في الطريق الى انفتاح تجاري إقليمي

حلم العرب طوال 50 عاما بإنشاء سوق عربية مشتركة بدون أن يتحقق أي شيء من ذلك، إذ لا يتعدى حجم التبادل التجاري بين الدول العربية نسبة 10 بالمائة فقط. تقرير كتبه فريدريك ريشتر عن العوائق التي تقف في وجه هذا المشروع.

إبرام الاتفاقيات المعنية بالتجارة الحرة بات ظاهرة واسعة الانتشار في منطقة الشرق الأوسط. فكل بضعة شهور تتصافح أيدي وزيرين من وزراء التجارة ليعرضا أمام عدسات الكاميرا وثائق الاتفاقيات التي أبرمت لتوها. هذا على الرغم من أن 17 دولة عضوا في جامعة الدول العربية كانت قد أنشأت عام 1997 منطقة للتجارة الحرة سميت "جافتا" وتم الاتفاق ابتداء من بداية عام 2005 على إلغاء كافة الجمارك بين الدول الأعضاء.

لكن معدلات التجارة الداخلية بين الدول العربية أبعد من أن توصف بالنهضة والانتعاش، ففي حالة معظم الدول العربية لا يتعدى حجم التبادل التجاري مع الدول العربية الأخرى إلا ما يناهز 10 بالمائة فقط من حجم التجارة الخارجية لكل من هذه الدول. عقّب وزير الصناعة والتجارة المصري راشد محمد راشد وهو أحد رجال الأعمال الأعضاء في الحكومة المصرية في آن واحد على هذا الوضع وروح الإحباط مهيمنة عليه أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في شرم الشرخ في شهر مايو /أيار الماضي بقوله "لقد حلمنا طيلة 50 عاما بإنشاء سوق عربية مشتركة، لكن المشكلة تكمن في أن الأمر اقتصر على محض الأحلام إذ أننا لم نحقق شيئا آخر في هذا السياق".

قوائم سلبية

صحيح أنه قد تم إلغاء الرسوم الجمركية بصورة شبه كاملة داخل المنطقة، لكن هناك حواجز وعقبات أخرى ما زالت قائمة. يقول جمال بيومي الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب "العقبة الحقيقية هي البيروقراطية... وذلك ليس لكونها تتصرف ضد الاتفاقيات المبرمة بل لأنها تحمي المصالح الذاتية البحتة للدولة المعنية".

ففي الاتفاقيات الثنائية توجد قوائم "سلبية" تتضمن عددا كبيرا من السلع المحظور تداولها. من خلال ذلك تخلق للشركات العاملة في المنطقة عقبات تزيد من صعوبة التعامل التجاري ،على سبيل المثال من خلال فرض أذون على الاستيراد وتحديد معدلات ومستويات للإنتاج وفرض طرق بيروقراطية للتعامل الجمركي.

كما أن القطاع اللوجستي ووسائل النقل ما زالت على قدر ضئيل من التطور في الدول العربية، فشبكة الطرق ذات مستوى رديء كما أن المواصلات بخطوط السكك الحديد لا تكاد تلعب دورا يستحق الذكر. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن مطارات هذه الدول وموانئها البحرية لا تملك إلا طاقات محدودة.

تخلف النقل والجمارك

لا يسع بيتر يوسف مدير قسم التصدير في مؤسسة الأهرام للمشروبات التي هي أكبر مؤسسات إنتاج المشروبات في مصر، إلا أن يذعن لمحض الأحلام كلما جالت عيناه في خريطة العالم الكبيرة المعلقة على جدران مكتبه. فهو يتوق إلى تصدير مشروب "فيروز" غير الكحولي المنعش الذي يتصدر صادرات المؤسسة إلى عدد أكبر من الدول وبكميات أضخم. فالسودان على سبيل المثال دولة مؤهلة لاستيراد المشروب المذكور، لكن يتعين على يوسف تصدير المشروب إلى هناك بالحاويات على السفن نظرا لانعدام طرق النقل البري للسلع بين مصر وهذا البلد الواقع في جنوبها.

لكن استخدام وسيلة النقل هذه يستغرق أسبوعين ، كما أن صناديق المشروبات تبقى أسابيع أخرى قيد مراقبة الجمارك في ميناء بور سودان الذي يعاني دوما من تكاثر المعاملات وضيق الحيز. النتيجة هي أن ثلث المشروبات تكون قد تخطت صلاحيتها الزمنية قبل أن تصل إلى السوق الاستهلاكية.

قواعد غير واضحة

أكبر مواضع النقص في "جافتا" تكمن في القواعد غير الواضحة المتعلقة بأصل الإنتاج. فهذه القواعد تحدد النسب المسموح بها للمواد المستخدمة في الإنتاج والصادرة عن دول ثالثة لكي يصبح الإنتاج مؤهلا للإعفاء الجمركي. الخلاف معقود اليوم داخل الدول الأعضاء في "جافتا" حول كيفية حساب قواعد أصول الإنتاج.

بعض هذه الدول تود اعتبار سعر البيع قاعدة لمعدل 40 بالمائة الذي يتحتم أن يكون أصله من الدولة المنتجة بينما تود دول أخرى الانطلاق بدلا من ذلك من معيار تكلفة الإنتاج.

هذا ويتوقع سعيد عبد الله وكيل وزارة الصناعة والتجارة المصرية أن يتم الوصول إلى اتفاق بهذا الشأن حتى نهاية العام الحالي. فهو يقول إن جهودا حثيثة تبذل الآن من أجل تبسيط قواعد أصول الإنتاج. يتبنى عبد الله التفسير السائد في المنطقة حول تفسير أسباب محدودية التبادل التجاري بين الدول العربية، حيث يقول "السبب الأساسي يكمن في تشابه أنماط اقتصاديات التصدير العربية". بمعنى أن التبادل التجاري بين هذه الدول لا يدخل مرحلة الانتعاش لكون هذه الدول تقوم بإنتاج ذات السلع بالإضافة إلى ضخامة حجم قطاع تصدير المواد الخام ".

دور ايجابي للإتحاد الأوروبي

قد تأتي مساعدة في هذا السياق من الخارج في غضون السنوات المقبلة. فقبل 11 عاما قام الاتحاد الأوروبي كردة فعل على الإرهاب وتكاثر أعداد المهاجرين في إطار ما سمي بعملية برشلونه بتعزيز درجة الاندماج الاقتصادي بينه وبين دول البحر المتوسط الجنوبية المجاورة كهدف مرسوم له.

صحيح أن ذلك أفرز في حينه إبرام اتفاقيات مشاركة مع بعض تلك الدول نجم عنها تدريجيا إلغاء الرسوم الجمركية والاتفاق على توحيد طرق المعاملات التجارية والجمركية فيما بينها. هذا وإن لم تفرز عملية برشلونه على وجه عام إلا نتائج هامشية. من أسباب ذلك ضآلة حجم التبادل الإقليمي بين الدول العربية نفسها.

لهذا السبب عقدت آمال كبيرة على اتفاقية أغادير.أبرمت الاتفاقية المشار إليها في شهر فبراير/ شباط 2004 وتقرر بناء عليها إنشاء منطقة للتجارة الحرة تشمل الاتحاد الأوروبي وكلا من المغرب ومصر والأردن وتونس. مما يستدعي هنا اهتماما خاصا هو أن هذه الاتفاقية تسمح لشركة تابعة لإحدى هذه الدول بتصدير منتجاتها إلى الاتحاد الأوروبي دون رسوم جمركية حتى في حالة وجود مساهمة في إنتاج السلعة المعنية من قبل إحدى الدول العربية الأخرى. هذا البند يشكل حافزا للدول العربية على استيراد مكونات الإنتاج من دول إقليمية أخرى بهدف تشجيع التبادل التجاري على الصعيد الإقليمي.

لكن اتفاقية أغادير لم تدخل حيز التنفيذ بعد، حيث ما زال ينقصها توقيع عاهل المغرب الملك محمد السادس. على ما يبدو فإنه ما زال يشارك بعض الفروع الاقتصادية المغربية مخاوفها حيال تداعيات المنافسة الأجنبية.

على الرغم من ذلك فإن الأمل يحدو الاتحاد الأوروبي في أن تخلق اتفاقية أغادير والاتفاقيات الثنائية الإقليمية في غضون السنوات الأربع المقبلة منطقة تجارة حرة كبيرة تتألف من الاتحاد الأوروبي والمنطقة الجنوبية من حوض البحر المتوسط. هنا تتسم الاتفاقيات المشار إليها فجأة بطابع إيجابي في إطار عامل تكييف المعدلات المطلوب بحكم أنها لا تدخل بالتفاصيل على نحو دقيق شامل.

في وجه المنافسة الصينية

حجم التجارة الإقليمية يعتبر المصدر الأكثر أهمية بالنسبة للنمو الاقتصادي. كما أن الاتفاقيات التجارية الناجحة المفعول تكون حافزا للاستثمارات الأجنبية المباشرة الهامة. فشركة سيمنز على سبيل المثال تنتج في مصر قطع غيار الكومبيوتر ومعدات التليفون لتصدرها من ذلك الموقع إلى دول عربية وأفريقية نظرا لأن السوق المصرية وحدها ليست كافية لتسويق تلك المنتجات.

يقول في هذا الصدد محمد المهدي من شركة سيمنز في مصر "مصر ليست هنا محل منافسة مع السعودية كما أن السعودية لا تنافس الأردن فالمنافسة قائمة بيننا وبين كل من الصين والهند والبرازيل. وبغض النظر عما نقوم به هنا من أنشطة، فإن ذلك لن يثني الآخرين عن القيام بأعمال تجارية في منطقتنا".

إن هناك وجودا مكثفا على وجه خاص للسلع الصينية الباخسة في السعر منذ عدة سنوات في أسواق الشرق الأوسط. ولا يمكن إلا للشركات أنفسها العمل على تحسين شروط التعامل التجاري الإقليمي. يرى وزير الصناعة والتجارة المصري راشد بأن "عصر الحماية التجارية قد باتت أيامه معدودة". ويضيف بأن الشركات بدأت تفكر بمعايير إقليمية وتدعو الحكومات إلى النهوض بالتجارة الإقليمية. واستطرد الوزير بقوله "قبل ذلك كان كل وزير في المنطقة يقع تحت ضغوط تفرض عليه حماية السوق الداخلية. أما اليوم فقد باتت الشركات نفسها تلح علينا بأن نفتح الأسواق".

فريدريك ريشتير
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006

فريدريك ريشتر صحفي ألماني مقيم في القاهرة مختص بالشؤون الاقتصادية

قنطرة

الاتحاد الأوروبي من وجهة نظر عربية
ماهي العوامل التي تعيق تشكيل وحدة عربية يواجه العرب من خلالها التحديات الخارجية وتساعدهم على فرض أنفسهم على الخريطة السياسية الدولية؟ حسن نافعة كتب دراسة بعنوان "الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربياً". غوتس نوردبروخ يقدمها لنا

أكاديمية الفواكه والخضار للمصدّرين المصريين
ما هو السبيل إلى وصول البطاطا أو الفاصولياء المصرية إلى المستهلك الألماني؟ مبادرة من طرف الغرفة الألمانية العربية للصناعة والتجارة بالقاهرة تقدم يد العون إلى المصدرين المصريين. تقرير نيللي يوسف

العولمة
الهم الذي تتقاسمه أوروبا والعالم الإسلامي يتعلق بالعولمة المتزايدة لعالم المال والاقتصاد والثقافة. ويخشى العرب من التغريب الثقافي في المقام الأول. نقدم من خلال هذا الملف فرصة للأصوات العربية والأوروبية للتعبير عن آرائها.