العمل شكل من أشكال العبادة
يعتبر مصنعَ إبيك للأثاثِ أحد أكثر قصص المدينةِ نجاحاً و شُهْرَة. السيد سافيت أرسلان هو مالك المصنع الفخور الذي حقق "قفزة كلاسيكية" من الفقر المدقع إلى الثراء. فقد بدأ العمل مع النجارين كعامل مبتدئ، وعَمَل "تحت الجلدِ" كما يَقُولونَ في اللغةِ التركيةِ. ومِنْ هناك أَسّس محلاًّ للأثاثِ لصنع الأرائكَ، تبلغ مبيعاته اليوم مائة مليون دولار تقريباً، ويَتضمّنُ عملَه أيضاً مراكز للتسوق، ومعامل الأفرشة ومصانعَ المعدن.
العمل كوسيلة
وطبقاً لأرسلان فإن النجاحِ لَمْ يجعله يُساومُ على معتقداته الدينية. وفي الحقيقة، يَقُولُ أرسلان، بأنّ معتقداته الدينية هي التي ألهمتَه النجاحِ:
"أنا أرى أن الإسلام دين يَدْعو الناسِ كي يعيشوا بتواضع وأن يعدلوا وأن يَكُونُوا صادقَين ومُنْتِجين. هذه هي القواعدَ التي أتبعها في العملِ وهذا هو السببُ في نجاحِي. ويعلمني الإسلامَ أيضاً بأَنْ لا أَرى عملَي ذاته كغاية، لكن بالأحرى وسيلة لغاية أخرى. إن نجاحي يُمكّنُني من جلْب الثروةِ إلى المجتمع بكامله. هذه هي فلسفةُ رجالِ الأعمال في قيصري. لقد بَنيتُ مدرستين، وأنا أدعم تعليم مائتي طفل."
يؤدي الدين دوراً مركزياً في حياةِ الناسِ هنا في قيصري. للمدينة سمعة تقليدية بأنها المكان الوحيد الذي يمكن الحُصُول فيه على شراب كحولي في الفندقِ الدوليِ للمدينة فقط. لقد سَيطرتْ في الماضي نخبةُ البلادَ العلمانيةَ على العملِ في تركيا وأبعدتْ بِحزم الدين عن غرفةِ المدراء، ولكن في قيصري يلعب الدين دوراً مركزياً.
ويَبْدو أن ذلك مزيج مُربح. فهذه قيصري تزدهر، مسجلة رقما قياسيا في عدد المصانع التي تفتتح كل يوم: 190 مصنعا، كما تَفتخرُ المدينةُ بإنها تؤوي 50 من بين 500 يعتبرون من أغنى أغنياء تركيا.
أغنياء طهرانيون
لَكنَّك لن تستطيع أن تصدق ذلك حين تمْشي في شوارعِ المدينةِ. هنالك فقط بِضْع سياراتٍ غاليةِ، لأن السلوك المتباهي يُقَطّب له ولا يُرَحّب به. بالأحرى لمدينة قيصري حس بيوريتاني متزمّت. لكن لا يَجِبُ لذلك أن يَكُونَ مفاجئاً وفقاً لجيرالد كناوس الذي يعمل في إطار مبادرةِ الإستقرارِ الأوروبيةِ.
فقد نَشرَ مؤخراً تقريراً يطهر فيه التشابه مَع كالفينيي القرن التاسع عشرَ. وهو يرى أن مدينة قيصري قد دفنتْ الإعتقادَ الواسع الإنتشار الذي يرى أن الإسلامِ والرأسماليةِ متنافران:
"العديد مِنْ الناسِ في أوربا الغربية، بل وحتى َبعض المفكّرين الجادين تماما إعتبروا أن الإسلام دين قدري يُناسبُ إقتصاد التجارة، لا الإقتصاد الصناعي. ولكن الذي وَجدنَاه في قيصري هو العكس من ذلك. فالميزاتِ الخاصة التي نَسبَها عالم الإجتماع ماكس فيبر إلى الكالفينيين بكونهم جادين جدا في العمل ًوحساسين في عدم التباهي باستعراض ثرائهم هي نفس الميزاتَ التي تجدها في رجالِ الأعمال في قيصري."
مثالية العمل
تسبب مصطلح "الكالفينية الإسلامية" في إثارة بعض الإضطراب في تركيا، وشُجِبَ بغضب في بعض أجهزةِ الإعلام. ولكن في قيصري يبدو أن الكثيرين سعداء تماماً بهذا اللقب الذي أُطلق على المدينة. فها هو ذا مُصطفى بويداك رئيسُ غرفةِ تجارة قيصري يُديرُ هو الآخر أيضاً واحدة من أكبر الشركاتِ في المدينةِ. بويداك يرى بعض التماثل مَع الحركة البيوريتانية في القرن التاسع عشرَ:
"ثمة فهم في الكالفينيةِ يقوم على أنّ العملِ شكل من أشكال العبادة، والناس في قيصري يرون الأمر هكذا أيضاً. الإسلام يُعلّمُنا أيضاً أن نَكُونَ متسامحينَ، ومنفتحين على الأفكارِ الجديدةِ التي لها أهمية في العملِ، وعلى الناسِ الذين يََعِيشُون هنا. المسيحيةَ تَشتركُ بهذه المثاليةِ، وتأثير المسيحيةِ هنا مهم. لقرونِ خَلَتْ عاش العديد مِنْ اليونانيين والأرمن المسيحيين هنا، وشاركوا في الأعمال وهو أمر ساهم بلا شك في تكوين مبادئ الناس في هذه المدينة."
الحرية السياسية والحرية الإقتصادية
ولكن كَيفَ تَعْمل النِساء في هذا العالم "الكالفيني الإسلاميِ"؟ سافاك سيفتسي هي إحدى سيّداتِ الأعمال العديدات اللواتي إنضمَمْنَ إلى إزدهارِ قيصري. تَعترفُ السيدة سيفتسي بأن المدينة محافظةُ دينياً، لكن ذلك لا يَقِفُ حائلا في طريق العَمَل؟
"لا أحد يَقُولُ بأنّني لا أُريدُ المُتَاجَرَة معك لأنك إمرأةَ، لَرُبَّمَا حدث أن أحدا ما لا يرغب بمصافحتي. ثم ماذا؟ ليس من الضروري أن أَصافح يَدَ كُلّ شخص." ووفقاً لسيفتسي، هناك على الأقل 80 إمرأة من اللواتي يشغلن مواقع الإدارة العليا أَو من المالكات في المنطقة الصناعية التي يتواجد فيها مصنعها.
إن نجاحهنّ وقبولهنّ الظاهر في ما كان يهيمن عليه الرجال يعتبر مثالاً ناصعاً على التحول المستمر في قيصري. يَقُولُ كناوس إن تجربة قيصري يُمكنُ أنْ تكون لها نتائجَ ذات تأثير بعيد.
"حقاً إن تركيا مثال ملهمُ للبلدانِ الإسلاميةِ الأخرى، لَكنَّه أيضاً مثال من الصعب جداً محاكاته، من غير الحريةِ السياسيةِ والحرية الإقتصاديةِ التي جَعلت كُلّ شيء ممكنا في آخر الأمرً. ولكن أي الأمرين يأتي أولاً. حقاً أن هذا السؤال يشبه السؤال: أيهما كان أولاً الدجاجِة أم البيضِة؟
بقلم دوريان جونس
ترجمة كامل الزيادي
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
تركيا والإتحاد الأوروبي
ملف شامل يناقش العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوربي من جهة والعلاقة بين تركيا والعالم الإسلامي من جهة أخرى، نشأ في إطار مبادرة إرنست رويتر