أين السكينة الربانية؟

هل سيُعزل المسلمون في أوروبا بسبب الإرهاب الذي يرتكبه البعض منهم؟ هذا السؤال يطرحه الكاتب والباحث في الدراسات الإسلامية نفيد كرماني.

الأمر واضح ولا داعي للمداورة: إذا ما انتشر الإرهاب الذي يمارسه المسلمون في أوروبا وأصبح الناس هنا يعيشون تحت طائلة الخوف من الصعود في قطار، أو من إرسال أطفالهم دون مرافقة إلى المدرسة أو من الالتقاء في حفل موسيقيّ، فإنّه سيمكننا أن نلاحظ بسرعة أنّ أرضيّة التسامح التي تتحرك فوقها الأقليات في أوروبا بأمان منقطع النظير في سابق التاريخ الأوروبي، هشة جدّا وغير متينة.

يمكن لردّة الفعل أمام الإرهاب أن تكون أكثر حدّة ولاعقلانيّة في أوروبا مما في الولايات المتحدة الأميركية –قد لا يكون الأمر كذلك في سياسات جميع الدول الأوروبية، لكن لدى الشعوب فإن الأمر متأكد – فالولايات المتحدة لم تتجاوز بعد هوس الهويّة، ذلك أنها كبلاد هجرة لم تعرف هذه الظاهرة بالصورة التي عرفتها بها أوروبا.

وبالذات لأنّ متعلّق القيَم في أوروبا على درجة قصوى من الارتفاع نتيجة لحركة التنوير، فإنه بإمكانه أن يهوي إلى مستوى بالغ التدنّي، وقد كانت الحرب التي خاضها الصرب قبل بضعة سنوات ضد المسلمين تحت يافطة العقيدة المسيحيّة على بعد 300 كلمترا من ميونخ مناسبة لتذكيرنا بهذا الأمر.

لا يتعلّق الأمر هنا بإحصائيّات وأرقام؛ فحتى في إسرائيل التي يمكن أن نرى في حاضرها صورة مفزعة لمستقبل أوروبا، فإنه وبالرغم من معدل اعتداءات يقدر بواحدة في الأسبوع تقريبا، يظلّ احتمال الموت من جراء السرطان أو حوادث الطرقات أكبر بكثير من الموت بسبب انفجار قنبلة.

ومع ذلك فالإرهاب قد اقتحم وعي كلّ أمّ وكلّ سائق حافلة. إنّ الإرهاب الذي بدا في الأسبوع الماضي أنّه قد غدا –وفقا لكلّ التوقعات -يستهدف أوروبا، وأنه إذا ما انفلت من عقاله سيصبح أمرا لا مردّ له، هذا الإرهاب لا تمكن مقارنته لا بالأمراض ولا بالكوارث البيئية أو حوادث الطرقات؛ فالمسألة ليست مسألة أرقام وإحصائيات؛ إذ يكفي الإرهابَ أن يكون بإمكانه أن يستهدف كلّ شخص وفي أيّة لحظة كي يشلّ عمليّة التفكير.

"نحن" و "هم"

إذا ما استقرّ الخوف في الأذهان فإنه لن يعود بإمكان التبصّر والعقلانية التحكم في تحديد الاختيارات. وعندما يكون المجرمون مسلمين فإنه لن ينفع كثيرًا أن نشير إلى أنّهم يقتلون مسلمين أيضًا من بين من يقتلون ودون تمييز، أي أنهم لا يختارون ضحاياهم حسب المعتقد.

سيشرع الناس في تصنيف جيرانهم والمهاجرين والدول إلى "نحن" و "هم" بحسب الانتماء العقائدي. ويكفي أن يكون الآخرون مسلمين كي يفتقدوا أيّ مكان مناسب داخل الـ"نحن" الأوروبية.

إنّ السؤال الذي ما يزال مطروحا حاليا، إن كان للإسلام موقع في أوروبا، السؤال الذي تؤججه قضايا حقوق المواطنة والحجاب وانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، سوف لن يتم البتّ فيه الآن لصالح أولئك الذين ينتمون إلى نفس الفضاء الذي ينتمي إليه مقترفوا العمليات الإرهابيّة. وبالتأكيد سوف لن يكون القرار لصالحهم بعد العمليّة العاشرة.

المؤشر الأكثر صلابة عن الخلفية الإسلاموية التي تقف وراء العمليات الأخيرة، هو ذكر شريط آيات قرآنيّة قد عثر عليه مع سبع متفجرات وبقايا مواد تفجير داخل شاحنة صغيرة. كان القتلة إذًا يستمعون إلى القرآن خلال رحلتهم. ومن الممكن أيضا أنهم لم يستمعوا إلى الشريط، بل تركوه هناك عن قصد كدليل وإشارة للمحققين في العمليات وللرأي العام العالمي.

أكتفي بأن أهزّ بكتفيّ عندما يزعم أيّ كاتب مزعوم أنه بإمكانه اعتمادا على قراءة مقال صحفي وفي أفضل الحالات على تحذيرات اختصاصيّن من شاكلة بسام طيبي، أن يدلي بفتواه بخصوص معتقد أجدادي الذين لم يكونوا في تسامحهم يتصرفون وفقا لفرائض عقل التنوير الغربي و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل وفقا لفرائض العقل الكوني الأعظم، عقل العلي القدير.

أما عن الأربع أو خمس آيات التي تحتلّ صدارة أكثر الاستشهادات ترددا في رسائل القراء بالصحف الألمانية فهي لا تحرك لي ساكنا، وإن كنت لا أحتاج إلى جهد ذهني كبير كي أتخلص بالحجة من المحتوى المشين لهذه المقولات. لكن ليس بوسعي أن أتجاهل شريط الآيات القرآنية الذي كان في الشاحنة الصغيرة.

كل السلمين تقريبا من الذين يقيمون في هذه البلاد وأغلب المشتغلين في حقل العلوم الإسلامية يبدون انزعاجهم لهذه الصورة المشوهة التي تصقلها وسائل الإعلام عن الإسلام. لكن ما كان لهذه الصورة أن تحتلّ الصدارة بهذه الكيفية، لو لم يكن هناك عدد غير قليل من الإرهابيين المسلمين والفقهاء ورؤساء الدول الذين يجسدون هذه الصورة التي يستنكف منها المؤمنون وأهل المعرفة. لا شك أن هناك فعلا تمثّل مفزع عن الإسلام كعدوّ، لكن الأدهى من ذلك هو أن هناك إسلاما يمنح نفسه للعالم كعدو.

كان بودي لو أنني أعرف أيّ من المرتّلين كان مقترفوا عمليات القتل يسمعون. إذ لا أظنّ أنهم تركوا في شاحنتهم شريطا لواحد من أولئك المرتلين المعروفين برخامة الصوت والنغمة والذين يحظون بشعبية داخل البلاد العربية تعادل تلك التي يحظى بها نجوم موسيقى البوب في الغرب.

فالإسلام الوهابي الذي من المفترض أن يكون القتلة من أتباعه يعتبر هذه الطريقة الفنية في ترتيل كلام الله ضربا من الهرطقة. لكن التقليد الإسلامي يقول بأنه حيثما يرتّل القرآن تسقرّ على كلّ من يوجد هناك الطمأنينة الربانيّة؛ السكينة أو ما يقارب لغويّا مصطلح الـ(Schechina) في اليهوديّة. وهو ما يجب أن ينطبق على القراءة الوهابيّة للقرآن أيضًا. لكن ليس هناك سوى الله وحده الذي سيكون عليه أن يواجه سؤال: أين هي السكينة التي يغمر بها الأحياء؟

نفيد كرماني، باحث في الدراسات الإسلامية، مقيم في ألمانيا
صحيفة Süddeutsche Zeitung ؛ 16 آذار 2004.
ترجمة علي مصباح