الأدب والديمقراطية: الجزائر نموذجا

إن تاريخ الجزائر يعبر عن المشاكل التي يمر منها العالم العربي اليوم. وفي الآن نفسه، ورغم تلك المشاكل، أعطت الجزائر أسماء أدبية وثقافية كبيرة. لكن الرغبة في الديمقراطية تصطدم مع البنيات السلطوية المتكلسة، كما يرى بوعالم صنصال.

الكاتبة ، الكاتب: بوعلام صنصال

ود في البداية سيداتي سادتي أن أشكركم على حضوركم الذي يشرفني كثيرا، وأقدم شكري أيضا لأعضاء جمعية الناشرين والمكتبيين الألمان على الجائزة التي شرفوني بها، جائزة السلام، أحد أهم الجوائز التي يقدمها بلدكم الجميل. وفي السياق الحالي فإن حصولي على هذه الجائزة يمثل إلتفاتة جميلة ومشجعة، لأنها تظهر الاهتمام بمحاولة شعوب الجنوب التحرر من نير ديكتاتوريتها الشريرة والظلامية في هذا العالم العربي  الإسلامي الذي كان عظيما ورائعا في الماضي، لكنه أضحى مغلقا وجامدا ومنذ زمن بعيد حتى نسينا أن لنا أرجل ولنا رأس، وأنه يمكننا أن نقف على أرجلنا ونمشي ونعدو ونرقص إذا رغبنا في ذلك وأنه برأسنا يمكننا القيام بأشياء عجيبة ورائعة، خلق المستقبل والحياة في سلام في الحاضر، الحرية والصداقة.

 أي سلطة مثيرة ومخلصة: نخلق المستقبل في الوقت الذي يخلقنا فيه المستقبل؟ إنه حظ كبير أن يتمكن الإنسان رغم ظروفه الحياتية التي لم يخترها، أن يتصرف انطلاقا من إرادته. يفاجئنا أمر هو في الواقع معروف: الحياة خلق مستمر وثوري، ونحن قصائد رومانسية وسوريالية، وهي تحمل بداخلنا حقائق أبدية ووعودا لانهائية، وعلى هذا المستوى يتوجب النظر إلينا. فالإنسان الحر لا يملك خيارا آخر غير التصرف كإله، كخالق شجاع، يتطور باستمرار، لأنه في غياب ذلك سيقع ضحية للقدرية والعبودية والانحطاط، فهذا ألبير كامو الفرنسي الجزائري الثوري، يحذرنا من اليأس، وهو ما نحمله في قلوبنا. ففي عصر الإرهاب والأمل لا يتبقى لنا من شيء آخر، غير أن نكون شجعانا، لأن الشجاعة مرادف للحياة المستقيمة، وهو ما يجعلنا ننظر في ثقة كاملة إلى المستقبل. إنني شاكر لاتحاد الناشرين الألمان التي رأت في عملي، كما هو مكتوب في ديباجة الجائزة، بأنه يدعم اللقاء بين الثقافات في احترام وتفاهم متبادل. إن الأمر يمتلك بالنسبة لي الآن معنى خاصا، وخصوصا وأن الوطن العربي يشهد رياح تغيير تنادي بالحرية وتدافع عن القيم الإنسانية الكونية، التي يتأسس عليها إلتزامي. إن الجوائز الأدبية تملك في رأيي قيمة حقيقية حين تخدم قضية كبيرة، حين تدعم ثقافة أو لغة أو مشروعا سياسيا أو فلسفيا. إني آمل أن عملنا ككتاب ومخرجين وشعراء وفلاسفة وسياسيين قد ساهم وإن بشكل ضئيل في انبعاث الربيع العربي، الذي يدفعنا إلى الحلم ويجعلنا نفقد الصبر لأنه مسكون بروح من الحرية ومن الكرامة المسترجعة، وبروح الشجاعة، ما مكنه من الصمود ضد كل التهديدات وكل محاولات استغلاله. وإذا كان لي أن أساهم فيه، فكواحد من عديد من المثقفين والفنانين العرب، والذين كانت مساهماتهم لا ريب أكبر من مساهمتي، فبعضهم يحظى بسمعة خاصة ويكفي النطق بإسم بعضهم لتجتمع الحشود. سنة 2000 حصلت الجزائرية آسيا جبار على جائزة السلام، وقد عملت كثيرا في الدفاع عن الفكرة البديهة والتي ترى بأنه حتى في بلداننا العربية الإسلامية يجب أن تكون المرأة حرة، وأنه لا يمكن تحقيق عالم عادل في غياب امتلاك المرأة الكلي لحريتها، بل فقط عالم مريض ومضحك وحاقد، لا يشعر بموته. وأستطيع القول أن كفاحها أعطى ثماره. صمود حقيقي، كله كرامة وعناد، يقوده خصوصا النساء اليوم في الجزائر. لقد شكلت النساء خلال الحرب الأهلية في التسعينيات، تلك المرحلة التي نسميها بالعقد الأسود، هدفا مفضلا بالنسبة للإرهابيين، كما أن المعسكر الآخر، معسكر السلطة وأتباعها رأى في النساء أصل بلاءنا المستمر وحاول إخراس صوتهن بقوة القانون والدعاية. لكن النساء كافحن كفاحا عظيما، وبفضل جهودهن في تجاوز الصعوبات اليومية المستمرة، يصنعن مستقبلنا. لقد كن دائما ملجأنا الأخير. أستسمحكم في هذا المقام وأتوجه اللحظة إلى زوجتي، التي تجلس في الصف الأول بين مضيفي العزيزين غوتفريد هونفلدر وبيتر فونمات. أريد أن أنظر إلى عيونها وأقدم لها شكري: عزيزتي نزيهة، أشكرك على كل شيء، على حبك، صداقتك، صبرك وشجاعتك الصامتة، التي رافقتني لسنوات طويلة، خلال كل المصاعب التي واجهتنا، والله يعرف كم كانت مؤلمة، الحرب الأهلية، الغرق في العبث، العزلة الممنهجة التي تجعل الحياة جدباء. إنك أنت في واقع الأمر من يقف وراء حصولي على هذه الجائزة. أريد أيضا أن أشكر حملة الجائزة قبلي والذين شرفوني هنا بحضورهم لهذا الحفل: كارل ديدسيوس وفريدريش شورلمر. فحين أراهما جلوسا أمامي أشعر بتأثر التلميذ الواقف أمام أستاذه. أتوجه أيضا بالشكر إلى ناشريّ، والذين هم في الآن نفسه أصدقاء لي، والمتواجدين في هذه القاعة، كأنطوان غاليمار، مدير دار غاليمار الفرنسية، وكاتارينا ماير مديرة دار ميرلان. وأحيي هنا مترجميّ الألمان الحاضرين معنا، ريغينا كايل سغافي، ريك فالتر وأولريش تسيغلر. من كان سيقرأني هنا لولاهم؟ إنني مدين لهم بقراء في ألمانيا أما الناشرون الآخرون فليعذروني لعدم ذكر إسمهم، إنني مدين لهم جميعا بالشيء الكثير. كما أني أتأسف لعدم تواجد السفير الجزائري في ألمانيا بيننا، لأنه عبر شخصي، يتم اليوم تكريم بلدي الجزائر وشعبه. إن هذا الكرسي الفارغ يقلقني، لأنه يظهر لي بأن وضعيتي في الجزائر لن تتحسن حتى وإن عدت إلى بلدي بجائزة للسلام. أما أبناء وطني فإني أحبذ أن أهدئ من روعهم وأقول لهم بأننا لسنا وحدنا وأن هناك في هذه القاعة نساء ورجال يؤمنون بنا ويدعموننا، ومن بينهم أيضا كتاب كبار، صوتهم سيصل يوما إليهم ويمنحهم مزيدا من الشجاعة التي ستسقط الطغاة. إنني أشكر هؤلاء النساء والرجال من أعماق قلبي.

الجائزة الأدبية كواجب ومسؤولية

والآن يمكنني الإنتقال إلى تلك الأشياء التي أريد قولها لكم، لأنها تملك أهمية قصوى بالنسبة لي. أولا أريد أن أعود إلى ذلك اليوم المشهود في مايو من هذا العام، يوم العاشر حتى أكون دقيقا لما تلقيت رسالة من ألمانيا من السيد غوتفريد هونوفلدر، والتي يخبرني فيها بخبر لم أكن لأتصور سماعه يوما وهو أنني سأحصل على جائزة السلام لاتحاد الناشرين الألمان في عام 2011 هذه الجائزة والتي حصل عليها ومنذ تأسيسها شخصيات كبيرة. ولكي أعترف لكم، لم أفهم في البداية شيئا. وأعتقدت أن الأمر لربما سوء فهم. فعبر سلسلة من الأخطاء تحولت إلى كاتب متواضع وناشط سياسي بين الحين والحين، إلى كاتب صغير كما تصفني الدوائر الرسمية في الجزائر، والآن أحصل على هذه الجائزة الكبيرة التي لم أحلم يوما بها. في ذلك اليوم شعرت بصدمة كبيرة دفعت بي إلى قلق وتساؤل وجودي استمر طيلة الصيف وحتى يومنا هذا. وإذا كنت فعلا الإنسان الذي منحت له هذه الجائزة فإن هذا الإنسان قد تغير. لكني لم أكن أعرف شيئا عن ذلك. وشعرت فجأة بالخوف من أن يجدني المرء فصاميا، أو شخصا يتظاهر بالتواضع أو يتحلى بطموح وقح، أو متردد بشكل تافه. أنا إنسان عادي ويمكنني فعلا وعن طيب خاطر أن أذهب في هذا الاتجاه أو ذاك بدون أن أشعر بذلك. لكنني لن أكون مع ذلك سوى أنا، إنسان عادي للغاية وبطبيعة محتشمة. لكن هل يظل الشخص نفسه من يحمل هذه الجائزة على عاتقه؟ إنها جائزتكم سيداتي سادتي الناشرون والمكتبيون الألمان، أنتم تعرفون قدرتها على تحويل بل إني أقول الارتقاء، لأن الأمر يحدث في اللحظة ذاتها التي أعلن فيها إسم الحاصل على الجائزة، كما لو أن الأمر يتعلق بفعل سحري  أولئك الذين يحصلون على الجائزة، أنتم تعرفون كيف يمكن للجائزة أن تخلب لبهم، تحولهم، أو تجعلهم يعون بأنهم تغيروا مع مرور الوقت وأن كتاباتهم تندرج في إطار آخر أوسع مما كانوا يعتقدون التحرك فيه ككتاب وفلاسفة ومسرحيين إلخ... إنها تظهر لهم بأن عملهم يهتم بقضية سامية وهي السلام وليس فقط إشباعا لرغبة نرجسية في الكتابة. لنكتشف أنفسنا في النهاية، لما يظهر لنا الناس ذلك. إنها ظاهرة مرتبطة بالنسبية. إننا نعيش بأنفسنا لكننا لا نوجد إلا عبر الآخرين، فمن نظرتهم المتسائلة يأتينا الوعي بوجودنا وبأهميتنا. وهنا حيث أنا خلف هذه المنصة، قبالتكم، أنا نفسي وشخص آخر لا أعرفه، الشخص الذي اخترتموه للحصول على جائزة السلام لعام 2011. إن الجائزة تصنع لا ريب القيمة كما تصنع الوظيفة العضو. كنت أخدم السلام دون أن أدرك ذلك والآن سأخدمه وأنا عارف بذلك، وهو ما سيحرك بداخلي ملكات أخرى، لا أعرف ما هي، لربما حسا بالاستراتيجية والحذر، وهو حس لا مناص منه في فن السلام و في فن الحرب. إن جائزة السلام هي مثل أصبع الرب أو كعصا سحرية، فهي تحولنا إلى جنود في معسكر السلام حين تلمس جبيننا. هل اتضح لكم الآن كم كنت قلقا أمام هذا الخبر. سعيد وفي الآن نفسه قلق. لكن ألا يعني ذلك قفزة كبرى إلى عالم آخر، عالم الشهرة الذي يتجاوزنا، حين يختفي الفرد أمام الصورة التي يملكها الرأي العام عنه، إلى عالم المسؤوليات الكبرى والتي تفرض عليكم أن تكون لكم طموحات كبرى. إن الحياة تمنحنا دائما جديدا، فكل يوم نتجاوز ما كنا عليه. وفي النهاية فقط سنعرف من كنا في البداية. مرة أخرى النسبية. صدقوني لقد سألت نفسي مرارا: جائزة سلام لي أنا؟ أنا الذي أعيش في الحرب منذ الأزل، والذي لا يتحدث إلا عن الحرب في كتبه، والذي لربما لا يؤمن سوى بالحرب لأنها دائما في طريقنا، وبعد كل ذلك فنحن لا نعيش إلا بها، فهي التي تجعلنا نحب الحياة، ونحلم بالسلام وتحثنا على أن نبحث عنه، ولكن للأسف فهذا تاريخ الجزائر، فعبر القرون لم يكن لنا أن نختار بين الحرب والسلام، ولكن فقط بين الحرب والحرب، وأي حروب، لقد فرضت علينا كلها، وأوشكت كل واحدة منها أن تقضي على آخر فرد فينا. حرب تحرير ضد الإستعمار والتي كانت طويلة ووحشية بين عام 1954 وعام 1962، والتي وكما نكتشفها عبر المجازر، كانت حربا ولادة. ففي حرب الإستقلال المليئة بالآمال النبيلة، كانت هناك حرب أخرى، حرب وحشية ومشينة بين الإخوة، كنا نحارب ضد القوى الإستعمارية وضد أنفسنا، جبهة التحرير الوطني ضد الحركة الوطنية الجزائرية، العرب ضد الأمازيغ، المتدينون ضد العلمانيين، لنعبد بذلك الطريق لأحقاد وانقسامات الغد، وكانت هناك أيضا حرب أخرى، حرب غادرة وغير شريفة بين زعماء الحركة الوطنية على السلطة، وهو ما لم يترك وفي وضوح أي فرصة لمستقبل الحرية والكرامة الذي رفع آباءنا السلاح من أجله. وجاء السلام أخيرا، بعد ثماني سنوات من الحرب، ولكن يا له من سلام، لم يستمر أكثر من يوم، الوقت اللازم لانقلاب عسكري، الأول في سلسلة من الانقلابات، فبعد الإستقلال مباشرة، بعد الخامس من يوليو 1962، سرقت الحرية التي كافح الشعب من أجلها بالدم، كما يسرق المال من الفقراء، في احتقار وفظاظة، لندخل بعدها في حرب خنادق، مظلمة وحزينة، وضعت الشعب أمام جيش غير مرئي، بوليس سياسي حاضر في كل مكان، تسانده بيروقراطية متغولة، ضدها لم نكن نستطيع شيئا، ولم يكن لنا سوى الصبر والحيلة من أجل الصمود والحياة. وهكذا لم يحقق التحرير الحرية ولا الحريات، بل لم يحمل معه سوى القيود، الروحية منها والمادية. لقد كان أمرا من الصعب هضمه. وبعدها ودون وقت للاستراحة ، ولو من أجل قياس الأضرار النفسية لهذا الإخضاع الطويل والقمعي، سقطنا سنة 1991 في أسوأ الحروب، الحرب الأهليةـ وحشية عمياء كما أرادتها الجماعات الإسلامية المسلحة و سلطة الجيش والشرطة، والتي خلفت مئات الآلاف من القتلى ــ والتي دمرت الشعب وقطعت أوصاله. لكن هذه الوحشية هي في مرحلة الجزر. فأبطال الحرب وقعوا معاهدة مجزية، لقد قسموا البلد والعائدات النفطية. هذه الاتفاقيات المافياوية ثم التستر عليها عبر قوانين رائعة، أسكتت حتى الرأي العام الغربي، لأن موضوعها كان الوئام المدني، المصالحة الوطنية، في اختصار السلام، السلام الكامل والأخوي والسعيد، لكنه سلام لم يكن في الواقع سوى خديعة حرب، تجازي المجرمين، وتجهز على الضحايا ومعهم الحقيقة والعدالة.  لقد أثبتوا أنهم استراتيجيون كبار، فقد نجحوا في التأثير على الديمقراطيات الغربية ما أنهى علينا، حينها أدركنا أنه لا يمكننا أن نعثر على الخير والحقيقة أيا كان. في البداية كان الإسلاميون الذين خدعوا الديمقراطيات عام 1991، لقد تحججوا بشرعية صناديق الاقتراع، لكنه كان اقتراعا مزيفا، وبعدها لما أظهروا وجههم الحقيقي في وضح النهار، الممتلئ حقدا وخداعا بدأ الجيش بخداع الديمقراطيات الغربية، والتي يبدو أنه من السهل إقناعها، أو أنها كانت تتصرف باسم الواقعية، وأظهر الجيش قدرته على حمايتها من الإرهاب الإسلامي ومن الهجرة غير الشرعية، واللذين كما هي الحال مع انتشار عمليات الترهيب ليسا سوى نتيجة للسياسة الكارثية التي تسود البلد. وفي ظل عملية تقسيم العمل الجديدة على مستوى العالم، أضحى التعسف في استعمال السلطة والتعذيب والقتل أمورا مقبولة ــ لقد تم اقتسام الأدوار. الجنوب كان مصدر الغزاة، الرعب بعينه والشمال هو الجنة المحاصرة والمهددة لكن قمة اللاعقل تمثلت في إعلاء ديكتاتورياتنا الخطيرة والجشعة إلى صف الحماة الشرفاء للسلام في العالم، أصحاب الفضل على البشرية كما هو بن لادن بالنسبة لما نسميه بالشارع العربي في الشرق وفي الأحياء الصعبة بالنسبة للغرب. أما بالنسبة للشعب الجزائري، الذي حطمته عشر سنوات من الإرهاب والكذب، نقدم له في شكل سلام ما هو أبعد ما يكون عن السلام: هدوء، أشبه بحساء مضجر يعد الناس للنسيان والموت التافه. كان لنا الخيار بين هذا الهدوء أو الحرب مرة أخرى، الحرب دائما. وتركنا أنفسنا نقتنع بذلك لأننا كنا متعبين ولم يكن أحد إلى جانبنا. لقد أخطانا أيضا عن جهل. فلم يخبرنا أحد يوما بأنه لا بد من توفر حد أدنى من الديمقراطية حتى يمكن للسلام أن يصبح بديلا مقنعا، كما أن هذا السلام يحتاج إلى عناصر أخرى حتى يتمكن الناس أن يعيشوا هذا السلام ويستفيدوا منه: نحتاج لقليل من الحكمة في رؤوس الأطفال، وقليل من الفضيلة في قلوب الكبار التي حولتها الآلام إلى قلوب قاسية وقليل من التحفظ لدى الأغنياء ومن التسامح لدى المؤمنين، ومن التواضع لدى المثقفين، ومن الأمانة قي مؤسسات الدولة ومن الرعاية من جانب المجتمع الدولي. وفي بلد لم يعرف سوى الديكتاتورية، ديكتاتورية السلاح والدين، فإن الفكرة الوحيدة التي يمكننا أن نملك عن السلام هي تلك المرتبطة بالخضوع أو الانتحار أو الهجرة بلا عودة. إن غياب الحرية ألم يبعث على الجنون. الفنان التشكيلي جيورجيو دي شيريكو كان يردد هذه الجملة الغريبة: في ظل إنسان يمشي في الشمس، يوجد من الألغاز ما لا يوجد في الأديان كلها، الماضية منها والحاضرة والمستقبلية. إنه أمر ممكن وهو بلا شك حقيقي، لكنه لا يوجد غير الخجل ولا شيء صوفيا في ألم الإنسان الذي يندحر إلى ظله. فمن لا يعيش الحرية لا يمكنه أن يحترم الآخر البتة، لا الآخر العبد، لأن قدره يذكره بذله ولا الآخر الحر، لأن سعادته يحسها كمسبة في حقه. ووحده البحث عن الحرية يمكنه إنقاذه من الحقد والغل. وبدون هذه الرغبة لن نكون بشرا ولن يكون هناك شيء حقيقي بداخلنا.

بلاد غنية وشعب فقير

هذا هو بلدي، سيداتي سادتي، بلد شقي وممزق. ولا أعرف من أراده هكذا، القدر، التاريخ، شعبه، سأقول بالأحرى زعماءه القادرون على ارتكاب أي حماقة. بلدي مجموعة من المتناقضات التي لا يمكن حلها، وهي قاتلة بالنسبة للجميع. إن الحياة في العبث متعبة، تجعلنا نتأرجح بين حائط وآخر مثل السكران. وبالنسبة للشباب الذين يتوجب عليهم أن يبحثوا عن مستقبل والذين يحتاجون إلى هدف واضح يستندون إليه، إنه أمر مأساوي وممزق للقلب حين تسمعهم يصرخون كالذئاب في عمق الليل. إن أول تناقض هو أن الجزائر بلد غني بالثروات وأن الجزائريين غارقون في الفقر. إنه أمر يبعث على الغضب الشديد أن تموت عطشا وسط بحيرة عميقة ومنعشة. ومن لم يضع بسبب التبذير، يضيع فيما لا ريب بسبب الفساد. أما التناقض الثاني فيتمثل في أن الجزائر تملك كل المؤسسات الديمقراطية، أحزاب سياسية من كل لون، وصحافة حرة ورئيس منتخب وفق القانون وكل أشكال المؤسسات التي تأخذ على عاتقها حماية القانون والشفافية والتوازن بين السلطان وخدمة الشعب، ولكن في الواقع اليومي فإننا نعيش أسوأ أنواع الاستبداد، الاستبداد الشرقي المعروف، والذي لم يستطع شيء أنسنته مع مر القرون. التناقض الثالث، وهو بالنسبة لي الأكثر خطورة لأنه يتسبب في مشاكل نفسية لا علاج لها: تملك الجزائر تاريخا عظيما وغنيا، إنه بلد عاشر كل الحضارات، وأحبها كلها كما كافحها بكرامة، الحضارة اليونانية والفينيقية والرومانية والوندالية والبيزنطية والعربية والعثمانية والإسبانية والفرنسية. لكن عند الاستقلال ولما حان وقت توحيد هذه الشعوب، ومنهم الواصلون الجديد، الأوروبيون، وتحريك عبقريتها من أجل المضي قدما، مسحت الديكتاتورية كل شيء من ذاكرتها وبجرة قلم، في إنكار غير مفهوم للذات، أنكرت هويتها الأمازيغية والأمازيغية اليهودية القديمة، وكل ما أضحى جزءا منها خلال تاريخها الطويل، وأغلقت على نفسها في فترة تاريخية ضيقة معتمدة في ذلك على الأسطورة أكثر منها على الواقع. لكن لماذا حدث ذلك؟ إنه منطق النظام الشمولي، فالحزب الوحيد يريد دينه وتاريخه ولغته وأبطاله وأساطيره الخاصة به، وقد صنع ذلك في دوائره الخاصة وفرضها بفرمان. البروبغندا والتهديد فعلوا ما هو ضروري، حتى تسود هذه المخلوقات الميتة، وأعني أن يوافق الناس على كل شيء بسبب الخوف. إن النضال من أجل الإعتراف بهويتنا كان طويلا ومؤلما، مئات النشطاء قضوا جراء القمع، وخصوصا في منطقة القبائل التي ظلت دائما ترفض الخضوع. لقد حطم التعذيب والسجن آلاف الناس، واضطرت جماعات بأكملها لمغادرة البلد. ووفاء لمنطقهم امتد القمع ليشمل الفرانكفونيين أيضا، اليهود، العلمانيين، المثقفين، المثليين، النساء المتحررات، الفنانين، الأجانب، باختصار كل أولئك الذين بوجودهم فقط يمكنهم تهديد الهوية المبتغاة. إن تعدد الظاهرة الإنسانية تحول بذلك إلى حالة من الإهانة للهوية. إن الكفاح لم ينته بعد، والأصعب مازال أمامنا، أعني أن نتحرر نهائيا ونعيد فهم ذاتنا، في ظل دولة ديمقراطية ومنفتحة ومضيافة، يجد كل منا مكانه فيها، دون أن يفرض عليه شيء. إنكم تعرفون ذلك كله سيداتي سادتي، كما تعرفون أيضا بأنه وبفعل هذا العنف، هذا القمع اللانهائي، هذا التدخل المرعب في حياتنا الشخصية، انفجرت هذه الثورات في بلداننا. إنها أحداث ترافقها مصائب كثيرة، لكننا نتقبلها عن طيب خاطر، لأنه في نهاية المطاف، تنتظرنا الحرية. ولأني كتبت هذه الأشياء، منع تداول كتبي في الجزائر. إنه العبث الذي تعتاش عليه الديكتاتوريات: كتبي محظورة لكني أنا الذي أكتبها، أعيش في هذا البلد وأتمتع بحرية الحركة حتى الآن. ولا أرى ما إذا كان هناك سيفا معلقا فوق رأسي. أما أن توزع كتبي في البلاد رغم الحظر الرسمي، فهو أمر أدين به لبعض المكتبيين الشجعان. في رسالة إلى أبناء شعبي، صدرت سنة 2006 بعنوان: Poste restante à Alger.

كتبت الآتي: « لو لم يكن خوفي من أن أدفع بهم لاقتراف الأسوأ وأعني غير المتسامحين لقلت لهم بأني لم أكتب كجزائري، مسلم ووطني، حذر وفخور بذاتي. كنت سأعرف كيف أتكلم وماذا سأقول، ولكني كتبت ككائن إنساني، ابن الحقل والعزلة، زائغ ومعدم، لا يعرف ما الحقيقة، وفي أي بلد تسكن، من يملكها ومن يوزعها. أبحث عنها وفي واقع الأمر لا أبحث عن شيء، لا أملك الوسائل، أحكي قصصا، قصصا بسيطة عن ناس طيبين وضعهم الضعف في طريق قطاع طرق بأياد سبعة، يعتقدون أنهم سُرة العالم، على شكل هؤلاء الذي يقبعون فوق رؤوسنا، يبتسمون في سخاء وقد استولوا على حيواتنا وأملاكنا والذين يطالبوننا علاوة على ذلك بأن نحبهم ونعترف بهم. أريد أن أقول لهم بأن الديكتاتورية البوليسية والبيروقراطية والمتزمتة التي يدعمون بأفعالهم لا تقلقني مثل الحصار المضروب على الفكر. نعم للسجن لكن على الرأس أن تكون حرة في التجول، إن هذا ما أسطره في كتبي وليس في الأمر شيء صادم أو تخريبي».

في «الإنسان الثائر» يقول كامو: أن تكتب هو في حد ذاته خيار. وهو ما فعلته أيضا، اخترت طريق الكتابة. وكنت محقا، فها هي الديكتاتوريات تسقط من حولي كالذباب.

الثورة والقضية الفلسطينية

أريد، لو سمحتم، إنهاء كلمتي ببعض الأفكار التي لها علاقة بالانتفاضات العربية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إننا نشعر بأن الأمور بدأت تتغير منذ ثورة الياسمين في تونس، لقد بدأ الجو يتغير في العالم بأكمله. والأمر الذي كان يبدو مستحيلا في هذا العالم العربي الهرم والمتكلس، والمعقد والأسود أضحى حقيقة وبدأ الناس يكافحون من أجل الحرية والديمقراطية. يفتحون النوافذ والأبواب ويحدقون بالمستقبل، يريدونه سعيدا وإنسانيا بكل بساطة. ما يحدث في رأيي ليس فقط مطاردة للديكتاتوريين العجزة، البلداء والصم. كما أنه لا ينحصر في البلدان العربية فقط. إنه تغيير عالمي بدأ بالتحقق، ثورة كوبرنيكية. نريد ديمقراطية حقيقية، كونية بدون حدود ولا طابوهات. إن وعي العالم لم يعد يحتمل كل ما يفقر ويحد ويشوه الحياة. يجبه بكل قوة. يرفض الديكتاتوريين والمتطرفين وسلطة السوق والقبضة الخانقة للدين، ووقاحة وجبن السياسة الواقعية، يرفض القدر نفسه حتى وإن احتفظ بالكلمة الأخيرة، يرفض الملوثين، وفي كل مكان يحتج الناس ضد ما يسيء إلى الإنسان والأرض. إنه وعي جديد ينبلج. إنه منعطف في تاريخ الأمم، كما سميتم بأنفسكم لحظة سقوط الجدار. وفي هذه اللحظة المتمردة، ازداد عدد من يرفضون استمرار أقدم صراع في العالم، الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني وأن يلقي بظلاله أيضا على أبنائنا وأحفادنا. لقد نفذ حتى صبرنا ولا نريد لهذين الشعبين العريقين في تاريخ البشرية أن يظلوا ليوم وحيد رهائن ديكتاتورييهم الصغار، وللمتطرفين ومدمني الحنين، مستفزيهم ومبتزيهم. نريدهم أحرارا، سعداء ومتآخين. وقناعتنا أن هذا الربيع الذي انطلق من تونس سيصل إلى تل أبيب وغزة ورام الله، بل إلى الصين وما بعدها. إن هذه الريح تهب في كل اتجاه .. وقريبا ستجمع الإسرائيليين والفلسطينين في الغضب نفسه، وسيتحقق «منعطف» الشرق الأوسط، وستسقط الجدران في قرقعة جميلة ولطيفة. لكن المعجزة لا تكمن في إمكانية أن يوقع الإسرائيليون والفلسطينيون على اتفاقية سلام، فبإمكانهم ذلك في ظرف خمس دقائق، ومرارا كانوا قاب قوسين أو أدني من فعل ذلك. إن المعجزة تكمن في توقف من فرضوا أنفسهم أوصياء ومستشارين لهذين الشعبين، كأنبياء متصلبين، من فرض حماقاتهم عليهم. لقد انتهى عصر الحروب المقدسة، الحروب الصليبية المتكررة، العهود الخالدة، وجيواستراتيجية الأصول منذ زمن. فالإسرائيليون والفلسطينيون يعيشون في الآن هنا، وليس في ماض أسطوري، يتوجب أن يعود إلى الحياة عبرهما. طبعا إن الطلب الذي تقدمه به الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى الأمم المتحدة من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود عام 1967 لم يكلل بالنجاح، لكن في رأيي ورغم الفشل، فإنها كانت خطوة كبيرة، وحاسمة، شأنها في ذلك شأن إقدام الشاب التونسي البوعزيزي على إحراق نفسه وما تبع ذلك من نتائج على العالم العربي. فلأول مرة منذ ستين عاما لم يخضغ الفلسطينيون لغير أنفسهم. لقد حضروا إلى نيويورك لأنهم أرادوا ذلك، ولم يطلبوا الموافقة من أحد، لا من الديكاتاتوريين العرب الذين نحن بصدد دفنهم واحدا بعد الآخر ولا من الجامعة العربية التي توقفت عن الرنين كطبل حرب، ولا من مقت كبير وغريب خارج لتوه من الغرفة الخلفية للإسلاميين .. إنه أمر رائع، فلأول مرة يتصرف الفلسطينيون كفلسطينيين في خدمة فلسطين وليس كأدوات في خدمة أمة عربية أسطورية باسم الجهاد العالمي الذي أصبح للأسف أمرا واقعا. ووحدهم الناس الأحرار قادرون على تحقيق السلام. وعباس حضر إلى الأمم المتحدة كرجل حر، ولربما سيدفع حياته ثمنا لذلك كأنور السادات، فأعداء السلام والحرية كثيرون في المنطقة والذين هم في وضع حرج اليوم. ومن المؤسف أن أوباما، والذي يمثل صلة وصل رائعة بين نصفي الكرة الأرضية لم يفهم ذلك ولم يغتنم الفرصة التي كان يبحث عنها منذ خطابه الشهير في القاهرة.

إن إسرائيل بلد حر، ولا أحد يشك في ذلك، إنها ديمقراطية جميلة وكبيرة ومدهشة، ولكنها أكثر من أي بلد آخر تحتاج إلى السلام، فحالة الحرب والاستنفار الدائمة التي تعيش فيها منذ ستين عاما لا يمكن تحملها، ويتوجب عليها أيضا أن تقطع  صلتها مع المتطرفين وكل اللوبيات، والذين من على بعد يدفعونها إلى العناد، عناد هو بالطبع غير مجد، ويغلقون عليها في معادلات لا حلول لها. في رأيي، يتوجب علينا جميعا الخروج من فكرة أن السلام يمكن التفاوض عليه، إنه يمكن التفاوض على كيفية الوصول إليه، أشكاله ومراحله، لكن السلام مبدأ، يجب الالتزام به أمام الرأي العام، بشكل احتفالي. نقول السلام ونشد على الأيدي. إن هذا ما فعله عباس في توجهه إلى الأمم المتحدة، وهو ما فعله السادات لما توجه إلى تل أبيب. فهل هو حلم أن نأمل بأن يحضر نتنياهو إلى الأمم المتحدة أو رام الله من أجل التعبير عن رغبته في السلام؟ أشكركم على صبركم.

 

بوعلام صنصال

كاتب جزائري ولد عام 9491 يعتبر من أشهر الكتاب الفرانكفونيين الجزائريين، ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات



ترجمة عن الفرنسية: رشيد بوطيب

حقوق النشر: معهد جوته فكر وفن

حزيران/يونيو 2012