عفراء جلبي تكتب: رقة بلقيس وقساوة سليمان!
يبحث عن طائر الهدهد فيقول: "ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين". في المقابل يرينا القرآن نموذج المرأة في الحكم في بلاط مغاير كلياً عندما تتوجه ملكة سبأ إلى جمهورها، قالت: "يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون.".
هنا نشهد نموذجين، أحدهما يعتمد التعذيب والقتل، والآخر يعتمد التشاور والتشارك في صناعة القرار. وليس صدفة أن النموذجين لم يُعرضا بشكل حيادي في القرآن، بل أعطي نموذج الهيمنة وجهاً ذكورياً وأعطي نموذج التشارك وجهاً أنثوياً.
لكن قبل الاعتراض تعالوا ننظر إلى تاريخنا البشري، ولماذا نحتاج إلى شراكة حقيقية بين الرجل والمرأة في إدراة أمور البلاط وصناعة القرارات التي تؤثر على أمن وسعادة الجميع. ودعونا لا نذهب بعيداً. شاشاتنا تشي بنا. في كل العالم، من أماكن الحروب وأماكن الازدهار، كلما زاد الصراع كلما اختفت المرأة، وكلما زاد السلام كلما ظهرت المرأة. هذه متلازمة واضحة.
أهمية إدراك دور المرأة في صناعة السلام وتعزيزه له علاقة بفهم الترابط بين عوامل الازدهار والسلام، والذي يتجلى في حضور المرأة في القطاع العام، وبالأخص في أماكن صناعة القرار. ولذا ليس من الصدفة أن نرى تقريباً وجوهاً تكاد تكون كلها نسائية في اجتماع وزراء الدفاع الأوربي. القارة التي استطاعت، باستثناء أزمنة البوسنة وكوسوفو في نهاية التسعينات، طلاق الحرب لأكثر من نصف قرن، ونرى أيضاً تزايد عدد الرئيسات أو الوزيرات في أمريكا اللاتينية بعد أن خرجت من نفق حقبة العسكرة والقبضة الأمنية وحروب المليشيات وقمع التحركات الديمقراطية.
عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية القنبلة الذرية على مدينة هيروشما اليابانية في السادس من آب عام 1945، كان الشاب الياباني تسوموتو ياماغوتشي هناك، ولكنه نجا بأعجوبة. وعندها قرر الهرب منها والالتجاء لمكان آمن، فتوجه نحو مدينة ناغازاكي، المدينة الثانية التي نزلت عليها القنبلة الأمريكية الثانية في التاسع من آب. ولكن بأعجوبة نجا من هذا الدمار أيضا وعاش حتى عام 2010 عندما توفي عن عمر يناهز 93 عاما. ربما كان ياماغوتشي صاحب كرامات نووية، ولكنه كان أيضا حكيما أنضجته التجارب العجيبة والأليمة، لأنه كان خلال سني حياته الطويلة وما مر به من تحولات تاريخية كبيرة في بلده وصل لمعادلة مفادها أن السلام تصنعه الأمهات، وصرح بها للإعلام، حيث قال بأنه في قناعته سيحل السلام فعليا عندما عندما يتم تسليم مقاليد السلطة في الدول المسلحة للأمهات اللاتي ما زلن يرضعن صغارهن.
ربما نقرأ عبارات ياماغوتشي ونراها حالمة أو رومانسية، ولكن كما نرى، مع قليل من التمحيص، نجد أنها تضرب في صميم حقائق معينة عن تاريخ العنف الممنهج والحروب التي يخوضها الرجال بشكل ذكوري بحت، حيث إن دققنا في إحصاءات الحروب سنجد بسهولة بالغة بأن الحرب سلوك له تجليات معينة وأهمها الذكورية، حيث لا توجد ظاهرة يتباين فيها مشاركة الجنسين كما ظاهرة الحرب. الرجال من يقوم بها والنساء والأطفال من يدفع الثمن الأعظم، وخاصة في الفترات المعاصرة التي زادت فيها أرقام المدنيين كأكبر عدد للضحايا. وطبعا يعود هذا لتغير طبيعة التكنولوجيا التدميرية حاليا.
والسياق السوري من أوضح النماذج لهذه الحقائق التي تتعلق بصناعة الحرب والسلام، في ظهور المرأة في الأشهر الأولى من الاحتجاجات وتراجع حضورها بعد بدء العسكرة واختفائها شبه الكلي مع ارتفاع وتيرة المواجهات المسلحة وعودتها المترددة مع الهدنة.
ياغاموتشي قال شيئاً بدأت الدراسات والإحصائيات الجديدة تثبته، فهو تحدث عن الأم المرضعة، لأنه من الواضح أنها مستثمرة في الحياة والأمن والازدهار لوليدها، ولهذا فإن الزواج وبناء العائلة بين الشباب يخفف حسب العديد من الإحصاءات حول العالم الميل للانخراط في عمل عسكري. فالرجل أيضا مثل المرأة، عندما يصير مستثمرا للحياة تبدأ قرارته بالتحرك الدينامكي نحو الحلول والبناء وليس المواجهة والقتل. وهذه الدراسات التي تظهر الاستثمار في العائلة والأطفال بدرجات تقارب أهمية نسب التعليم والوعي في المجتمع تجعلنا نفهم أن الأمر متعلق بقدرة الإنسان على العطاء. ولذلك فهو ليس صراعا بين الرجل والمرأة بقدر ما هو صراع بين المحبة والدمار.
وهنا تكمن رمزية بلاط ملكة بلقيس، لأنه في النهاية وانسجاما مع نموذجها في الحكم لم تقبل المواجهة. وهي أيضا لم تقبل الاستسلام لسليمان ولم ترغب في إذلاله أيضا واختارت صناعة شراكة متعادلة حيث قالت "أسلمت مع سليمان لله رب العالمين."
عندما نسلم لسنن الكون المتوازنة، فإننا سنكون قادرين على أن نصنع في واقعنا شراكات حقيقية مبنية على قيم عملية تنفع الجميع خارج قصر سليمان وجيوشه من الجن والإنس والطير.