العرب والإصلاح: مشهد سريالي لصدام المبادرات المتلاطمة!
الحكام العرب المرعوبين على كراسيهم من التصور الأمريكي للشرق الأوسط"الكبير" لجأوا إلى المثقفين العرب (الليبراليين والعلمانيين واليساريين..) كي يساندوهم بصياغة مشروع للإصلاح الديموقراطي نابع من الداخل يستطعيون به حفظ ماء وجوهم السلطوية أمام الإدارة الأمريكية في معارضة مشروعها الإصلاحي المفروض من الخارج.
فكان ان رعى الرئيس حسني مبارك مؤتمر:"الإصلاح العربي:الرؤية والتنفيذ" الذي عقد في مدينة الأسكندرية في منتصف مارس/آذار 2004،وحضره نحو 170 مشاركا عربيا، معظمهم من مثقفي السلطة.
أما القلة من المثقفين المستقلين المشاركين في جلسات المؤتمر، فكانوا أشبه بالاكسسوار التجميلي،وقد عبر الكثير منهم عن خوفه من الظهور العلني،وطالبوا بعقد جلسات سرية حتى يتمكنوا من التعبير بحرية عن آراءهم، لأنهم يخشون من المساءلة الأمنية عند عودتهم إلى أوطانهم.
أين الإسلاميون؟
والأكثر من ذلك ان المؤتمر تعمد إقصاء الإسلاميين عن المشاركة في أعمال المؤتمر، رغم ان حركات الإسلام السياسي السلمية تشكل القوة السياسية الغالبة على الشارع العربي.فلا يمكن تصور مشروع إصلاح ديموقراطي حقيقي في المجتمعات العربية دون إشارك هذه الحركات في الحياة السياسية على قاعدة التداول السلمي الدوري للسلطة.
لقد قام مؤتمر الاسكندرية على أساس: "ان الإصلاح يجب ان ينبع من داخل المجتمعات العربية ويأخذ في الاعتبار أحوال كل قطر على حدة دون إغفال القواسم المشتركة بين الدول العربية". وعبارة الأخذ: " في الاعتبار أحوال كل قطر" ليست إلا تعبيرا عن أساليب التحايل السلطوي العربي إياه على الحقائق السياسية.
فالعبارة قد تعني ان منع النساء من سياقة السيارات،ورفض اجراء انتخابات حرة لاختيار مجلس الشورى في السعودية،واعطاء النساء حق الانتخاب والترشيح في الكويت، ورفع حالات الطوارىء في مصر وسوريا، هي مسائل تدخل في باب الأخذ: " في الاعتبار أحوال كل قطر على حدة".
أي ان المشروع، كما تقول الوثيقة: "يتيح الفرصة لكل مجتمع عربي قادر على دفع خطوات الاصلاح الخاصة به إلى الأمام" دون ان يشير انه (في الحقيقة) لا يوجد أي مجتمع عربي يملك الحرية في إحداث الإصلاح بنفسه في وجود انظمة استبدادية بالية لا تفهم من الإصلاح إلا كونه فرصة لإدامة حكمها!
فمؤتمر الإصلاح العربي عقد تحت رعاية ديكتاتور يحكم أكبر دولة عربية بقوة قوانين الطوارئ، هو في الوقت نفسه بمثابة وكيل اعمال(سياسي) للحكام العرب،الذين هم مثله نتاج طبائع الاستبداد الشرقي، كما حلله في العمق عبدالرحمن الكواكبي منذ أكثر من قرن!
نوايا طيبة لا غير
فكيف،إذن،بوسع مؤتمر، تحت هكذا رعاية، الخروج بتشخيص موضوعي لداء الاستبداد وطبائعه، ووصف العلاج الناجع له،ثم وضع الآليات العملية المناسبة وفق خارطة طريق محددة بجدول زمني.
ما حدث ان المؤتمرين،بعد ثلاثة ايام من المناقشة و"الكولسة" خرجوا بوثيقة مطولة،متشعبة،تكتظ بالنوايا الطيبة، وبكل ما يخطر على البال من حقوق إنسانية.
تطالب الوثيقة (نظريا) بالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية فصلا واضحا صريحا، وبتداول السلطة سلميا دوريا، وإقامة انتخابات دورية حرة، إلغاء مبدأ الحبس أو الاعتقال بسبب الرأي، إلغاء القوانين الاستثنائية وقوانين الطوارئ المعمول بها في بعض البلدان العربية، اطلاق حريات تشكيل الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، تحرير الصحافة ووسائل الإعلام من التأثيرات والهيمنة الحكومية، تشجيع قياسات الرأي العام وتحريرها من العوائق.
وإلى ذلك تقدم الوثيقة اقتراحات للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،لكنها تتجاهل،عمدا، المطالبة بضرورة الإصلاح السياسي البنيوي،الذي هو أس الإصلاح الشامل.
ان التحليل الملموس للواقع الملموس، يبين ان ما جاء في الوثيقة مجرد"كلام كبير" ورطانة بلاغية فارغة، هدفها الاستهلاك المحلي من جهة، والتحايل على المبادرة الأمريكية، والأوروبية ايضا.
فرج بو العشة صحفي ليبي مقيم في المانيا