ظواهر تدلّ على الاستنزاف
يأمل الفلسطينيون في أن تستمرّ الهدنة الهشة التي بدأت منذ أكثر من أسبوع مدَّةً أطول من الهدنات التي سبقتها. فهل هي فرصة للسلام أم مجرَّد استراحة في دائرة العنف والدمار؟ بقلم مدير مكتب مؤسسة هاينريش بل في رام الله كريستيان شتيرتسينك
تبلورت هذه الريبة نتيجة تجربة مليئة بالآلام والمعاناة. فمنذ عهد بعيد كوَّنت "المقاومة المسلَّحة" التابعة للفلسطينيين و"الحرب على الإرهاب" التي يخوضها الإسرائيليون ديناميّةً خاصةً، تتملَّص من كلِّ توجيه سياسي.
لذا فإنَّ نوعية أعمال العنف التي تقع "محلِّيًا" لا تشكِّل إلا قدرًا يسيرًا من الأهمية بالنسبة لإعادة إحياء العملية السياسية في مثل هذا النزاع غير المتماثل؛ والأهمّ من ذلك هو وجود إرادة سياسية من أجل المضي في طريق حلّ الأزمة بأشكال سلمية.
يكمن سبب التوصُّل إلى الهدنة الحالية قبل كلِّ شيء في إنهاك وتعب كلا الطرفين. ففي حين وجَّهت الجماهير العالمية في فترة الصيف كلَّ اهتمامها إلى المعارك التي كانت تدور في لبنان، كانت تدور في قطاع غزة طيلة شهر تقريبًا حرب استنزاف متعبة ومضجرة ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ردَّ الجيش الإسرائيلي في نهاية شهر حزيران/يونيو على عملية خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من قبل مسلَّحين فلسطينيين بإعادة اجتياحه لقطاع غزة. وقد أسفر عن ذلك قتل حوالي أربعمائة فلسطيني، نصفهم تقريبًا من المدنيين، من بينهم 61 طفلا وصبيًا.
ومع ذلك لم تحقِّق إسرائيل أيًّا من أهداف حربها المعلنة: إذ لم يتسنّى لها تحرير جنديِّها المختطف ولم تجد آلة الحرب الإسرائيلية المدجَّجة بأحدث أنواع السلاح وسيلةً ناجعةً من أجل إيقاف إطلاق صواريخ القسّام من قطاع غزة.
غزة في حالة حصار
كذلك وعلى الجانب الفلسطيني لا يمكن غضّ البصر عن الظواهر التي تدل على الاستنزاف. لقد أدَّى كلّ من عدد الضحايا المرتفع الذين سقطوا في الشهر الماضي وحالة الاستنزاف الموجودة في كلِّ مكان إلى جانب الفوضى السياسية وكذلك التدهور الاقتصادي إلى فتور ونقص في التعاطف مع "المقاومة الباسلة".
أقدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس في اليوم الذي قامت فيه إسرائيل بهجوم دفاعي على بيت حانون وأسفر عن مقتل تسعة عشر مدنيًا، على المطالبة بوضع نهاية لإطلاق صواريخ القسّام الفلسطينية، وقد لاقى القليل من الاعتراض على ذلك.
أطلقت أثناء فترة الهدنة مجموعة من صواريخ القسّام وقد انفجر مؤخَّرًا واحد من هذه الصواريخ فوق تراب فلسطيني، ما يعني في نظر الكثير من الفلسطينيين نوعًا من الحيرة والشكّ إزاء مثل هذا الشكل من المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. بيد أنَّ الفصائل الفلسطينية المسلَّحة تطالب باعتبار الهدنة كنصر يسجَّل لصالح إستراتيجية الاستنزاف العسكرية التي تتّبعها هذه الفصائل تجاه إسرائيل.
وضع مأساوي
يعاني قطاع غزة منذ بداية هذا العام من حالة تشبه الحصار: فسكَّان القطاع، الذين تُطلق عليهم النيران مرارًا وتكرارًا من البرِّ ومن البحر ومن الجوِّ والذين حُرموا في الصيف لعدَّة أشهر من إمدادهم بشكل منتظم بالماء والكهرباء، لا يعتبرون فقط محاصرين بسبب إغلاق معابر حدود القطاع إغلاقًا تامًا تقريبًا، بل هم يعيشون أيضًا في عزلة عن توفير ما يكفيهم من البضائع والمواد التموينية والأدوية.
إذ أنَّ اقتصاد القطاع وصل عمليًا إلى حالة من التعطّل والركود. أدَّت العقوبات التي أُعلن عنها من قبل إسرائيل والغرب بعد دخول "حماس" إلى الحكومة إلى زيادة مأساوية في حالة الانخناق الاقتصادي.
تحول المعونة الأوروبية التي يتم تقديمها الآن عبر طرق غير مباشرة بشكل جزئي دون انهيار قطاع غزة انهيارًا تامًا. إنَّ ما يتم تدميره من مبانٍ ومنشآت في قطاع غزة، توطِّد دعائمها المساعدات الإنسانية المقدَّمة من الخارج، لا تمكن إعادة بنائه إلا بعد جهد جهيد.
انهيار نظام الدولة
ترافق هذه التطوّرات حالة انهيار في نظام "الدولة"، بلغت مرحلةً متقدّمةً. عندما ينكسر القانون والنظام وعندما لا تعد المؤسَّسات العامة قادرة على ضمان أمن المواطنين واستمرار الحياة الاقتصادية - فعندئذ تكسب الأنظمة والهيئات المحسوبة على الدولة مزيدًا من الأهمية.
يظهر هذا التقسيم للمجتمع الفلسطيني من ناحية في "العودة إلى النظام القبلي"، أي العودة إلى البنى القبلية القديمة: حيث لا تعود الحماية من العنف والمعونة من أجل البقاء متوفّرة إلا لدى العشيرة والقبيلة.
ومن ناحية أخرى يتقدَّم الاستقطاب السياسي، الذي يقسِّم المجتمع الفلسطيني إلى معسكرات غير مستعدِّة للتصالح. إنَّ هذه الأجواء غير صالحة بالنسبة للقوى المعتدلة. ففي حركة فتح يتم تهميش جناح الإصلاح الديموقراطي؛ كذلك من الممكن ملاحظة عملية تقسيم مشابهة لدى حركة "حماس".
زدّ على ذلك أنَّ الافتقار الاجتماعي يشجِّع على ارتكاب أعمال جنائية وممارسة العنف. وهكذا تُطمس الحدود بين العنف السياسي والجنائي. فقطاع غزة يسير في طريق نحو الـ"صوملة". لكن انهيار "الدولة" يتم هنا في قطاع غزة، على خلاف الصومال، قبل تأسيس هذه الدولة.
تعثَّرت المحادثات التي استمرَّت طيلة ستة أشهر حول تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، وذلك لأنَّ الطرفين المشاركين في المحادثات تمكَّنا من الاتِّفاق على أساس لتشكيل الحكومة، ولكن ليس على توزيع الإدارات؛ مَنْ الذي سيشرف على الإدارات المالية ومَنْ سيسيطر على "قوى الأمن"؟ وعلى أيّة حال فإنَّ كلا الطرفين غير مستعدِّين لقبول احتكار السلطة "الحكومية" من قبل طرف واحد.
ثمَّة سبب لهذه الشكوك فيما إذا كانت هذه الوزارة التكنوقراطية سوف تتمكَّن من حلِّ المشكلتين الرئيسيتين الموجودتين في المناطق الفلسطينية: مشكلة إنهاء العزلة الدولية ومشكلة خلق حالة من الرضى والارتياح داخل المناطق الفلسطينية.
كذلك يغطِّي الحلّ التكنوقراطي المؤقَّت فقط العجز والتقصير عن متابعة إشراك عناصر أخرى من النخب الفلسطينية وعن تطوير إستراتيجية سياسية متينة. لا يزال الاختيار بين خيار إنشاء مؤسَّسات ديموقراطية مع احتمال حلّ الدولتين من ناحية وخيار المقاومة المسلَّحة من ناحية أخرى أمرًا غير مبتوت فيه بعد.
آفاق سياسية
إنَّ الهدنة لن تزيد تقريبًا من سرعة التوصّل لعملية التسوية، طالما بقيت هذه العملية غير مرتبطة بآفاق سياسية. لم تطرح في التصريحات الأخيرة التي وردت على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، الذي أيَّد رؤية تسوية الدولتين، أيَّة أُسس سليمة للتوصُّل إلى هذه التسوية. إذ أنَّ المنطقة لا تحتاج إلى إعادة الحديث عن هذه الرؤى السياسية، بل تحتاج إلى جدول للوصول إلى تسوية الدولتين.
يجب استثمار الهدنة لهذا الهدف. عندما يقوم المجتمع الدولي بتحديد شروطه التي وضعها من أجل إنهاء العزلة المفروضة على حكومة المناطق الفلسطينية، فعندئذ سيتمكَّن المجتمع الدولي من أن يساهم مساهمة هامة في إنهاء هذه العزلة.
لنتصوَّر أنَّ الهدنة ستستمر ولن يحدث أيّ شيء؟ فستكون الهدنة من جديد مجرَّد استراحة قبل الهجوم التالي - سواء تعلَّق الأمر بحرب أهلية تدور في المناطق الفلسطينية أو بتصعيد عسكري جديد.
بقلم كريستيان شترتسينغ
ترجمة رائد الباش
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
صدر هذا التعليق في صحيفة "تاغستسايتونغ".
كريستيان شترتسينغ مدير مكتب مؤسسة هاينريش بل في رام الله.