوضع لم يعد يقبل سياسة المسكنات التي تتبعها الدولة منذ عقود.
إن إنتاج الثروة، وحتى مضاعفتها، لا يضمن أبدا التوزيع العادل لها. فوفق تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يعرف توزيع الثروة بالمغرب اختلالا كبيرا، حيث يستهلك 10% من الأغنياء أكثر من 33% من خيرات البلاد؛ فهناك وفرة نسبية في إنتاج الثروة، وفقرا مدقعا في توزيعها؛ أي غياب العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية. ما يعني أن ثمار النمو المحقق لا تصل إلى بيوت كل المغاربة، بل إن الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا.
من ناحية أخرى، يفترض أن يكون لمضاعفة الثروة في البلاد وقع على مختلف القطاعات، وهو ما لم يتحقق في السياق المغربي. فقطاع التربية والتعليم مثلا، ما يزال يسجل معدلات هدر مدرسي مقلقة في جميع المستويات الدراسية، حيث عرف، خلال الفترة ما بين 1999 و2012، في المتوسط كل سنة، ما يناهز 400 ألف حالة هدر؛ في جميع الأسلاك. تضاف إلى متوسط سنوي يتجاوز 760 ألف حالة تكرار، أعلى مرتين تقريبا من المتوسط العالمي. هذه الأرقام والمعدلات تساعد على إدراك طبيعة ونوعية النمو لا التنمية التي سعى المغرب وراءها طيلة الفترة الماضية.
تنطبق ذات الخلاصات على قطاع التشغيل، فقد كشفت المندوبية السامية للتخطيط في دراسة لها عن المساهمة السلبية لتأثير الشغل، بأن الهياكل الاقتصادية لم تسمح بتثمين المؤهلات التي يتيحها التأثير الديمغرافي. إذ انخفض خلق فرص الشغل على مستوى الاقتصاد المغربي، من 186 ألف وظيفة في المتوسط سنويا، في الفترة ما بين 2001 و2008، إلى 70 ألف وظيفة في المتوسط سنويا، في الفترة ما بين 2008 و2015.
إن ترتيب المغرب في ذيل قائمة المؤشرات الدولية لعام 2018 مثل: التنمية البشرية (123)، حرية الصحافة (135)، مكافحة الفساد (81)، جودة التعليم (138) -إلى جانب اليمن-، خير دليل على أنه اعتمد مخططا تنمويا خاطئا، أساسه المسارعة لنيل قصب السبق، وحصد العناوين البراقة، في حين أن واقع الحال يفرض الرهان على تنمية حقيقية، أساسها ديمقراطية تحترم إرادة المواطنين بإسناد المسؤولية إلى من تفرزهم صناديق الاقتراع؛ قصد التطبيق الأمثل لمبدأ دستوري قوامه اقتران المسؤولية بالمحاسبة، وإعمال قواعد الحكامة للحد من تضارب المصالح واستغلال النفوذ، والحرص على ضمان التوزيع العادل للثروات على عموم البلاد؛ وليس الوفاء للقسيم الاستعماري القديم؛ المغرب النافع في الشمال مقابل المغرب غير النافع في الجنوب والشرق.
[embed:render:embedded:node:36868]
الإصلاح السياسي حلقة مفقودة
أدرك صناع القرار بالمغرب مركزية استحضار الجانب السياسي قصد ضمان التسويق الأمثل لأي نموذج اقتصادي تتوفق المملكة في تشييده، فاهتدت إلى أسلوب مخزني عتيق، لطالما وظفته الدولة في عهد الراحل الحسن الثاني؛ قوامه تأسيس حزب يمثل السلطة في المشهد السياسي يحضى بالدعم والرعاية من جانبها.
بعدما اطمأن المخزن إلى نجاح أسلوبه في تنفير المواطنين من السياسية، بالحضور القوي والمستمر لرجال الأعمال والتكنوقراط في الحقل السياسي، مع حكومتي إدريس جطو (2002) وعباس الفاسي (2007) اللتين كانتا أفضل تعبير عن حالة الإفلاس السياسي بالمغرب.
وبدأ فعليا التنزيل العملي لمشروع حزب الدولة في الانتخابات المحلية لسنة 2009، لكن مجيء رياح الربيع العربي بعد سنتين، أوقفت التنفيذ وخلطت الأوراق. ما فرض عليه قلب استراتيجية كليا، فتراجعت العناية بالخطط والبرامج الاقتصادية لتعطى الأولوية لصالح القضايا السياسية والاجتماعية.
سعى النموذج السياسي ممثلة في تجربة حكومة عبد الإله بنكيران؛ المسنودة بالإرادة الشعبية التي أفرزتها صناديق الاقتراع، إلى فرض إصلاحات جذرية وهيكلية، تقوم على مراجعة تدريجية لمكامن الخلل في المنظومة بشكل شمولي، بغرض وضع قواعد جديدة ومنصفة، تساهم في الحد من التفاوتات الاجتماعية، وتسهل عمليات التشحيم في السلم الاجتماعي، وتخول للجميع على قدم المساواة آليات الاندماج والترقي الاجتماعي بطرق سلسة ومشروعة. أي أنها محاولة لمعالجة المشكل من جذوره لا الاكتفاء بتمظهراته التي تزول هنا لتظهر هناك في صور وأشكال جديدة.
استغلت هذه التجربة فرصة توليها مهمة تنزيل دستور 2011، وانحيازت لتأويل فراغات المتن الدستور ديمقراطيا حتى يكون بمنزلة تعاقد سياسي جديد، يقود البلد نحو الديمقراطية. استشعرت الدولة العميقة (المخزن) خطورة هذا التوجه على مصالحه، فسارعت إلى فرملته بافتعال أزمة حكومة في منتصف الولاية الحكومية (مايو 2013)، مستغلة تراجع المد الثوري في السياق الإقليمي.
منذ ذلك الحين والصراع على أشده بين المدافعين عن الديمقراطية وأنصار السلطوية، والذي اتخذت صورا شتى؛ استعملت فيه المسموح وغير المسموح من الأدوات، لوقف وتعليق كل مكاسب الربيع العربي في البلد، بالتصدي والعرقلة لتنفيذ بعض مقتضيات الدستور، وكذا بعض السياسات ذات البعد الاجتماعي. وبلغ ذروته بحلول الانتخابات التشريعية، وما تلاه من انسداد حكومي (بلوكاج) أدى إلى تنحية عبد الإله بنكيران ممثل هذا التيار، والاستعاضة عنه بحكومة هجينة أبعد ما تكون عن تمثيل نتائج الانتخابات، وأقرب ما تكون لمقاس السلطوية.
ضيع المغرب مجددا؛ في أكتوبر 2016 وربما حتى قبله؛ بسبب سعي المخزن إلى استرداد ما منحه -تحت الإكراه - جملة في عز الربيع العربي، موعدا مع إصلاح سياسي شعبي توافقي، على غرار وقع في 2002 بعد الخروج عن المنهجية الديمقراطية، مع تجربة التناوب التوافقي للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
على صناع القرار في الدولة أن يكونوا على أهبة الاستعداد لتحمل تبعاته مثل هذه الاختيارات، فالقتل الرحيم لسياسة الذي اختاره هؤلاء من بين خيارات أخرى قلما يجود بها التاريخ. أفضى إلى وأد الحلم والأمل الذي راود المغاربة بغد أفضل، ما ساهم في ازدياد منسوب الاحتقان الاجتماعي في العديد من المناطق (الريف، جرادة، زاكورة...)، وإحياء ظاهرة الهجرة السرية التي ظن المغاربة أن بلادهم قطعت مع يوميات "قوارب الموت"، بإطلاق مسلسل الإصلاحات الكبرى بعد أحداث الربيع المغربي، وانتقال المغرب من بلد مصدر للهجرة إلى بلد مستقبل لها، مقدما نفسه "دولة نموذجية" استطاعت تسوية وضعية آلاف الأفارقة، من خلال ضمان إدماجهم اجتماعياً واقتصادياً.
محمد طيفوري
حقوق النشر: قنطرة 2019
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.