من "ليلة" صوفية إلى مهرجان موسيقي

كان صدى "القراقب" الكناوية يُسمع من بعيد، وأعلام متعددة الألوان ترفرف عند بوابة المدينة، وامتلأت الشوارع الضيقة بمدينة الصويرة الساحلية بفرق كناوة الراقصة، حيث ترتدي كل فرقة جلابية مميزة طويلة حتى الكاحل. بينما يشتركون جميعًا في ارتداء قبعات صوفية ذات شرّابات يلوّحون بها في الهواء أثناء الرقص.
في يونيو/حزيران المنقضي، استضافت المدينة المحاطة بأسوار حصينة على الساحل الأطلسي المغربي، النسخة السادسة والعشرين من "مهرجان كناوة وموسيقى العالم"، الذي يُعتبر موطنًا لموسيقى الكناوة – ممارسة صوفية موسيقية لها جذور في جماعة كناوة، التي تحوّلت اليوم إلى مهرجان موسيقي عالمي.
"الكناوة دائمًا ما تكون تجربة روحية"، يقول حسام كانيا، الذي افتتح المهرجان بعزفه على "الكَمبري"، آلة وترية تقليدية تصنع من الحطب، وهو يرتدي جلابية زرقاء سماوية، ويرافقه موسيقيون يعزفون على القراقب – صاجات معدنية تصدر إيقاعات متسارعة، يقابلها صدى آلة الكَمبري المنخفض والهادئ.

التقاء التقاليد بالروحانية
يُعد حسام كانيا، هو "مُعلم" كناوي – ليس فقط موسيقيًا، بل شخصية روحية أيضًا تنحدر من عائلة كناوية عريقة تمارس هذا الفن منذ أجيال، يقول: "لم أختر الكناوة، الكناوة هي من اختارتني"، موضحًا أن نشأته في بيت كناوي جعلت من هذا الطريق حتميًا.
ليس بالضرورة أن تنتمي لعائلة كناوية تقليدي لكي تُصبح معلمًا (أي قائد فرقة)، بل بإمكان أي شخص تعلم عزف الكَمبري وتشكيل فرقة كناوية، وقد أصبحت المغربيتان أسماء حمزاوي وهند النعيرة أول امرأتين تحملان لقب "معلّمة" في هذا الفن.
تقول مها مروان، الباحثة في جامعة ولاية بنسلفانيا التي تركز على تقاطعات العرق والجنس والدين في أفريقيا والشتات، إن اتساع جمهور الكناوة جاء بفضل المهرجان الذي أطلقته سيدة الأعمال المغربية نائلة التازي في حقبة التسعينيات.
وتوضح أنه قبل أن يمهد المهرجان الطريق لموسيقى كناوة في الثقافة الشعبية، كانت الكناوة مجموعة مهمّشة جاءت في الأصل إلى المغرب من غرب أفريقيا عن طريق تجارة الرقيق، ومنذ إلغاء الرق في المغرب في عام 1920، كانوا يكسبون رزقهم من الاحتفالات والاستعراضات.

إرث ذوي البشرة السوداء المر في تونس
في منطقة مدنين جنوب شرقي تونس مثَّلَ الغناء والموسيقى وسيلة للمهمشين اجتماعياً يرتقي بها التوانسة السود في مرحلة ما بعد التحرر من العبودية. لكن الجيل الشاب لم يعد يرضى بذلك. تحليل مارتا سكاليوني.
خطف المهرجان أنظار الغرب إلى موسيقى الكناوة، ودفع أيضًا المجتمع المغربي إلى إعادة النظر لهذا التراث، مضيفة: "كل ما يُعجب به الغرب سواء في أوروبا والولايات المتحدة، يصبح رائجًا في المغرب".
كناوة كمرآة للتغيير الاجتماعي
يقول حسام كانيا في مقابلة مع قنطرة: "الكناوي شيء خاص جدًا بالنسبة لي، إنه شيء ينبع من أعماقي". يشرح كانيا، الذي يرتدي حذاءً رياضيًا وملابس يومية، بشغف جوهر كناوة، "يقدّر الكثير من المغاربة موسيقى كناوة، ولكن هناك أيضًا من يعتبرونها سحرًا ويرفضونها".
تمارس طقوس الكناوية، التي تحمل الاسم الصوفي "الليلة"، ليلاً لعدة ساعات، وتهدف إلى طرد المس والطاقة السلبية من خلال الغناء والرقص حتى الوصول إلى حالة من النشوة، وتُقَاد من قبل المعلم بمساعدة نساء يُعرفن بـ"المقدّمات".

موسيقى روك مغربية فرانكفونية تُراقِص رمل الصحراء
فرقة "باب لبلوز" المغربية الفرانكفونية تغني نمط أغاني البلوز الأفريقية برشاقة، أطلقت على أول ألبوم لها اسم "نايضة"، وهو نفس اسم حركة موسيقية في المغرب ناشئة، ويعني في الدارجة المغربية "الحفلة" وكذلك يرمز إلى "الصحوة الفكرية"، كما تقول المغنية الرئيسية في هذه الفرقة. الصحفي الألماني المتخصص بالموسيقى شتيفان فرانتسِن يستعرض لموقع قنطرة هذه التشكيلة الموسيقية الفريدة.
تكشف الموسيقى والممارسات الروحية والأغاني أن موسيقى كناوة هي نتاج تلاقي ثقافات مختلفة: فالغناء في الغالب بالدارجة المغربية، مع بعض الكلمات من لغات غرب أفريقيا مثل الهوسا، كما أن الطقوس الروحية هي أيضًا مزيج من ديانات غرب إفريقيا، وفيها عناصر من الديانة اليهودية وتُعرف بأنها ممارسة صوفية.
تقول مها مروان: "هذا التفسير اللا ديني للإسلام يؤكد تحامل الكثير من المغاربة على من يُعرّفون بالسود في المغرب بأنهم كفار"، إذ لا يزال هناك اعتقاد سائد في أجزاء كبيرة من المجتمع المغربي بأن الأشخاص القادمين من بلدان جنوب الصحراء هم كفار، أي غير مسلمين، وهو تبرير استخدمته المملكة المغربية لاستعباد هؤلاء الناس لعدة قرون، وهذا لا يزال من المحرمات في التاريخ المغربي إلى اليوم.
سر طقوس الليلة
للتعرف على سر طقوس "الليلة" المثيرة، يقودك الطريق عبر أزقة الصويرة الضيقة التي ينعش هواءها الرطب ليالي يونيو/حزيران الحارة إلى الزاوية، موقع طقوس كناوة الروحية.
يجلس المعلم، مع فرقته على سجادة حمراء في باحة الزاوية، ويحيط بهم ضيوف الزاوية مع الإيقاع وأعينهم مغلقة، ويتردد صدى غناء الفرقة في أركان الزاوية، فيما تحلق طيور النورس فوق رؤوسهم.
لكن إخراج الكناوة من إطارها الروحي إلى المجال الموسيقى العام لا تزال موضع تساؤل بين المعلمين. فقد عارض العديد من المعلمين القدامى، تنظيم المهرجان في الصويرة، وعلى أعمدة جدران إحدى محلات الحلوى بالصويرة، بدا ملصق بالأبيض والأسود لأحد هؤلاء المعلمين كأنه نصب تذكاري: المعلم عبد السلام البلغيتي، الذي توفى في عام 2010. يصف الملصق حياته وعمله في طريقة كناوة، ويذكّر بجهوده في الحفاظ على الطقوس الكناوية "النقية"، ويدعو بأنه ينبغي على المعلمين الحفاظ على الطقوس المتبعة التي تختلف في كل فرقة.
لكن مريم مطيراوي، الصحافية التونسية التي تبحث في فن "الستنبلي" – وهو النظير التونسي للكناوة – رأت أن الانفتاح على المجال الموسيقى العام أنقذ موسيقى الكناوة بالمغرب، "في تونس، لم يحدث هذا الانفتاح. لدينا فقط معلمان لم يورثا علمهما بعد، وقد يندثر هذا الفن قريبًا".
انفتاح على الاندماج
وبغض النظر عن مدى انفتاح موسيقى كناوة على جمهور أوسع، الذي ليس بالضرورة جمهورًا متدينًا، فإن إتاحة الفرصة للنساء والأشخاص من خارج الطرق الصوفية أن يصبحوا معلمين/ات لموسيقى الكناوة يساهم في الحفاظ عليها. علاوة على ذلك، يشجّع المهرجان أيضًا على مشاريع دمج الكناوة مع ألوان موسيقية أخرى، مثل المعلم حسام كانيا مع الطبال الأمريكي الشهير ماركوس غيلمور.
بعد ساعة من حفله في إحدى ليالي المهرجان، يعود كانيا إلى المسرح مع غيلمور وفرقته الموسيقية. وبصفته المضيف، يضبط كانيا الإيقاع مع غيلمور ويتفاعل مرارًا وتكرارًا مع عازفي الجاز، المأخوذين بدورهم من سحر صوت القرقابو.
يقول كانيا إن التعاون مع غيلمور كان سلسًا، مضيفًا: "في نهاية المطاف، كلا النمطين الموسيقيين لهما جذورهما هنا في أفريقيا"، ويشير إلى أنه يشعر بالفخر بالأصول الأفريقية للكناوة – وهو فخر لا يتقاسمه كل المغاربة.
تقول الباحثة مها مروان: "لا يزال إحساس التفوّق على بلدان جنوب الصحراء موجودًا في المغرب. الكناويون هم من الفئات القليلة التي تعلن بفخر: نحن أفارقة". إذ تعود هذه النظرة إلى التمييز الذي وضعته فرنسا القوة الاستعمارية السابقة بين شمال أفريقيا "شبه البيضاء" وأفريقيا "السوداء".
بينما يهب نسيم البحر المنعش على الحشد الراقص، سرّعت قراقب كانيا من إيقاعها، وانطلق غيلمور بعزف مرتجل على الطبول في لحظة حماسية. قبل أن يختتم كانيا المشهد بضرب أوتار الكَمبري لآخر مرة، ليسود الصمت والتصفيق المدوي.
هذا النص ترجمة محررة من النص الأصلي بالألمانية.
قنطرة ©