شاركوا "دون علمهم" بانقلاب فاشل على ملك المغرب

"سلبونا عافيتنا، وشبابنا، وأوهامنا البريئة". بعد طول انتظار صدرت عام 2020 مذكرات عزيز بنبين باللغة الإنكليزية رغم مرور نحو 30 عاما على خروج السجناء من زنازينهم الخرسانية. سجن "تازمامرت" يبقى رمزا للسجون العسكرية السِّرِّية ولرعب "سنوات الرصاص" في المغرب. مارسيا لينكس كويلي قرأت الكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: مارسيا لينكس كويلي

رغم أن مُذَكِّرات عزيز بِنِبِين ليست هي الأولى من نوعها أو الأكثر فَصاحَةً من الشَّهادات التي خَرَجَت من سِجن المغرب سَيِّئ الصِّيت "تازمامَرت"، إلَّا أنها تحتلّ مكانًا هامًّا في حَيِّز الأَدَب والتَّاريخ. بالنِّسبَة للمَشهَد الأَدَبِيّ، يأخُذ الكتاب أهميَّته من رواية الطَّاهَر بِن جِلُّون الحائزة على عدَّة جَوائِز وقَوائِم المَبِيعات الأعلى، "تِلكَ العَتمَة الباهِرَة"، والتي استَنَدَت بشكل كبير على مُقابَلة أجراها بِن جِلُّون مع عزيز بِنِبِين، رغم أن الأخير اِستَهجَن فيما بعد ما آلَت إليه المُقابَلة عبر رسالة مفتوحة. فهذه، إذًا، هي فرصة بِنِبِين ليَقُصّ علينا حكايته.

يَعُود موقف بِنِبِين المُلتَبِس هذا إلى أن أغلبيَّة شَهادات سِجن "تازمامَرت" في رواية بِن جِلُّون جاءت من السُّجَناء القابِعين في البناية رقم "1"، بينما كان بِنِبِين من مُعتَقَلي البناية رقم "2" الأشَدّ بطشًا.

الاِنقِلاب الأَوَّل

تبدأ حكاية مُذَكِّرات "تازمامَوت" لعزيز بِنِبِين بعامَين قبل دخوله ورفاقه السِّجن لأَوَّل مَرَّة، وبالتَّحديد، في التَّاسِع من يوليو 1971. كان ذلك حين تَلَقَّى بِنِبِين وزملاؤه في مَدرَسَة "أَهِرمُومُو" التَّدريبِيَّة أوامِر بالاِستِعداد لإجراء مُناوَرات بالذَّخيرة الحَيَّة في اليوم التَّالي.

وفي العاشِر من يوليو / تموز، ظَنَّ بعض الضباط أنهم كانوا يُساقُون إلى قاعِدَة التَّدريب العسكريَّة في "بِنسلِيمان"، بينما اعتقد البعض الآخَر أنهم كانوا مُتَوجِّهِين إلى قصر المَلِك الحَسَن الثَّانِي، ذلك بعد أن تَمّ إعلامهم بأنَّ "المَلِك كان في خَطَر."، إلَّا أنَّ الجميع كان مُتَّفِقًا على نقطة واحدة وهي: أنَّهُم لم يكونوا على عِلم بأنَّهُم سيُشارِكون حينها في عمليَّة اِنقِلاب على حُكم المَلِك.

غِلاف التَّرجمة الإنجليزيَّة لكتاب عزيز بِنِبِين "تازمامَوت: ثمانية عشر عامًا في سِجن المغرب الخَفِيّ"، ترجمة لُولُو نُورمان (دار "هاوس" للنشر) (published by Haus)
فُرصَة الكاتِب ليَقُصّ علينا حكايته: رغم أنَّ مُذَكِّرات عزيز بِنِبِين ليست هي الأولى من نوعها أو الأكثر فَصاحَةً من تِلك الشَّهادات التي خَرَجَت من سِجن "تازمامَرت"، إلَّا أنَّها تَحتَلّ مكانًا هامًّا في حَيِّز الأَدَب والتَّاريخ. في المَشهَد الأَدَبِيّ على وجه التَّحديد، يَستَمِدّ الكتاب أهميَّته من رواية الطَّاهَر بِن جِلُّون الحائِزَة على عِدَّة جَوائِز وقَوائِم المَبِيعات الأَعلَى، "تِلكَ العَتمَة الباهِرَة"، والتي استَنَدَت بشكل كبير على مُقابَلة أجراها بِن جِلُّون مع عزيز بِنِبِين، رغم أنَّ الأخير استَهجَن فيما بعد ما آلَت إليه المُقابَلة عَبر رسالة مفتوحة.

لا تُخبِرنا قِصَّة بِنِبِين الكثير مما لا نعرفه عن ذلك الاِنقِلاب الشَّهير. فقد بدأ إطلاق النَّار قبل أن يَترُك بِنِبِين وزملاؤه من طُلَّاب العسكريَّة مَركَباتهم. ويُخبرنا بأنَّه كان يتنقل بين أرجاء القصر على نحوٍ "بائِسٍ ودُون وُجهَة"، وعندما يُدرِك بِنِبِين بأنَّه قد قام بالفِعل بالمُشارَكة في اِنقِلاب فاشِل، نراه يركض تجاه موقف سيَّارات القصر، ليَجِد سيَّارة مدنيَّة من طِراز "فِيات 600"، ومفاتيحها فوق لوحة القيادة. يذهب في بادِئ الأمر بالسَّيَّارة إلى بيت أحد أعمامه، ثم يقوم في نهاية الأمر بتسليم نفسه للسُّلطات.

هنا، كما في أي مكان آخَر في هذه السِّيرَة الذَّاتِيَّة، نجد أنَّ رواية بِنِبِين أقلّ تعبيريَّة عن تِلك التي خَطَّها الطَّاهَر بِن جِلُّون. في "تِلكَ العَتمَة الباهِرَة" لبِن جِلُّون، يستذكر بطل الحكاية محاولة الاِنقِلاب عَبر عَدَسة واضِحة الألوان: "مَن مِنَّا مازال يَذكُر جُدران قصر "الصخِيرات" البِيض؟ مَن يَذكُر الدَّمَ على أغطِيَة المَوائِد، والدَّمَ على عُشب الحديقة الأخضَر الفاقِع؟".

رغم أنَّ رواية الطَّاهَر بِن جِلُّون هي الأكثر شاعريَّة، إلَّا أنَّها تمتلك صيغة زائِفة، خاصَّة حين يُقارِنها القارئ بسِيرة بِنِبِين الواقِعِيَّة.

أُحِيل بِنِبِين إلى القَضَاء عَبر مُحاكَمة تَعَسُّفِيَّة، كانت نتيجتها إرساله إلى السِّجن المَركَزيّ بالقنيطرة في بادئ الأمر. لكن بَعد مُحاوَلة الاِنقِلاب الثَّانية الشَّهيرة في عام 1972، يُخبِرنا بِنِبِين بأنَّ الشَّائِعات قَد بَدَأَت تَنتَشِر حَول تَشييد سِجن خَفِيّ في قلب الصَّحراء المغربيَّة.

في شهر أغسطس من عام 1973، يُخبِرنا بِنِبِين التَّالي: "غَشي سِربٌ من رجال الشُّرطَة والدَّرَك البناية، وفَتَحُوا الزَّنازن واحدة فواحدة، وعَصَبُوا أعيُنَنا وقَيَّدونا وحَمَّلونا في شاحِنات كانت متوقِّفَة في فِناء السِّجن." ثُمّ يُضيف: "لم يَسبِق لي أن رأيت انتِشارًا لمِثل تِلكَ القُوَّة، حَتَّى أثناء أحداث النصيرات".

تَمَّت حينها عمليَّة نَقل الثَّمانية والخمسين سَجينًا الذين شارَكوا بطريقة أو بأخرى في الاِنقِلاب إلى قاعِدَة جَويَّة، ثم أَنزَلَتهُم طائرات عسكريَّة في مكان غير معروف، وحَمَلَتهُم بعد ذلك شاحِنات عسكريَّة نحو المجهول. ولِسِنِين تالية، لم يَعرِف أحد من أصدقائهم أوعائلاتهم أيّ شيء عن مكان سجنهم.

جِدارٌ من الصَّمت

أمَّا والِد عزيز بِنِبِين -الذي كان جَليسًا للحَسَن الثَّانِي- فلقد تبرَّأَ من اِبنه علنًا بعد الاِنقِلاب بفترة وجيزة. رغم ذلك، وبدءًا من خريف عام 1973، عَمِلَت عائلات الكثير من السُّجَناء دُون كَلَل أو مَلَل للبحث عن فَلَذَات أكبادهم: وعلى الأخَصّ، الأُمَّهات والزَّوجات والبنات. وفيما بَدَأَت المعلومات تتسَرَّب عن السِّجن وعن مكانه، بَدَأَ النَّاشِطون بالاِحتِجاج جِهارًا، إلَّا أنَّ السُّلطات المغربيَّة كانت مُصِرَّة دَومًا على إنكارها الاِتِّهامات المُوَجَّهَة إليها.

 

 

واستَمَرّ الحال كما هو حتَّى عام 1990 الذي شَهِدَ صُدُور كتاب "صَديقُنا المَلِك" للكاتِب والصَّحَفِيّ الفرنسيّ "جِيل پيرُو"، والذي أَحدَثَ بِدَوره صَدعًا كبيرًا في جِدار الصَّمت حول سِجن "تازمامَرت". وتبعًا لذلك، تَجَدَّدَت الضُّغوط الشَّعبيَّة والدَّوليَّة. وأخيرًا، في سبتمبر من عام 1991، تَمّ إطلاق سَراح عزيز بِنِبِين والسَّبعة العشرين الآخَرين من مُتَّهَمي الاِنقِلاب، "كُنَّا وُقوفًا في زنازننا، كما في أَوَّل يوم... يوم كُنَّا نَنعُم بالعافِيَة والشَّباب ونَحمِل أوهامًا أقَلّ".

بَعد إطلاق سَراحهم، عُرِض السُّجَناء أمام وسائل الإعلام لِلَحظَة خاطِفَة؛ والتُقِطَت لهم بعض الصُّوَر الفوتوغرافيَّة، كما تَمّ سرد قصصهم من قِبَل آخَرين. ولكن، حتَّى تاريخ وفاة المَلِك الحَسَن الثَّانِي (1929-1999)، التَزَم السُّجَناء الصَّمت أغلب الأوقات. فعَلَى سبيل المِثال، قام السَّجِين السَّابِق في سِجن "تازمامَرت" أحمد المرزوقي وبمُساعَدَة من الصَّحَفِيّ الفرنسيّ "إِيجناس دالّ" بتأليف كتاب "تازمامَرت... الزنزانة رقم 10"، رغم أن هذا قد تَمّ بَعد إطلاق سَراحِه ببضع سنوات. ثُمّ صَدَر فَصل من فُصُول الكتاب مطبوعًا لأَوَّل مَرَّة عام 1993، إلَّا أنَّ الباحِثة والأكاديميَّة "جُوهانا سِلّمان" تُخبِرنا بأنَّ المرزوقي ومُساعِده قَد قرَّرَا تأجيل إصدار الكتاب إلى حين "حُدُوث تغيير جَذريّ في الجَوّ السِّياسيّ".

في يوليو / تموز عام 1999، وافَت المَنِيَّة الحَسَن الثَّانِي، مُعلِنَة بذلك انتِهاء الحِقبَة القَمعِيَّة المعروفة بـِِ "سَنَوات الرَّصاص" في المغرب. وفي الفترة ما بين 1999-2000، نَشَرَ السَّجِين السَّابِق محمد الرَّايِس حكاية تجاربه في سِجن "تازمامَرت"، والتي نُشِرَت مُسَلسَلَة في إحدى الصُّحُف العَرَبِيَّة. بَعد ذلك، تَدَفَّقَت سُيُولٌ عارِمَة من المَروِيَّات، بما فيها رواية الطَّاهَر بِن جِلُّون. إذ نُشِرَت الأخيرة عام 2001، والتي كانت مَبنِيَّة بشكل واضح على مُقابَلة أجراها بِن جِلُّون مع عزيز بِنِبِين، رغم أنَّ بِنِبِين لم يكُن على عِلم بأن محادثته ستُنشَر على هيئة أحداث تَخَيُّلِيَّة.

اِبن "جَليس المَلِك" أو "مُؤنِس الملك" أو "مُهَرِّج المَلِك"

في حكايته، يُحَدِّثُنا بِنِبِين كثيرًا عن سُجَناء آخَرين داخل البناية رقم (2) المُرعِبة من سِجن "تازمامَرت"، إلَّا أنَّه في نفس الوقت لا يُخبِرنا الكثير عن حالته النَّفسِيَّة هو.

 

 

رغم أنَّ بِنِبِين ينحدر من عائلة معروفة، إلَّا أنَّنا لا نَجِد الكثير بين طيَّات الكتاب عن والِدِه، الذي يتم وصفه مِرارًا بـ "جَليس المَلِك" أو "مُؤنِس الملك" أو "مُهَرِّج المَلِك". أمَّا بالنِّسبَة لشَقِيق بِنِبِين، الفَنَّان والكاتِب ماحِي بِنِبِين، فلقد رَسَمَ لنا صورة خياليَّة عن والدهما في كتاب "مُهَرِّج المَلِك". ورغم أنَّ عزيز بِنِبِين يُخبِرنا القليل عن والِدِه، إلَّا أنَّه من الجَلِيّ أنَّه يَحمِل جُرحًا أليمًا [جرَّاء تَخَلِّي والِدِه عَنه].

واحِدَة من الحَيثِيَّات الأَكثَر رُعبًا في حكاية بِنِبِين هي الأَذِيَّة النَّفسِيَّة التي كان السُّجَناء يلحقونها بعضهم ببعض.

قُرب نهاية المُذَكِّرات، يَدخُل بِنِبِين في مشاجرة كلامية حادة مع سَجِين آخَر، وهو القُبطان عبد الحميد بِندُورُو. خلال المشاجرة، يقول بِنِبِين لبِندُورُو بأنَّه "أبٌ لاِبنٍ لقيط"، بينما يقوم بِندُورُو دُون هَوَادَة بتذكير بِنِبِين بخيانة والِده له. كانت هذه المُشاجَرَة – التي نَسمع صيحاتها كذلك في رواية بِن جِلُّون – عنيفةً بطبيعتها، ليَستَسلِم بِندُورُو لنَصِيبه في حياة السِّجن، ويموت بَعدَها بفترة وجيزة. يُخبِرنا بِنِبِين بأنَّه نادِم على هذه المُشاجَرة، وبأنَّه قَد فَعَلَ كُلّ ما في وسعه للتَّكفير عَمَّا بَدَرَ منه ولإنقاذ حياة بِندُورُو، "فكُنتُ أَغسِلُ له أوانيه وثيابه، فيما هو لا يَفتَأ يَسُبُّنِي ويَتَّهِمُنِي بأنَّني أَسرِق أغراضه." جاءت وفاة بِندُورُو في شهر مايو من عام 1991، أي بفترة وجيزة قبل إطلاق سَراح بقيَّة السُّجَناء.

في نهاية الأمر، الحكاية التي يَقُصُّها علينا عزيز بِنِبِين في مُؤَلَّفِه "تازمامَوت" هي أقَلّ إبداعًا من غيرها من الأعمال التي تَناوَلَت نفس الموضوع، والتي شارك في تسطيرها كُتَّاب مُحتَرِفون، إلَّا أنَّ هذه الخاصِّيَّة هي ذاتها التي تجعل حكاية بِنِبِين أشدّ وَقعًا نظرًا لواقِعِيَّتِها المَرِيرَة.

 

مارسِيَا لِينكس كوِيلِي

ترجمة: ريم الكيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

‏ar.Qantara.de