مغامرات المتطرفين
نرى كيف يهرع الناس هلعًا نحو الأسفل، وكيف يقتحم رجال الإطفاء طريقهم نحو الأعلى. الدخان. برك ماء أعمال الإطفاء. الوجوه المفعمة بالاستهجان، والأسئلة، والرعب. نسمع ضوضاء لا نعرف من أين تأتي. الصوَّر المعروفة هي ما لا نشاهده في فيلم أوليفر ستون الجديد "برج التجارة العالمي" World Trade Center.
تلك الصوَّر التي اندمغت في أذهان العالم كله. عندئذ نستوعب أن الوحيدين الموجودين على وجه البسيطة والذين لم يعرفوا مقاطع الأفلام المتعاقبة، ولم يشاهدوا اصطدام الطائرات ببرجي التجارة العالمية بنيويورك في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر من عام 2001، هم أولئك الناس الذين كانوا داخل البرجين.
بوش إختطف المأساة
إنها استعارة تتناول وجود الحادي عشر من أيلول/سبتمبر على نحو مزدوج: هنا الحادي عشر من أيلول/سبتمبر باعتباره المشهد الأول لنزاع كوني جديد، وهناك الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الذي يخص "الناس البسطاء" بالمعنى الحرفي للعبارة.
الناس الذين سُحقوا تحت أنقاض ناطحات السحاب المتهاوية مثل نمل هبط فيلٌ على ظهر مأواهم. هنا الحادي عشر من أيلول/سبتمبر باعتباره طلقة البدء بـ "الحرب على الإرهاب"، الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الخاص بجورج دبليو بوش، وهناك الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الخاص بالضحايا.
كتب بروس كلوغر وهو أحد معلقي جريدة USA Today بهذا الصدد: "جرى استخدام الضربات من أجل تبرير حرب مرفوضة شعبيًا، كما تم تحويلها لسلاح في الحملات الانتخابية"، فقط من أجل الابتعاد عن الحدث باشمئزاز.
أما جون هموانز من الـ New Yorker فعلق قائلاً: "صار وسط نيويورك يوتوبيا الحزن في تلك اللحظة"، و "بدت المدينة جديدةً بالكامل". بيد أن "حكومة بوش اختطفت الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ببساطة"، وحولته من قصة جُرْحٍ إلى قضية انتقام.
منعطف تاريخي
ما نشاهده في أفلام كفيلم "برج التجارة العالمي" وفي تقطع ذكريات تلك الأيام المتعددة الأصوات، ليس إلا محاولة لتطهير الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مرةً جديدةً مما تلاه –من حرب أفغانستان، "الحرب على الإرهاب"، من اجتياح العراق، من معتقل غوانتانامو ومعتقل أبو غريب.
إلا أن المحاولة تبين استحالة الأمر. فالحادي عشر من أيلول/سبتمبر منعطف تاريخي عالمي، منعطف يرسم معالم عصرنا، حدثٌ لا يقل أهميةً عن سقوط جدار برلين أو انهيار الاتحاد السوفيتي.
حدثٌ شيد نوعًا من حقل شدٍّ وجذب، يقوم بفرز المشاهد. 9/11، والموقف من السياسة الأمريكية، وديناميكية المواجهة الثقافية الكونية، كل ذلك يشكل الأسئلة الأساسية التي تتمحور عليها خطوط المواجهة في الحياة الفكرية مثلما تتشكل حولها تحالفات فكرية جديدة.
يُغطِّس الحادي عشر من أيلول/سبتمبر كل شيء في أثيرٍ خاص. إنه السؤال الحق لعصرنا وقد غزانا السؤال بالتأكيد في صباح واحد فقط. الخرائط القديمة غدت شوائب، ومذاك صرنا نُعِدّ فن رسم خرائط جديدا لعالم الفكر. لا زال يُقلل من شأن كل هذا حتى اليوم أكثر مما يُغالى به على الأرجح.
متطرفون في كلا المعسكرين
بقدر صحة الإصرار على أن "الغرب" ليس كتلةً أحاديةً، وعلى أن "الشرق" أقرب إلى مخيال خادع منه إلى أقسام دقيقة الحدود، بقدر ما هو ساذج أيضا. فمن البديهي أن واقع المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي هو نتيجة للحادي عشر من أيلول/سبتمبر ومن تبعاته؛ وكذلك تركيبة "نحن" ضد "هم"؛ والشعور بالخطر في الغرب، والشعور المزمن بالمهانة في تلك المناطق من العالم التي لا تنتمي "للغرب"؛ تصوُر طرفٍ بأن عليه أن يدافع عن نفسه بأية وسيلة في نهاية الأمر لكي يواجه "تهديدًا شموليًا" جديدًا، وتصوُر الطرف الآخر بأنه في عالمٍ تتوزع فيه القوة والعجز بهذا الوضوح لا يسعه أن يوصل صوته إلا بالوسائل الدرامية.
يتحكم المتطرفون من كلا الجانبين بجدول الأعمال في نهاية المطاف، حيث لا تجدي كل الإرشادات الطيبة النية إلى أن المتعقلين يشكلون الأكثرية على الأرجح. فمن ذا الذي يطبع الحِراك بطابعه في الغرب في نهاية الأمر؟
أهو بوش وأتباعه أم أولئك الذين يدعون للحوار وللمساواة؟ ومن هم أولئك على الجانب الإسلامي؟ هل هم أناس سريعو الانفعال أم أنهم أولئك الذين يرون في الإسلام صورة "الدين المسالم"؟
حدث غير العالم
في هذه الأعوام الخمسة كان الحال كما هو دائمًا عند تنامي التصعيدات. حيث يزوِّد كل جانبٍ الجانب الآخر بالحجج على خير ما يرام. غزو العراق والتفجيرات في قطارات ضواحي مدريد، سجن أبو غريب والصور البشعة لقاطعي الرؤوس الإسلامويين، معتقل غوانتانامو وتفجيرات لندن التي استهدفت محطات مترو الأنفاق، الجدار الفاصل في فلسطين وصواريخ الكاتيوشا من لبنان، حدة العداء للغرب في العالم العربي وحدة العداء للإسلام في الغرب. تفشي الشعور بالخطر في مدن الغرب الكبيرة علاوة على الارتياب العام من كل ما تبدو عليه معالم أجنبية على نحو ما.
تغير العالم خلال خمس سنوات بشكل درامي. لم يصبح عالمًا أفضل رغم التفاؤل المخادع للأمريكيين المدافعين عن تصدير الديمقراطية، بل غدا ساحةً ازداد فيها العنف والكره وأفكار الانتقام. نحن نعلم اليوم كيف يبدأ شيء كهذا، وكيف تتصاعد الدوامة في منطقٍ للمواجهة ليس فيه مخرج بائن للعيان بسهولة.
ما من تصور لكيفية إنهاء الصراع
أما الذي لا نعرفه اليوم فهو كيف ينتهي وضع كهذا. المواجهة غير متوازنة من عدة نواح. أحد هذه الاختلالات يكمن في أن الأمر على المستوى الأيديولوجي يدور حول نزاع شامل، حول انشطار له طعم ورائحة "حرب عالمية"، حول صراع منخفض الحدة بالتأكيد من الناحية العسكرية.
فلا زالت الاعتداءات في الغرب تشكل الاستثناء لا القاعدة، كما أن الحروب المحلية محدودة جدًا. وهذا جيد، لكن عيبه يكمن في إمكانية استمراره بهذا الشكل لفترة طويلة. إن الخيار المعتاد للخروج من النزاعات عبر استنزاف أطراف الحرب حتى تخور قواها ليس هو الخلاص الواقعي – والحمد لله.
أن تتنامى قوة اعتدال في الأوساط الشعبية البسيطة أمرٌ أكثر واقعية، إذ أن الثمن الذي ستدفعه الأكثرية بسبب مغامرات المتطرفين سيكون فادحًا – وسيتم عزل المتطرفين شيئًا فشيئًا. إلا أن الشروط اللازمة للتوصل إلى ذلك ليست مواتية للغاية.
فبالرغم من معاناة الكثيرين في المجتمعات الإسلامية مما يسببه المتطرفون في المحصلة، إلا أن الإقبال على المتطرفين مازال يزداد نموًا حتى الآن. أما في الغرب فإن الثمن الذي يدفعه "الناس العاديون" في الحياة اليومية من جراء المواجهات فلا زال منخفضًا نسبيًا حتى الآن، مما يجعل الضغط في سبيل تصحيح السياسة ضعيفًا جدًا حتى اليوم.
من المحتمل جدًا أن يستمر هذا الوضع لفترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات. وطبعًا من الممكن أيضًا انحسار الموجة شيئا فشيئا في حال دفع الواقعيون في الأوساط الإسلامية المتطرفين إلى الوراء خطوة خطوة، وعاد تأثير التقاليد القوية لحل النزاعات سلميًا بالظهور في الغرب، وكذلك تجلي الريبة من عسكرة السياسة بزخم أكبر.
عندما يجري الاستماع في الولايات المتحدة في ذكرى الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بشكل ملحوظ إلى أولئك الذين يريدون رواية تاريخ هذا الاعتداء باعتباره تاريخًا للجروح وليس تاريخًا للانتقام الحتمي، يكون حجر البداية قد وُضِعْ.
بقلم روبرت ميزيك
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2006
روبرت ميزيك صحفي نمساوي مقيم في فيينا وبرلين.
قنطرة
هل تغير العالم بعد اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول؟
كثيرا ما يُقال إن العالم تغير جذريا بعد اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول. بعد مرور عامين على الاعتداءات، هل تغير العالم بالفعل؟ هل تغيرت العلاقة بين العالم الإسلامي وأوربا؟ رأي بقلم الباحث في الدراسات الإسلامي لودفيغ أمان
لا غنى عن حوار الثقافات!
منذ اعتداءات الحادي من سبتمبر/أيلول بدأ يطرح شعار حوار الثقافات على الساحة السياسية. وترى الباحثة نايكا فروتان أنه لا غنى عن اتباع استرتيجية الحوار بين الثقافات في السياسة الخارجية في زمن أثبتت الأساليب العسكرية فشلها