ضمانات رغم المعارضة والنتائج الوخيمة
تتنافس شركة البناء الألمانية تسوبلين مع بعض شركات البناء على إقامة مشروع سدّ إليسو. تحتاج شركة تسوبلين إلى الحصول على ضمان من أجل إقامة مشروع السدّ؛ وقد حصلت مؤخرًّا وبشكل مبدئي على الضوء الأخضر من الحكومة الاتِّحادية الألمانية. بيد أنَّ هذا المشروع يواجه معارضة واحتجاجات من قبل بعض المبادرات المحلية وكذلك من قبل بعض المدافعين عن البيئة في ألمانيا.
صرح أثري بديع نصف مهدَّم يقوم على ضفة دجلة، قطيع من الأغنام يقف في وسط الطريق الزراعية، رجال يجلسون طيلة يومهم الطويل الجميل على مقاعد صغيرة ويحتسون الشاي: هكذا يبدو الزمن في بلدة هاسانكيف الواقعة في جنوب شرقي تركيا وكأنَّه توقَّف عن المسير.
لكن ما يبدو هناك مثل حياة ريفية هادئة هو في الحقيقة تعبير عن حالة من الإحباط والاكتئاب الجماعي، فمنذ بضعة أعوام تعيش بلدة هاسانكيف في خطر دائم.
تسعى الحكومة التركية إلى بناء سدّ في هذه المنطقة بارتفاع 135 مترًا؛ لذلك سوف تغمر المياهُ خلف هذا السدّ مساحةً تبلغ 312 كيلومترًا مربَّعًا. يعتبر سدّ إليسو ومحطة توليد الطاقة الكهربائية التابعة له جزأين من مشروع جنوب شرق الأناضول GAP.
يتعيَّن في مشروع جنوب شرق الأناضول بناء 22 سدًّا على نهري دجلة والفرات مع 19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية ومن أجل ريّ الأراضي الجافة.
مما سيُهيِّئ الأسباب هناك من أجل زراعة كثيفة في الأراضي التي تعتبر حاليًا مجرَّد مراعٍ للأغنام والشياه؛ وبذلك سوف يتمّ - حاليًا وفي المستقبل - حلّ مشاكل القحط والجفاف في تركيا؛ أي أنَّ تلك المنطقة سوف تتطوَّر - باختصار: سوف تتحوَّل هذه المنطقة التركية الفقيرة إلى جنَّات عدن.
المرحلة النهائية من مشروع جنوب شرق الأناضول
لقد رُسمت المخطَّطات الرئيسية لمشروع جنوب شرق الأناضول في الخمسينيات من القرن العشرين؛ بقيت مخطّطات المشروع تُطوى المرَّة تلو الأخرى في الأدراج إلى أن تمّ إخراجها من جديد في الثمانينيات. ومنذ ذلك الحين أصبح يتمّ التعامل معه بجدية.
لقد تمّ حتَّى الآن إنجاز الجزء الأكبر من مشروع جنوب شرق الأناضول، وحاليًا لم يعد ينقص إلاّ بناء سدّ إليسو في منطقة هاسانكيف. من المفترض أن تقوم ببنائه ثلاث شركات أوروبية: شركة البناء الألمانية تسوبلين والشركة النمساوية وكذلك الشركة السويسرية ألستوم.
لكن إنجاز مشروع هذا السدّ الضخم يواجه العديد من الصعوبات والمشاكل. تكمن المشكلة الكبرى في أنَّه لا محيد عن أن تغمر مياه السدّ بلدة هاسانكيف بالإضافة إلى 75 بلدة صغيرة مجاورة لها. وبذلك سوف يفقد حسب معلومات المنظَّمة الألمانية لحماية البيئة WEED خمسةٌ وخمسون ألف مواطن بيوتهم وحقولهم - بيد أنَّ المسؤولين عن المشروع يتحدَّثون فقط عن 11 ألف مواطن.
ضياع مواقع أثرية
ثمَّة مشكلة أخرى تكمن في أنَّ بلدة هاسانكيف ليست كأيّة بلدة، بل تعتبر موقعًا له تاريخ طويل الأمد: في القرن الـ12 أقام الأرتقيون وهم سلالة تركمانية حكمت المنطقة جسرًا لا تزال أعمدته قائمة حتَّى يومنا هذا.
كذلك شيَّد الأرتقيون قلعة تشمخ بقاياها فوق جدار صخري مطلّةً على النهر، بالإضافة إلى صرح أثري بمحاذاة دجلة فيه لوحات فسيفسائية ذات لون فيروزي، يؤول في يومنا هذا وببطئ إلى الانهيار. هناك العديد من بقايا المساجد والمدارس والخانات التي تعود إلى عهد الأرتقيون والتي لم يتمّ التنقيب عن بعضها وإخراجها.
تؤول في المناطق المجاورة بعض الكنائس التي يعود بناؤها إلى العصور المسيحية الأولى إلى الانهيار، كما يقوم في منطقة هاسانكيف بالذات "مسجد رزق" الذي شيِّد في القرون الوسطى. تضاف إلى ذلك مشاكل أخرى: سوف يصاب التنوّع البيولوجي بأضرار من خلال غمر المنطقة بالماء، وبذلك سوف ترتفع نسبة الملوحة في الماء وتنقرض الحياة في النهر.
وفضلاً عن ذلك هناك مشكلة أخرى تكمن في التوتّرات التي كثيرًا ما حصلت في الماضي مع الدولتين اللتين يتابع نهر دجلة جريانه إليهما، أي سوريا والعراق، وذلك بسبب كميَّات المياه التي تحوِّلها تركيا.
حلول لكلِّ شيء
أعدَّ مخطِّطو المشروع حلولاً لكلِّ هذه المشاكل. إذ من المفترض ترحيل سكان هاسانكيف والقرى المحيطة لها إلى منطقة سهلية مرتفعة تقع على الضفة الأخرى من نهر دجلة. كما يفترض تعويض الفلاَّحين عن حقولهم التي سوف يفقدونها، أو سوف تعرض عليهم أراضٍ زراعية أخرى.
كذلك من المقرَّر نقل أهم المباني الأثرية إلى الضفة الأخرى من نهر دجلة حيث سوف يُعاد بناؤها - داخل منتزَّه للآثار ينبغي إنشاؤه هناك. أمَّا المشاكل الأخرى الخاصة بالتوازن البيئي وبدول الجوار التي يتابع النهر جريانه إليها فسوف تحل بشكل ما - حسب تعبير المسؤولين عن المشروع.
لكن ميدانيًا نجد الوضع مختلفًا. حيث تأسَّست هناك مبادرة اسمها "يجب لهاسانكيف أن تعيش"، فيها أعضاء من المدينتين المجاورتين بطمان وديار بكر. قامت جمعية "طبيعة" Doga لحماية البيئة بتنظَّيم العديد من الرحلات لمعارضي بناء السدّ إلى المنطقة، كما أعرب رؤساء البلدايّات في المنطقة عن معارضتهم لهذا المشروع.
وقد كان دليلهم على ذلك أنَّ سكَّان المنطقة سوف يُحرمون من مصدر رزقهم الأساسي من خلال غمر الحقول بالماء؛ لا سيما وأنَّ عشرات الآلاف من القرويين السابقين الذين غمرت مياه السدود مناطقهم أصبحوا الآن عاطلين عن العمل حيث يسكنون في أحياء الصفيح في مدينتي ديار بكر وبطمان.
كما سوف يغرق - حسب تعبيرهم - القسم الأكبر من المباني والمعالم الأثرية تحت مياه الغمر إلى الأبد. يقول معارضو بناء السدّ إنَّه لم يتمّ إخبار المواطنين بصورة كافية كما لم تشملهم عملية التخطيط على الإطلاق.
وضع حجر الأساس رغم التمويل غير المضمون
أدَّت المعارضة والاحتجاجات القوية قبل بضعة أعوام إلى إيقاف العمل في مشروع السدّ وإلى جعل الاتحاد المؤقَّت للشركات التي كانت ستؤمِّن مشروع بناء السدّ يحلّ نفسه بنفسه. لكن يبدو هذه المرَّة أنَّ الحكومة التركية قد عزمت باعتبارها صاحبة مشروع البناء على المضي قدمًا في بناء السدّ.
وضع رئيس الوزراء التركي طيب رجب إردوغان حجر الأساس للسدّ في شهر آب/أغسطس من العام الماضي، على الرغم من أنَّ تمويل المشروع كان لا يزال غير مضمون.
وفيما بين احتذت الحكومة الألمانية أيضًا بهذا الحذو: ففي الشتاء أشارت الحكومة الاتِّحادية الألمانية كأوَّل حكومة من بين الحكومات الثلاثة المعنية إلى موافقتها المبدئية على تقديم الضمان المطلوب، أي أنَّها ستتبنَّى تمويل قرض تصدير لشركة البناء الألمانية تسوبلين. قالت الحكومة الألمانية الاتِّحلدية إنَّ الموافقة مقيَّدة بمجموعة من الشروط، بيد أنَّه لم يتمّ الكشف عن هذه الشروط بالذات.
وبالمناسبة تعتبر الاعتراضات التي يقدِّمها معارضو المشروع ذات طابع جوهري ولا يمكن تجاوزها من خلال بعض التعديلات في التفاصيل الجزئية. لكن على الرغم من ذلك من الممكن أن يكون هذا القرار الصادر عن الحكومة الاتِّحادية الألمانية بمثابة طلقة الانطلاق بالنسبة لتنفيذ مشروع السدّ.
ميدانيًا يتأرجح السكَّان ما بين الغضب والاستسلام للقدر. صرخ في العام الماضي حدّاد شاب من أبناء المنطقة في وجه مراسلتنا الإعلامية قائلاً لها: "إذا كنت من مؤيِّدي السدّ فلن أقول أيَّة كلمة".
لكن في المقابل رضي السكَّان المسنّون الذين يجلسون على مقاعدهم الصغيرة أمام كؤوس الشاي بهذا الوضع. "يجب الآن أن يُتَّخذ قرار، لكي نرحل بعد ذلك وتنتهي المسألة"، على حد قول سائق حافلة عاطل عن العمل: "إذ أنَّ الدولة تفعل على كلِّ حال ما تريد".
أجل إنَّ الدولة التركية تفعل ما تشاء - لكن في هذه المرَّة بمساعدة ضمان ضدّ الخطر تقدَّمه الحكومة الألمانية من أموال دافعي الضرائب الألمان.
بقلم أنتيه باور
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2007