من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية

يتناول عبد القادر ملوك في كتابه من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية (هيلاري بوتنام - يورغن هبرماس - طه عبد الرحمن)، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ثلاثة نماذج لسؤال الأخلاق، تعترف كلها بحاجة المجتمع المعاصر الملحة إلى تهذيب أخلاقي جديد:

أولها، موقف هيلاري بوتنام من التفرقة بين الواقعة والقيمة، والموضوعية المرنة التي جعلها بوتنام موضوعية على مقاس القيم الأخلاقية، وثانيها، نظرية أخلاقيات المناقشة ليورغن هبرماس عارضًا مقوّماتها وراصدًا بعض شرائط تحققها؛ وثالثها، الرؤية الأخلاقية التي وضعها المفكر العربي طه عبد الرحمن.

يتألف هذا الكتاب (160 صفحة بالقطع الصغير، موثقًا ومفهرسًا) من ثلاثة فصول وخاتمة. في الفصل الأول، هيلاري بوتنام: نحو تأسيس موضوعية خاصة بالقيم الأخلاقية، يعرض المؤلف مقاربة هيلاري بوتنام في مبحثين؛ وقف في الأول على موقف بوتنام من التفرقة بين الواقعة والقيمة، ويسهب في بسط حجتي القيم الإبيستمية والتعددية التصورية اللتين توسلهما لإبراز تهافت هذه التفرقة من جهة، ودَعْم موقفه القاضي بانطواء العلم والأخلاق معًا على قيم وأحكام معيارية من جهة ثانية. يخصص ملوك المبحث الثاني للحديث عن الموضوعية المرنة التي جعلها بوتنام موضوعية على مقاس القيم الأخلاقية، فيعرض حجة المفاهيم الأخلاقية السميكة التي رآها كفيلة بتعضيد موقفه بخصوصها. يسأل المؤلف في نهاية الفصل: "هل بإمكان الحوار أن يحقق لنا طموحنا؟ وهل بإمكاننا أن نجد في المناقشة الذي يدعو إليه هبرماس ما يغنينا عن الموضوعية التي قضى بوتنام ردحًا من الزمن في مطاردتها؟ وهل تستطيع مفاهيمنا عن الصدق، حتى لو قنناها بشروط وسيّجناها بقيود وضوابط، أن تسعفنا في بلورة أخلاق صادقة صدقًا كونيًا يحظى بإجماع ساكنة المعمورة، أم أن علينا أن نقبل مع هبرماس بكونية مرنة كما قبلنا مع بوتنام بموضوعية مرنة؟".

في الفصل الثاني، يورغن هبرماس: أخلاقيات المناقشة بوصفها رؤية لتأسيس معايير أخلاقية كونية، يبحث ملوك في نظرية أخرى من النظريات الغربية التي اعتنت بشكل كبير بمجال الأخلاق، هي نظرية يورغن هبرماس "أخلاقيات المناقشة" بوصفها امتدادًا للفعل التواصلي، عارضًا لبعض مقوّماتها، وراصدًا بعض شرائط تحققها، مدفوعين بهاجس الكشف عن نوعية الكونية التي تزعمها لنفسها وطبيعتها. كما يتناول في مبحث خاص هبرماس ورهان تحقيق أخلاق كونية في زمن التعددية. ويفرد مبحثًا أخيرًا لهبرماس وكارل أوتو آبل ومشكلة التأسيس. يقول ملوك في هذا الإطار إن آبل يشاطر هبرماس موقفه الذي يقضي بقدرة العقل النقدي المستند إلى المناقشة الحجاجية على تجاوز أعطاب الحداثة ومخلّفاتها، وبلورة معايير أخلاقية تحظى بالكونية والإجماع، لكنه يخالفه في ما يتعلق بمسألة التأسيس، "فهو لم يستسغ كيف أمكن لصديقه أن يتصور إمكانية تشييد معايير أخلاقية يريد لها أن تحظى بالإجماع وتتسم بالكونية بالانطلاق من الأسفل (من شبكات الفضاء العمومي)، أي من العالم المعيوش، الذي لا يخفى على أحد أنه نسبي، تاريخي ومتغير. كما لم يقبل أن يتم النظر إلى المقتضيات الحجاجية للمناقشة باعتبارها مجرد توافقات تتم بين المشاركين في المناقشة، لأن من شأن الإقرار بذلك أن يسقطنا في شَرك النزعة النسبية التي تساير تقلبات الحياة السوسيو – ثقافية".

يخصص ملوك الفصل الثالث والأخير، طه عبد الرحمن: أخلاق الإسلام... أخلاق الكون، ليعرض أهم مرتكزات الرؤية الأخلاقية التي وضعها المفكر العربي طه عبد الرحمن، محاولًا أن يستقيها من مؤلفاته التي تصدى فيها، مباشرة أو غير مباشرة، لسؤال الأخلاق، متناولًا أخلاقيات العمق من حيث هي أخلاق إسلامية بأفق كوني في أول مبحثي الفصل، متسائلًا فيالثاني: هل تقبل العقول الجديدة أخلاقًا مستندة إلى الدين الإسلامي؟ يكتب ملوك: "لا يخامرنا أدنى شك في أن الكونية المشتركة التي يدعو إليها عبد الرحمن هي في حقيقة أمرها خصوصية تتشوّف لأن تصير كونية بدعوتها الآخر إلى تبني قيمها ومبادئها، وفق قناعة مزدوجة تحطّ من قدر الغير وترى أن أخلاقه لا تصلح لأن تصبح كونية بسبب قصور العقل الذي قامت عليه وبسبب طبيعتها اللائكية، وترفع في المقابل من قدر الذات وتبالغ في الإعلاء من قيمتها ولسان حال صاحبها يقول: إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى الآخر في أمور اجتماعهم المادي والمعنوي لأن في موروثهم الثقافي والعَقدي والحضاري ما يشبع حاجاتهم الحاضرة والمستقبلية فيَستكفون به عن طلب غيره من غيرهم".

في الخاتمة، من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية، يقدم المؤلف حصيلة ما خرج به من مقارنته النظريات الثلاث، "فوقفنا على أوجه التقاطع بينها وأوجه الاختلاف، ولما رأينا أن الفجوة أوسع من أن يتم رأبها من خلال رأي نُضَمنه هذا الكتاب، سعينا على الأقل إلى إزالة الغشاوة عن البصائر بتذكيرها بأننا صرنا جميعًا في النعيم والشقاء سواء، وأن لا مناص لنا إلا بالتعاون وتكثيف الجهود وتقريب الرؤى". ويرى ملوك أن الأوان قد حان لأن يدرك الجميع أن الواقع المعاصر أصبح يقتضي، وأكثر من أي وقت مضى، تجاوز التعايش المتوتر، أو التآلف التلفيقي، وتبني التكامل الخلاق الكفيل بجعل البشر ينتقلون من مرحلة التنافسية الضيقة بين الدول أو بين الأعراق أو بين الديانات لاحتكار الهيمنة، إلى مرحلة التضامن والتعاون لبلورة تاريخ مشترك لجميع ساكنة العالم تتحول بموجبه التعددية الأخلاقية إلى أخلاق مشتركة تستوعب التعددية الملحوظة في واقعنا المعاصر، تنفتح فيها الذات على الآخر وتزيد في تحقيق إنسانية الإنسان.