بلوشستان المنسية بين باكستان وإيران وأفغانستان
أثار اغتيال الناشطة الباكستانية في مجال حقوق الإنسان سابين محمود في وسط مدينة كراتشي في شهر نيسان/أبريل 2015 صدًى إعلاميًا كبيرًا. لقد كانت سابين محمود مشهورة على مستوى عالمي بنشاطاتها وخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة ونشاطها على شبكة الإنترنت.
لقد كانت هذه الناشطة في الأشهر الأخيرة من حياتها تهتم وبصورة خاصة بالصراع الدائر في إقليم بلوشستان في جنوب غرب البلاد، غير أنَّ هذه الحقيقة لم تكن تلعب سوى دور هامشي. وقبل عدة ساعات من اغتيالها قامت سابين محمود بالتعاون مع جمعيتها المسماة "الطابق الثاني" بتنظيم ندوة حول وضع حقوق الإنسان في إقليم بلوشستان.
يشكِّل هذا الإقليم منذ عدة عقود من الزمن منطقة صراعات ساخنة. وفي الواقع إنَّ صراع بلوشستان ما يزال قائمًا منذ قيام الدولة الباكستانية. وفي تلك الأيَّام حدَّدت القوى الاستعمارية الحدود الباكستانية، التي تم فرضها حينئذ بالعنف والقوة وقد أدَّت إلى عزل شعوب كاملة بعضها عن بعض.
وفي ذلك لعب الخط المعروف باسم خط دوراند، والمسمى بحسب اسم الدبلوماسي البريطاني مورتيمر دوراند، دورًا خاصًا. ففي عام 1893 وضع البريطانيون هذه الحدود ذات العواقب المشؤومة، من أجل فصل مناطقهم الاستعمارية عن مناطق نفوذ الأمير الأفغاني في تلك الفترة عبد الرحمن خان. وبما أنَّ هذا الأمير قد وصل إلى الحكم بمساعدة البريطانيين - حيث أطاح بحكم ابن عمه في كابول، فقد قام مقابل ذلك بالتوقيع وعن طيب خاطر على معاهدة الحدود.
ولذلك لا تزال هناك مشكلة حدودية لا تشمل مناطق البشتون وحدها، بل تطال أيضًا مناطق البلوش. وعلى الرغم من أنَّ مدة صلاحية معاهدة دوراند هذه هي مائة عام فقط وقد انتهت بالتالي في عام 1993، إلاَّ أنَّ الحكومة الباكستانية لا تريد سماع أي شيء حول ذلك. وحجتها: أنَّ باكستان لم تكن أصلاً موجودة في تلك الأيَّام. وبناءً على ذلك فإنَّ هذه المعاهدة باطلة أيضًا. ولذلك يتم في الواقع التشدُّد أكثر في تأمين هذه الحدود التي تم تحديدها في تلك الأيَّام .
21 ألف شخص في عداد المفقودين
وفي العقود الأخيرة حدثت في بلوشستان العديد من الانتفاضات الكبرى، التي تم سحقها بوحشية من قبل الحكومة الباكستانية في إسلام أباد. وعلى الرغم من أنَّ هذه المنطقة غنية بالموارد الطبيعية، إلاَّ أنَّ سكَّانها يعتبرون من أفقر أهالي باكستان. فمن النادر هنا وجود بنية تحتية متينة، تمامًا مثلما هي الحال مع إمدادات الكهرباء والمياه النظيفة الصالحة للشرب. زد على ذلك أنَّ ثمانية وثمانين في المائة من المواطنين البلوش يعيشون تحت خطِّ الفقر. وبينما يتم من ناحية استغلال الموارد الطبيعية في هذه المنطقة، لا توجد فيها من ناحية أخرى أية استثمارات تقريبًا. وفي المقابل لا يزدهر هنا إلاَّ القطاع الأمني.
في الأعوام الأخيرة نبتت من الأرض وبمعنى الكلمة في هذه المنطقة مباني مقرَّات الوحدات العسكرية، وكذلك العديد من مراكز الشرطة، التي زاد عددها في هذا الإقليم في عام 2009 وحده بنسبة بلغت نحو اثنين وستين في المائة. وبالإضافة إلى ذلك هناك جماعات شبه عسكرية، تعمل لصالح إسلام آباد وتصطاد الناشطين والسياسيين البلوش. وبحسب التقارير يوجد 21 ألف شخص يعتبرون جميعهم في عداد المفقودين.
وكذلك تظهر مرارًا وتكرارًا جثث لبعض الأشخاص المفقودين، وغالبًا ما تكون ملطخة بآثار التعذيب الوحشي. وعلى الرغم من أنَّ إسلام آباد قد أدانت اغتيال سابين محمود وأعلنت عن بدئها التحقيق حول ذلك، إلاَّ أنَّ المراقبين يعتقدون أنَّ مسؤولية اغتيالها أيضًا تقع على عاتق الجماعات المقرَّبة من الحكومة أو من الاستخبارات الباكستانية - أي باختصار الجماعات المقرَّبة مما يعرف باسم مؤسَّسة الدولة الباكستانية.
ومن خلال أجواء الخوف هذه وكذلك من خلال القمع الدائم انفتح فراغ أمام الجماعات المسلحة. وصار يزداد في هذه الأثناء وباستمرار عدد الشباب البلوش الذين يلجؤون إلى حمل السلاح. وذلك لأنَّهم يرون أنَّ السبل السلمية والديمقراطية قد باءت بالفشل. وفي الأعوام الأخيرة أثارت جماعات انفصالية مثل "جيش تحرير بلوشستان" BLA أو "جبهة تحرير بلوشستان" (BLF) الانتباه من خلال تفجيرات وسلسلة من الاعتداءات العنيفة، التي قُتل فيها أيضًا العديد من المدنيين.
وعلى العكس من الجماعات المسلحة الأخرى في باكستان - مثل حركة طالبان الباكستانية TTP - فإنَّ توجُّهات كلّ من جبهة تحرير بلوشستان وجيش تحرير بلوشستان وغيرهما من جماعات البلوش الأخرى ليست دينية، بل قومية وعلمانية، وحتى أنَّ بعضها ماركسية. وربما يكون أيضًا هذا هو سبب عدم ذكرها وعدم التركيز عليها في وسائل الإعلام الغربية.
تأثير الأطراف الإقليمية الفاعلة
تحاول منذ فترة طويلة الأطراف الإقليمية الفاعلة، التي تعتبر باكستان بالنسبة لها بمثابة الشوكة في عين، تحقيق أرباح من هذا الصراع والتأثير عليه. في فترة الثمانينيات كان يتم دعم البلوش من قبل الاتِّحاد السوفييتي بسبب التعاون بين الولايات المتَّحدة الأمريكية وباكستان خلال فترة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. وفي الوقت الحاضر تعدُّ الهند - التي تمثِّل عدو باكستان اللدود والأبدي - واحدة من أكبر المؤيِّدين لاستقلال البلوش. ولذلك فإنَّ الاستخبارات الباكستانية ISI تتَّهم الحكومة الهندية منذ وقت طويل بتقديم الدعم الفعَّال للجماعات البلوشية المسلحة وتدريبها في معسكرات تدريب.
وكذلك يوجِّه جهاز الاستخبارات الباكستانية هذه التهمة إلى أفغانستان. ويقول إنَّ الرئيس السابق حامد كرزاي خاصة كان يتعامل بلطف مع البلوش. وعلاوة على ذلك من المعروف أنَّ قادة البلوش كانوا مرارًا وتكرارًا يجدون في العقود الأخيرة في كابول ملاذًا آمنًا.
ما من شكّ في أنَّ الروابط التاريخية في أفغانستان، التي لا تعترف حتى يومنا هذا بخط دوراند ولا تزال تنظر إلى بلوشستان على أنَّها بلد يخضع لاحتلال غير قانوني، تلعب في هذا الصدد دورًا رئيسيًا. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ كلاً من الهند وأفغانستان تحمِّلان باكستان المسؤولية عن معظم الأوضاع السيئة في البلاد - وخاصة الإرهاب - كما أنَّ لهما مصلحة قوية في زعزعة الاستقرار هناك.
وكذلك تلعب الصين دورًا مهامًا في بلوشستان. فقد ضمنت الحكومة الصينية لنفسها قبل كلِّ شيء العديد من حقوق استغلال موارد الإقليم الطبيعية، مثل الذهب والنحاس. وعلاوة على ذلك فإنَّ ميناء جوادر الواقع على بحر العرب يتمتَّع بأهمية استراتيجية كبيرة ومن المفترض أنَّه سيلعب دورًا مهمًا فيما يتعلق بإمداد الصين بالطاقة في المستقبل. حيث استثمرت بكين في بناء الميناء وحده نحو 200 مليون دولار.
وضمن هذا السياق تم بالفعل الاتِّفاق على استثمارات أخرى بالمليارات. وبالإضافة إلى ذلك من المفترض أنَّ هناك تخطيطًا لإنشاء قاعدة بحرية صينية. ولذلك فإنَّ السياسيين والناشطين البلوش يتحدَّثون الآن حول وجود استعمار صيني، لا يستفيد منه هذا الإقليم الذي يعاني من فقر مدقع، بل إنَّ المستفيد منه مؤسَّسة الدولة الباكستانية. وبناءً على هذا النفوذ المتزايد فقد باتت الشركات الصينية في بلوشستان مرارًا وتكرارًا هدفًا لهجمات البلوش.
غير أنَّ كفاح البلوش من أجل الاستقلال يشتعل أيضًا في أماكن أخرى. حيث تسود ظروف مشابهة في إيران التي يعيش فيها نحو مليون ونصف المليون نسمة من البلوش. وكذلك لقد تم هناك أيضًا في إقليم البلوش (سيستان وبلوشستان) تنظيم جماعات مسلحة من أجل محاربة الحكومة في طهران. ومن الجدير بالذكر أيضًا أنَّ الصراع في إيران له في الحقيقة طابع طائفي. فعلى وجه التحديد لا يُنظر إلى البلوش فقط كأقلية عرقية، بل كذلك كجزء من الأقلية السُّنية، التي يجب عليها أن تخضع للسيادة الشيعية.
دعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والموساد
وفي إيران أيضًا يتم استغلال هذا الصراع على المستوى الجيوسياسي. ولكن في الواقع إنَّ الأطراف الفاعلة هنا مختلفة تمامًا. فهكذا لقد بات من المعروف منذ فترة أنَّ جماعة "جند الله"، وهي جماعة سلفية مسلحة تدَّعي أنَّها تمثِّل جميع السُّنَّة في إيران وتنطلق في عملها بشكل أساسي من بلوشستان الإيرانية، لا تتلقى الدعم فقط من المملكة العربية السعودية، بل كذلك من جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية الموساد ومن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي إيه. ولكن في الوقت نفسه توصف هذه الجماعة من قبل الولايات المتَّحدة الأمريكية على أنَّها تنطيم إرهابي، له علاقة بتنظيم القاعدة.
لقد أثارت معرفة ذلك قبل عدة أشهر ضجة كبيرة. وفي الواقع يعود سبب ذلك قبل كلِّ شيء إلى أنَّ بعض الصحفيين قد خلطوا ما بين جماعة "جند الله" وبين جماعة باكستانية تحمل الاسم نفسه ومن المفترض أنَّها بايعت تنظيم الدولة الإسلامية.
ومرة أخرى يبيِّن الدور الباكستاني في بلوشستان إلى أي مدى من الممكن أن تكون التناقضات الجيوسياسية. ففي حين أنَّ باكستان كانت تتعاون في عهد نظام الشاه مع إيران ضدَّ البلوش في كلّ من باكستان وإيران، أصبحت في الأشهر الأخيرة تُتَّهم أكثر بأنَّها تدعم جماعة "جند الله" إلى حدّ ما، بهدف وضع طهران أمام مشكلات. وفي هذه الأثناء لا يزال يختفي في بلوشستان وفي أماكن أخرى أشخاص بلوش - أو يتم اغتيالهم في الشوارع العامة مثلما كانت الحال مع سابين محمود.
عمران فيروز
ترجمة: رائد الباش