قصة رمزية فارسية عن التشرّد

على الرغم من أنَّ رواية "البطاقة الشخصية الأخيرة" للكاتب الإيراني فريدون م. إسفندياري قد صدرت قبل أربعين عامًا، إلاَّ أنَّ قصتها التي تتحدَّث عن سخافات البيروقراطية غير المعقولة وكذلك عن البحث اليائس عن الهوية ما تزال موجودة في كلِّ زمان ومكان من العالم. فولكر كامينسكي في قراءة لهذه الرواية.

صحيح أنَّ أحداث هذه القصة تدور حول بطلها داريوش آريانا الذي يدخل أثناء محاولته إنجاز طلب حصوله على بطاقة شخصية جديدة في متاهة البيروقراطية التي لا يقدر عليها في طهران في منتصف الستينيات، إلاَّ أنَّ هذه القصة يمكن أن تدور تمامًا على هذا النحو في كلِّ مكان يعاني فيه الناس من تعسّف السلطات وإساءة استخدام السلطة ومن الفساد الإداري.

وتتحوَّل حقيقة فقدان داريوش آريانا بطاقته الشخصية واضطراره إلى تقديم طلب للحصول من الجهات الرسمية على بطاقة شخصية جديدة إلى كابوس يرافقه في الأسابيع التالية. وداريوش آريانا هذا يعيش منذ طفولته في الغرب؛ إذ غادر في طفولته وطنه إيران مع عمِّه وانتقل إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية، حيث درس وعمل مدرِّسًا وسافر عبر أوروبا.

كما أنَّه عاش فترة طويلة في باريس حتى شعر ذات يوم بالرغبة في زيارة وطنه القديم مرة أخرى؛ وكذلك كان داريوش آريانا منقطعًا عن بلاده ولا تربطه بها أي علاقات ما عدا اتِّصالاته المتفرِّقة بوطنه من خلال بعض الإيرانيين المقيمين في المنفى. وقد دفعته قبل كلِّ شيء إلى العودة إلى إيران أسباب عاطفية مثل الحنين إلى الوطن وشوقه غير المحدود إلى إيران.

وطن غريب

ولكن يتَّضح له بسرعة كبيرة - بعد ثلاثة أسابيع فقط - إلى أي مدى أصبح المجتمع في طهران غريبًا عنه، ويقرِّر وهو محبط السفر مرة أخرى. وفي هذا المكان تبدأ الرواية. وينتظر آريانا بفارغ الصبر رحيله الجديد - إذ لم يعد يحتاج إلاَّ إلى بطاقته الشخصية الجديدة، ما يعتبر في الحقيقة مجرَّد أمر يسير مثلما أكَّد له الموظَّفون المسؤولون. ولكن لقد ثبت لآريان أنَّ هذا الأمر الذي أوهموه أنَّه يسير وفي غاية السهولة يبدو الآن مثل عمل إنجازه مستحيل تقريبًا؛ حيث يتم إرساله من باب إلى باب آخر ومن موظَّف إلى موظَّف آخر، وحتى بعد أسابيع من الانتظار المؤلم يبقى في مكانه من دون أن يحقِّق أي تقدّم.

ورواية فريدون إسفندياري هذه التي كُتبت في إيران تم اكتشاف مخطوطها ومصادرته في أحد مكاتب البريد في طهران، ولكنَّها وصلت بفضل وجود نسخة ثانية عنها إلى أمريكا وصدرت هناك في فترة الستينيات. ويعود الفضل في إعادة اكتشافها إلى إيليا ترويانوف Ilija Trojanow الذي ترجمها إلى الألمانية ونشرها ضمن سلسلة المختارات العالمية التي يصدرها وأطلع من خلال ذلك القرَّاء الألمان عليها.

التشرّد وفقدان الهوية

وتمثِّل هذه الرواية - مثلما أكَّد إيليا ترويانوف في حديث معه - أكثر من مجرَّد متاهة فرد كافكائية يضيع في الأروقة المظلمة داخل إدارة مشكوك فيها. فالموضوع الرئيسي في هذه الرواية هو التشرد الذي كان يعتبر بالنسبة لملايين من الناس في القرن العشرين مصيرًا عاديًا يعانون فيه من الاجتثاث ومما يرتبط به من خطر فقدان الهوية. وقصة إسفندياري تقوم على أساس هذه الحقيقة التي يجد فيها آريانا المتشرِّد نفسه يبحث عن بطاقته الشخصية - عن "بطاقة هوية".

كما أنَّ الحالات المنفردة في مراثون الدوائر الحكومية من جهة وكذلك أيضًا الصراعات الاجتماعية الموصفة والتي يعيشها آريانا أثناء إقامته هي التي تشكِّل موضوع هذه الرواية، كما أنَّها تؤدِّي إلى خلق عامل الإثارة البالغة في هذه القصة الرمزية الحديثة. وإسفندياري يصوِّر في روايته هذه بشكل ملموس وبوضوح الصعوبات الغريبة جدًا في بعض جوانبها والتي تواجه آريانا أثناء متابعته الطلب الذي تقدَّم به لدى الدوائر الرسمية.

التعامل بلطف وبنفاق

ومن الواضح أنَّ لا أحد في دائرة الأحوال المدنية وفي مراكز الشرطة يريد جعله يشعر بالإحباط ويفقد شجاعته. وفي كلِّ مكان يواجهونه ببالغ الاحترام ويعاملونه على ما يبدو بلطف ويتكلَّمون معه بكلفة وبما يشبه الطاعة والتشريف. ويبدو كلام الموظَّف الذي يقول عن نفسه إنَّه "منبهر لأنَّ حضرتكم يا سيِّد آريانا تتنازلون وتتحدَّثون معي" أشبه بكلام غير معقول؛ ولكن خلف مثل هذه العبارات الودِّية المتزايدة تختفي عقلية التصلّب والتعنّت التي يحاول آريانا تجاوزها.

وبالنسبة للقارئ الألماني تبدو صيغ المخاطبة المعقدة وعبارات الاحترام غريبة، بيد أنَّها تبيِّن بمهارة بالغة كيف يسير نظام القمع الأرستقراطي القديم المتغلغل في المجتمع الحديث أيضًا في الحاضر الذي تصوّره هذه الرواية. وهكذا يتأكَّد آريانا في كلِّ مكان من أنَّ هناك نفاقًا وعدم تسامح واستعبادًا يختفي وراء هذا التظاهر بالانفتاح وحسن الضيافة في المجتمع الإيراني. وآريانا الذي يسبر أغوار هذا النظام الصارم المتعارف عليه، يلاقي مرارًا وتكرارًا صعوبات بسبب انفتاحه وانتقاداته.

مجموعة متشابكة ومعقَّدة من المشاعر المتناقضة

ويبقى آريانا باستمرار شخصًا غريبًا في بلده - سواء عندما يفضح الشِّعر الذي يتم إلقاؤه أثناء حفل يُقام في حديقة بغية إبهاج الحضور ويعتبره منمَّق وفارغ، أو عندما يهزأ من الموظَّفين الذين لا يمكن الاعتماد عليهم والذين نقلوه، أو عندما يتشاجر مع الضباط الذين يتَّهمهم بأنَّهم يخدمون دولة غير عادلة وفاسدة ومتخلِّفة.

وكذلك لا يجد آريانا أي تعاطف وتفهّم حتى لدى صديقه القديم كوروش. وعلى الرغم من أنَّ كوروش يثبت لآريانا من خلال رسائل قديمة أنَّه كان وهو في الخارج يتوق دائمًا إلى الوطن ويرغب دائمًا في العودة، إلاَّ أنَّ آريانا لا يجد حلاً لمشكلة هويته. ومشاعره تجاه إيران تعتبر مثل مجموعة متشابكة لا يمكن حلّها من المشاعر المتناقضة، وتظل رغبته الوحيدة الواضحة هي حاجته إلى السفر.

ولقد نجح الكاتب إسفندياري في ربط مصير المتشرّد آريانا مع الحوادث السياسية الحقيقية في تلك الحقبة. وكذلك يعتمد إسفندياري على الأحداث التي أدَّت في تلك الحقبة إلى خلق أوضاع تشبه الحرب الأهلية بين القوَّات الحكومية وأنصار الجبهة الوطنية التي كانت تتمحور حول محمد مصدق. وفي هذه البيئة يبقى بحث آريانا اليائس عن الوثيقة الضرورية جذَّبًا ومثيرًا للاهتمام حتى النهاية، كما تزداد باستمرار غرابة المحطات التي تتم في أثناء ذلك إحالته إليها وتؤدِّي به في النهاية إلى مراجعة أعلى المراتب السياسية.

السياسة - "تثير الاشمئزاز مثل البيروقراطية"

وهكذا يتلقَّى آريانا في النهاية وعدًا بحصوله على بطاقة هويته بأمر مباشر من وزير الحرب - ويتمسَّك بهذا الأمل على الرغم من أنَّه قد أدرك في هذه الأثناء أنَّه "ورَّط نفسه في سياسة لا تقلّ في مناقضتها للعقل ولا تقلّ في تخلّفها الذي يعود إلى العصور الوسطى عن البيروقراطية نفسها وهي بالإضافة إلى ذلك مثيرة للاشمئزاز تمامًا مثل البيروقراطية".

وعلى الرغم من وجود بعض العوامل الساخرة فإنَّ هذه الرواية تبقى واقعية. ومن بين جوانبها القوية وجود السخرية اللاذعة التي تسود فيها على الرغم من كلِّ ما فيها من كآبة؛ وفي هذا الجانب الساخر واللاذع تظهر بغموض سخرية الكاتب واستهزاؤه اللاذع من هذا النظام السياسي والاجتماعي المنهك.

فولكر كامينسكي
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

وُلد فريدون م. إسفندياري الذي أطلق على نفسه فيما بعد اسم FM-2030 في العام 1930 في بروكسل لأب دبلوماسي إيراني ونشأ في عدة بلدان منها بريطانيا وإيران وأفغانستان والهند. وشارك في الألعاب الأولمبية، حيث مثَّل إيران عام 1948 في المبارزة، وكان عضوًا في لجنة المصالحة التابعة للأمَّم المتَّحدة والخاصة بفلسطين، وكان كاتبًا ومحاضرًا وفيلسوفًا وباحثًا في شؤون المستقبل. وتوفي في عام 2000 في نيويورك.

فريدون م. إسفندياري، "البطاقة الشخصية الأخيرة" Der letzte Ausweis، ترجمة ونشر إيليا ترويانوف Ilija Trojanow ضمن سلسلة "Weltlese – Lesereisen ins Unbekannte"، عن دار نشر Büchergilde 2009.

قنطرة

إيليا ترويانوف في رحلة مع أعمال إسفاندياري:
البحث عن الهوية في متاهة البيروقراطية الإيرانية
في ستينيات القرن العشرين كتب الكاتب الإيراني أف. أم. إسفاندياري روايته "الهوية الأخيرة"، التي يصور فيها سخافات البيروقراطية الإيرانية المهينة للإنسان. وعلى الرغم من تغير نظام الحكم في إيران فإن الرواية لم تفقد راهنيتها تحت حكم الملالي، كما يوضح المترجم إيليا ترويانوف في حديث مع نيميت شيكر.

حوار مع الأديب الإيراني سعيد:
ألحان المزامير تنتصر على عصا النظام
نشر الكاتب الإيراني سعيد ديوانا شعريا جديدا باللغة الألمانية. وفي هذا الحوار مع كلوديا مينده يتحدث عن "مزاميره" وعن مدينة طهران أثناء طفولته وعن مشكلات الفنانين والأدباء الراهنة في إيران اليوم.

ايران تعيش ردة ثقافية في ظل الرئيس أحمدي نجاد
عصا الرقابة فوق رؤوس الجميع
تعيش ايران منذ وصول الرئيس الايراني الجديد محمود أحمدي نجاد ردة ثقافية جعلت العديد من المثقفين والفنانين يغادرون ايران، هربا من عصا الرقابة المرفوعة فوق رؤوسهم. هذه المحرمات التي طالت الموسيقى والأفلام الغربية سوف تترك الكثير من الأثر على الحياة الثقافية في ايران. تقرير من أريانا فاريبورز.