رنا تركض
عندما قدمت السينما الفلسطينية إلى مهرجان كان في السنة الماضية بشريطين سينمائيين معا كان البعد الشعري أكثر حضورا من الدعاية. وأحد هذين الفيلمين هو "القدس في يوم آخر" للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسد. أمين فارزانفار التقى المخرج هاني أبو أسد وأجرى معه الحوار التالي
فيلم "القدس في يوم آخر" له طابع رومانسي ويتميز أيضا بالثراء الفكري . ليس لرنا متسع من الوقت وعليها قبل الساعة الرابعة بعد الظهر أن تجد محاميا وشاهدين كي تتمكن من عقد قرآنها على حبيبها السري خليل. عبر شوارع القدس ورام الله تركض رنا لاتمام زواجها، فيما يبرز أثناء هذا الركض وجود الاحتلا والحواجز التي يضعها للبشر هناك في حياتهم اليومية، إلا أن النسق السريع لأحداث الشريط وكذلك الأجل الزمني المحدود وقصة الحب التي يدور حولها تجعل فيلم هاني أبو أأسد يذكر إلى حد بعيد بالفيلم الألماني "لُولا تركض" .
هناك سؤال قد يكون طرح نفسه في العديد من المرات: كان هناك في السنة الماضية شريطان قد عُرضا في نفس الوقت بمهرجان كان السينمائي، بماذا تعلقون على هذا الحدث؟
هاني أبو أسد: لدينا حاجة كبرى للتعبير والتجسيد: عندما يفقد إمرؤ وطنه وكرامته ، يتطور لديه شعور بالقهر. وفي فلسطين هناك الكثير من مشاعر القهر المتراكمة، بعضها يفرغ شحناته في اتجاه خاطئ، والبعض الآخر يعبر عن نفسه عبر الفن، وفي السينما والرسم.
تبدو التأثيرات المتبادلة بين السياسة والسينما مسألة مفهومة للغاية. هل كانت هناك فترة فكرت فيها، أنت أو بعض السينمائيين الآخرين بالتخلي كليا عن السياسة والتركيز أكثر على مقاربات أكثر شخصية، أكثر "عادية" ؟
هاني أبو أسد: إذا ما نظر المرء إلى أفلامنا بدقة فسيرى أنها جميعها تدور حول مواضيع شخصية وحول أشياء من الحياة اليومية ، لكن هذه الحياة اليومية محددة بواقع الاحتلال والاضطهاد، وهو ما لا يمكن التغافل عنه هكذا ببساطة. في أفلامنا تحتل هذه العناصر خلفية المشهد، ونحن لا نستعرضها في المقدمة لكننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود مظاهر هذا الحيف، وأن نعرض عوضا عن ذلك طبائع ضجرة، إذا ما أردنا أن نقدم مشهدا عن محيطنا المعيشي يستند إلى الواقع.
ألا يوجد هناك خطر أن يركز الواحد كثيرا على رسالة ما، وأن ينساق بموجب ذلك وراء أغراض دعائية؟
هاني أبو أسد: ذهنية ما بعد الحداثة ترفض كل نوع من الرسالات التي تمضي إلى العمق : سياسيا وفي كلّ المجالات لم تعد هناك رغبة في أية رؤى ، بل مجرّد سخافات فقط . معذرة، لكنّ لديّ ما أقوله ، وأنا بكلّ تواضع لا أخجل من ذلك . "الدعاية " تعني طبعًا قلب الحقائق واستعراضات مزيّفة للوقائع ، في حين نحن لا نملك حتّى إمكانيّة أن نعرض هذه الوقائع ؛ الحياة تحت الاحتلال ، والتمييز العنصري والتنقية العرقية الموارِبة الخفية .
في سياق الحديث عن اللغة السينمائية، تبدو السينما الفلسطينية نشطة جدا في الوقت الحالي ، لكنها لا تستند إلى تقاليد كبيرة وعريقة. فمن أين تستمدون لغتكم السينمائيةإذن ، وأين تقع مرجعياتكم ؟
هاني أبو أسد: صحيح، ليست لدينا تقاليد سينمائية واضحة. لكن، وبما أنه ليست لدينا حدود ترابية واضحة لموطننا، فإنك تجدنا أيضا منفتحين على كل التأثيرات، ونحن نتبنى أفضل الأشياء من بينها: فأنا متأثر بالسينما الإيرانية كما بالمينيماليزم اليابانية، والغراميات الهوليوودية . المهم هو أن تكون مستوعَبة داخل رؤيا متكاملة .
هل ووجهتم في البلدان المختلفة، بلدان المشرق، وبلدان الغرب بردود فعل متباينة حول شريط "القدس في يوم آخر" ؟
هاني أبو أسد: المسألة ليست لها علاقة كبيرة بنوعية البلدان، أحيانا يلقى الشريط تقبلا حسنا ، ثم يتركز الاهتمام مجددا على أعمال أخرى أهم ، وهكذا تجد نفسك واقفا على الهامش من جديد على الهامش من جديد . إلا أنه شيء جيد أن يجد المرء نفسه لمرة داخل الجلبة والحركية ، ثم يعود بعدها إلى حياة التعاسة في فلسطين: تجربة جيدة أن تجد نفسك بعد قضاء ثلاثة أيام في مدينة كان، تقف مجددا في طابور الانتظار عند نقطة العبور في الآراضي المحتلة، مثلك مثل الآخرين.
وكيف كانت ردود الفعل في إسرائيل؟ هل عُرض الفيلم هناك أيضا؟
هاني أبو أسد: نعم، إنه يُعرض حاليا في مهرجان حيفا. أعتقد أن أغلبية الإسرائيليين يعيشون جهلا كبيرا في ما يخص وضعنا، وإلا لكان عليهم أن يدركوا أنفسهم كمضطهِدين أيضا. إنهم لا يولون أي اهتمام بالوجود الفلسطيني : ثقافة الفلسطينيين وأفلامهم لا تعنيهم ولا وجود لها في أعينهم . هناك طبعا الكثير من الناس الجيّدين فعلا، المسألة ليست هنا. المسألة هي أنهم لا يمثلون مجمل المجتمع الذي لا يقبل بنا كطرف تام الشروط مع احترام متبادل للحاجيات والأماني والرؤى المختلفة لدى الطرفين.
كيف كان التقبل الذي لاقاه الفيلم ؟
هاني أبو أسد: عُرض الفيلم في لبنان والأردن وأبو ظبي ومصر وتونس والمغرب. وبالفعل هناك الكثير ممن تسرهم مشاهدة فيلم فلسطيني، وذلك بغض النظر عن محتواه، لأننا نمثل بالنسبة لهذه البلدان أبطالا وشعبا جديرا بالاعتبار، لأنه فاقد لوطنه .
في فلسطين لا يستطيع الناس مشاهدة أفلامكم ، لأن قاعات السينما تكاد تكون منعدمة ؟
هاني أبو أسد: لا. لكن بودهم لو أنهم يستطيعون ذلك. عندما عرضنا الشريط على الناس هناك أعجبوا به كثيرًا: فجأة وجدوا أنفسهم أبطالا في شريط سينمائي ، وإذا محيط كعيشتهم اليوميّة يغدو أمامهم جزءا من كواليس السينما. كانت تلك تجربة هامة بالنسبة لهم !
مع كل ما في الفيلم من واقعية فإن الصور تحتوي كلها على جمالية فائقة ، حتى أن المرء يشعر بنفسه كما لو كان أمام قصيدة شعرية . وهو ما يذكّر أيضا بالنظرة الشعرية للمخرج الإيراني كياروستامي . ألم تكن تخامركم أبدا فكرة التقاط الواقع بطريقة أكثر فجاجة وعنفا ؟
هاني أبو أسد: أنا في الواقع متأثّر كثيرا بكياروستامي، ومعجب ببراعته في إدراك الواقع كقصيدة شعريّة. عندما يريد المرء أن يحفظ داخل عمل فني أشياء للمستقبل فإنه سيكون مضجرا أن ينجز عمله ذاك بطريقة واقعية مائة بالمائة.
حوار أمين فارزانفار
ترجمة علي مصباح