زكي نجيب محمود: بين الوعي الفلسفي والنقد الأدبي
يعد زكي نجيب محمود (1905/1993) أحد أهم أقطاب الفكر العربي في العصر الحديث فهو الفيلسوف الذي استحق عن جدارة لقب أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، مثلما استحقه أبو حيان التوحيدي وهو صاحب (المنطق الوضعي) و(نحو فلسفة علمية) و(خرافة الميتافيزيقا) الجامع أسلوبه بين الوعي الفلسفي والذوق الأدبي، الذي انخرط منذ نعومة أظفاره في التصدي لمشكلة التخلف وسبيل الإفاقة من السبات الذي خيم على الحياة العربية، منذ سقوط بغداد واللحاق بالأمم الفاعلة الناهضة وحل الإشكالية القائمة في التضاد الظاهر بين السالف والراهن، والتراث والحداثة، وإذا كان قد وجد في الوضعية المنطقية مرتكزا بنى عليها تصوراته الفكرية والحضارية والفلسفية، وفي العب من الثقافة الغربية والغوص فيها إلى الأذقان، باعتبارها ثقافة عالمية حققت قفزة في وعي الإنسان لذاته ولمحيطه، كما في (شروق من الغرب) فإنه في دراسته للتراث انتهى إلى ضرورة الأخذ بالقيم كما في كتابيه (قيم من التراث) و(المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري) دون أن يعني ذلك التقيد بفكر السلف ومضامين حياتهم ونظرتهم إلى الأشياء والعالم من حولهم، فلكل جيل نظرته وأسلوب حياته.
بين ثقافتين
وهذا التثاقف والاحتكاك بالآخر المختلف الذي هو صورة مغايرة للذات لكنها مكملة لها في (عربي بين ثقافتين) وتطور العلم وتجدد الحياة ينأى بها عن الرتابة والجمود في (تجديد الفكر العربي) لكن القيم تظل ثابتة فهي الهيكل الذي يقاوم الصدوع والتشققات، في حين يتجدد المضمون لأن التطور سنة ثابتة وقانون مطرد في الكون .
بدأ زكي نجيب محمود حياته الأدبية في مدرسة العقاد، وكان مريدا من مريديه ومترددا على صالونه الأدبي في مصر الجديدة يوم الجمعة، وقد أهداه كتابه الأول الذي هو في الأصل مقالات أدبية نشرها منجمة في الصحف الأدبية (جنة العبيط) فاقترح عليه الأستاذ عنوانا مغايرا (جهنم الحصيف). واتجاه مدرسة الديوان هو الثقافة السكسونية، فقد كانت تعب من مجموعة «الكنز الذهبي» وهي أشعار منتخبة لكبار شعراء الإنكليز الرومنطيقيين، وتعول كثيرا على آراء شيخ النقاد هازلت والألماني ليسنج، وتأثر زكي نجيب محمود بآراء أستاذه العقاد كثيرا، وبمدرسة الديوان عموما التي كان شعارها بيت عبد الرحمن شكري الشهير:
ألا يا طائر الفردوس، إن الشعر وجدان
وقد واكب زكي نجيب محمود ظهور المذهب الرومانسي في الأدب العربي وتطوره واحتفى بشعرائه وكتابه وخصهم بكثير من المقالات النقدية، التي تعبر عن إعجابه بشعرهم وبمسحة التجديد فيه، فالشعر صورة صادقة لأنا الشاعر وبطاقة فنية شعورية لصاحبه لا مجرد رصف للكلام وبهرجة اللفظ وأوزان، فالشاعر كما يرى في مقالة خاصة حلقة وسطى بين عالم المعاني الخالدة من ناحية وعالم الحياة المادية العابرة، من ناحية أخرى ينظر إلى أعلى ليكتسب الصورة في أبديتها وينظر إلى أسفل ليرى تيار الحياة الواقعية كما تجري فيرد المادة هنا إلى الصور هناك، ولأن الشعر الرومانسي قد نفخ الحياة في الشعر العربي كرة أخرى بعد نهضته الأولى علي يد البارودي بتمجيده للأنا ونبذه للتقليد وتعلقه بحرية الشاعر وحرية الإبداع وتدفق العاطفة، فقد احتفى ناقدنا بشعراء المذهب الرومانسي كأبي القاسم الشابي (تونس) ومحمود عبد المعطي الهمشري (مصر) والتيجاني يوسف بشير(السودان) وشبههم ببروميثيوس القابس للنار، وقد ماتوا في العمر نفسه تقريبا وجمعتهم ظروف حياة متشابهة، فشعرهم ابتداعي لا اتباعي ورومانسي لا كلاسيكي، وأصحاب رسالات كما وصفهم وما رسالتهم سوى تجديد الشعر بعد نهضته على يد إسماعيل صبري والبارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فسيرهم الشعرية سير عواصف وغابات وآفاق بكر يحدوهم شعور متمازج بين التفاؤل والتشاؤم، التشاؤم من طبيعة الإنسان ذاته وواقع العالم العربي الذي يرسف في أغلال الاستعمار أو الاستبداد والتخلف والتفاؤل في قدرة هذا العملاق النائم على تخطي الحواجز وبناء إنسان عربي جديد وواقع عربي صحي جدير بالحياة الكريمة فهم جدد لا يدعون إلى التحطيم ونشر الفوضى في القصيدة العربية كما كتب، أسوة بمن قال (حطموا عمود الشعر) لكنهم قصروا شعرهم على ذواتهم وأحوال عصرهم متشربين قيمه، فهم بهذا المعنى من المجددين.
وحين أصدر أدونيس ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي» خصه بمقالة نقدية مقتضبة، أثنى فيها على بعض الصور الأصيلة المبتكرة، وبعض الصور الغريبة، دون أن يتحمس له كثيرا فهو يراه يسرف في الإيحاء والإلغاز والتعمية، فلم يعد غير الشاعر يفهم شعر نفسه، فهل يتأتى للناس فهم هذا الشعر وتذوقه؟
النقد الادبي
كما خص أستاذه العقاد ببعض المقالات النقدية في تحليل ونقد دواوينه الشعرية ومذهبه الشعري، وإذا كان العقاد لم يشتهر كشاعر وكان هذا يؤلمه قياسا إلى شوقي وحافظ، وكثيرا ما انتقد في شعره على برودة عاطفته ونزعته العقلية حتى في بناء القصيدة فهي أقرب إلى العمارة والنحت، وهذا ما ليس من طبيعة الشعر، لكن التلميذ يرى في شعره بصرا موحيا إلى البصيرة، وحسا محتويا لقوة الخيال، ومحدودا ينتهي إلى لا محدود، بل هو الشعر العظيم كائنا من كان صاحبه وشعره أدخل في باب الجليل منه في باب الجميل، وطالما نبه إلى جماليات التلقي في شعره وبديع الصورة عنده في كثير من قصائده مثل «أنس الوجود» و»العقاب الهرم» و»ترجمة شيطان» التي تعتبر بحق إحدى المطولات الخالدة في الشعر العربي الحديث، وهي انتصار للفكر الحر والثورة على الاستبداد والطغيان.
واتجه في دراسته النقدية هذه المرة صوب فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، وامتدح أسلوبه في الكتابة ومذهبه الشعري وشبهه بأنه في أمة العرب كطاغور في أمة الهند، فهو رسول للمحبة الخالصة، وشاعر صوفي وجداني وأدبه لجيله وللأجيال القادمة، يكتب ابتغاء مرضاة الحق لا ابتغاء مرضاة القوم، أدبه كالبلحة حلوة لآكلها ونواتها التي تلفظ تأخذ طريقها إلى جوف الثرى لتنمو على مر الأيام فتعطي مزيدا من البلح.
ولم تغب قضية الشعر الحديث عن بال ناقدنا، وقد اشتدت حوله الخصومة بين المرحب والمعارض، وهو لم يعترض على القصيدة الحديثة كما لم يجار الداعين إلى طرح القصيدة العمودية، فالشعر الحقيقي لا يضيره أن يكون قصيدة عمودية أو حديثة، وإن كان أميل إلى الوسطية ومجاراة العقاد وشوقي ضيف في دراساتهما النقدية وقد خلص في مقالاته النقدية إلى أن الشعراء المحدثين يستدبرون الماضي وعدها حسنة بما أن المبدع هو ابن عصره متشرب لقيمه، حتى أنهم لا يسمون مؤلفاهم الشعرية بالدواوين إمعانا في طرح القديم وعدم مجاراته، ولعل سمة الحزن سمة غالبة عليهم فهو كما يقول صلاح عبد الصبور (الحزن هزم القلاع جميعا وسبى الكنوز) مع مسحة فكرية يرين عليها الشك والقلق الميتافيزيقي وميل إلى التركيز على الإيحاء واستخدام الرمز والأسطورة وهذه كما يرى سمات إيجابية لكنه ينتقد إسرافهم في الحزن والمبالغة في التشاؤم إلى درجة امتلاء المعجم الشعري بألفاظ على شاكلة الخراب، الفساد، الموت، العفن، الوحل وهي مبالغات كاذبة عند بعضهم، ولا ريب أن يذهب زكي هذا المذهب فهو مفكر وفيلسوف معني بمشكلة التخلف وخريطة طريق للخروج منه يرين عليه اتجاه العالم الميال إلى الاقتصاد في اللفظ والاعتدال في الشعور وفي وضوح الفكرة، مستندا إلى التفكير المنطقي والخبرة العلمية، أسوة بالتنوير الغربي ما يجعله يدين الإمعان في الغموض في الشعر العربي الحديث إلى درجة أنه صار لا يعني شيئا أو تلاشي الدلالة مع ملاحظة ضعف البناء اللغوي عند بعض الشعراء، مع تركيزهم على الإيقاع الداخلي ونبذ الموسيقى الخارجية عند بعضهم الآخر، حتى إن الشاعر لا يحفظ شعر نفسه مع أن الموسيقى الخارجية تعضد الموسيقى الداخلية ليأتي النص في أحسن تقويم، فالجديد لا يلغي القديم والإيقاع الداخلي لا يلغي الموسيقى الخارجية، والشعر تعبير عن حالات لم تحصل من قبل، ولم يكن من سبيل إلى التعبير عنها بالنثر، فلم يكن إلا طريق الشعر ملاذا وهو يميز بين علي الجندي الذي التزم القواعد، وصلاح عبد الصبور المتخفف منها ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت المعتدلان في ذلك .
نقد ادونيس
وحين أصدر أدونيس ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي» خصه بمقالة نقدية مقتضبة، أثنى فيها على بعض الصور الأصيلة المبتكرة، وبعض الصور الغريبة، دون أن يتحمس له كثيرا فهو يراه يسرف في الإيحاء والإلغاز والتعمية، فلم يعد غير الشاعر يفهم شعر نفسه، فهل يتأتى للناس فهم هذا الشعر وتذوقه؟ وهل يكون حظه البقاء على مرّ القرون مثل بقاء شعر النابغة وزهير وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي وأبي فراس؟ ومثلما نقد أدونيس خص صلاح عبد الصبور بمقالة فيها شيء من القسوة بمناسبة صدور ديوانه «الناس في بلادي» وكتب (هذا هو شعور الشاعر إزاء الناس في بلاده لكن ما هكذا الناس في بلادي، فإذا كان الشاعر قد باع القالب الشعري ابتغاء مضمون فقد ضيع علينا القالب والمضمون معا). والشيء نفسه فعله مع أحمد عبد المعطي حجازي في نقد قصيدته «كان لي قلب» فهو لا يلتزم من المورث إلا أهونه وختم هجومه بقوله (أما بعد فواخساراته! واخسارة هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب هكذا كما ينسكب السائل على الأرض فينداح وتسيل أطرافه هنا وهناك، دون أن يجد القالب الذي يضمه بجدرانه فيصونه إلى الأجيال الآتية). وجلي هنا أن الناقد يتحمس للشعراء الرومانسيين في حين يقتصد في التحمس للشعر الحديث الذي دشنه السياب بقصيدة (في السوق القديم ) والملائكة في قصيدة (الكوليرا) عام 1947 ولا يخفي قارئه إعجابه برواد الشعر الكلاسيكي، خاصة محمود سامي البارودي، الذي رآه قد انطلق في محيط الركاكة صوتا عربيا مبينا إبان الثورة العرابية (الثورة الصغرى) في حين كانت ثورته هو كبرى تنفض السبات عن الوجه العربي والركاكة عن بيانه، فقد كان كما يرى حزبا لوحده، نفخ الروح في جسد عملاق وهن على مر الزمن وشعره هو شعر الفعل والحركة.
القصة القصيرة والرواية
وكان نجيب محفوظ قد بدأ نشر قصصه القصيرة والروائية، واتهم من بعض الأصوات بكونه ينشر الرذيلة، وكتب العقاد مدافعا عنه وعن أدبه، وانخرط زكي نجيب محمود يرافع لأجل الفن في كونه تصويرا للنفس ولغرائزها ولصراع الإنسان بين الرفعة والانحطاط، وهكذا فالفنون لم تخلق لتخدم الأخلاق فقيم الحياة الثلاث الحق ويختص به العلم، والخير وهو مجال الأخلاق، والجمال يخص الفنون فالحياة البشرية تتحرك بين عالم الإمكان وعالم الوقائع، وما يجيء في الفنون من دعوة إلى الفضيلة إنما يأتي بطريق غير مباشر، أما إن جاء غير ذلك فيفسد الفن. وعلى وجه الإجمال يميل زكي نجيب محمود إلى عمود الشعر، فالموسيقى الخارجية تعضد الموسيقى الداخلية ولا تعارض بينهما، في حين يجب أن يكون الشعر معبرا عن نفس قائله وصورة صادقة له بلا إفراط عاطفي، مع تشرب قيم العصر، وهذا يطبع الشعر بطابع الجدة، مثلما وجد ذلك متمثلا في شعر جماعة أبولو والمهجريين وفي شعر أستاذه العقاد.
موقف متزن وسطي اتخذه الفيلسوف المفكر بسبب من طبيعته الفكرية الميالة إلى التحليل، ومثلما كان التجديد في الأدب هاجسه والنقد الموضوعي شاغله، دون أن ينجرف إلى كلام قاس وألفاظ نابية كما انجرف إليها آخرون في معارك اختلط فيها الذاتي بالموضوعي، وابتكر أسلوبا فريدا وغني عن البيان، أن الوضعية المنطقية تميل إلى الاقتصاد في اللغة، ولذا كان أسلوبه خادما لفكره في دقة لفظ مع سلاسة ووضوح.
هذا هو الناقد والمفكر الذي انخرط في تشريح ونزع هذه الأورام التي طبعت حياتنا الثقافية والفكرية فعاقتنا عن التطور منذ سقوط بغداد فكف العقل العربي عن الإبداع وركن إلى التسليم والتقليد والاجترار حتى انتهى لقمة سائغة لأعدائه.
كاتب جزائري