الديكتاتورية بعيون طفل
الحياة نعيم وسليمان طفل سعيد. ثمار التوت لذيذة وطفل التاسعة من العمر يلعب مع أصدقائة متمتعا بالعطلة المدرسية. لكن لهذه الجنة الأرضية بعض نواقص صغيرة. فالأم تتناول كمية كبيرة من الدواء، لأنها غالبا ما تكون مريضة، لكن فقط عندما يكون الأب غائبا. فهو رجل أعمال كثيرا ما يسافر إلى الخارج، وكل عودة من عوداته شبيهة بحفل صغير: هناك هدايا والأم التي تتزين قليلا بهذه المناسبة.
وذات مرة سافر سليمان وأمه إلى مدينة طرابلس، وهناك رأى أباه فجأة في ساحة الشهداء. لكن الأب يهاتف العائلة مساء ليقول إنه في الخارج وسيعود في اليوم الموالي إلى البيت. وعندما استعصى عليه النوم ليلا لأن أمه قد كسرت في غفلة منها قارورة الدواء، اندس إلى جانبها في السرير مثلما يفعل عادة عندما يكون الأب متغيبا ويلمّ بالأم مرضها. وعندها كانت تروي له دوما كثيرا من الحكايات.
ثم تحل الكارثة. يتم إيقاف الجار والصديق الأستاذ رشيد من طرف أعوان الأمن السري بتهمة انتمائه إلى مجموعة معارضين. بعدها بقليل تحوم الشبهات أيضا حول أب سليمان. تعمد الأم بمعية موسى صديق والده إلى حرق كل الكتب والوثائق التي توجد بالبيت. لكن سليمان يخبئ كتاب "الديمقراطية الآن" معتقدا أنه سيجعل من ذلك هدية مفرحة لأبيه: أن يكون قد أنقذ واحدا من كتبه.
إنقلاب العقيد
كانت فترة مليئة بالمخاطر تلك التي عقبت الانقلاب الذي قام به العقيد معمر القذافي في ليبيا، وكان حريصا عندها على تدعيم استقرار سلطته بكل الوسائل: بالإيقافات وممارسة التعذيب وقمع كل من يفكر بطريقة مغايرة. لكن ماذا يمكن لطفل في التاسعة من العمر أن يفهم من كل هذه الأمور؟ من هذه الزاوية الساذجة لرؤية صبي بريء يروي هشام مطر وقائع قصته المؤثرة.
الكثير من الأشياء ترد في هذه الرواية على سبيل الإشارة والتلميح، دون تثمين أو إصدار أي حكم: أن يكون دواء الأم ليس شيئا آخر في الحقيقة غير شراب كحولي، وأن تغدو الصداقات هشة لا تقوى على الصمود في ظل نظام الرعب والقمع، وأن يكون الطفل قاب قوسين أو أدنى من الوشاية بأبيه إما بسبب غفلة صبيانية أو فقط لأنه يريد أن يفعل شيئا يفرح رجال المخابرات.
يروي الكاتب هنا ولا يفعل غير سرد الوقائع دون توضيحات أو وعظ وتثمين أخلاقي ودون حكم أو إدانة. عرَضا يذكر مثلا أن العمة سالمة زوجة الأستاذ رشيد والصديقة المفضلة لأم سليمان قد انقطعت عن الزيارات. وذلك يعني أنه لم يعد بإمكانه بعدها أن يلعب مع إبنها وصديقه كريم: "عليك أن تبتعد أكثر عن ذلك الولد"، قالت له أمه. وهي لم تكن من قبل لتذكره أبدا بعبارة "ذلك الولد". "من الأفضل أن تتجنبه حاليا". وهذا انفصمت روابط الصداقة بينهما.
بطريقة واضحة وجلية يجعل هشام مطر القارئ يدرك بأنه يعيش أشياء لكن دون أن يكون له إدراك بها، وأنه يعيش حياةً في "بلاد الرجال"، بلاد مليئة إيحاءات ومخاطر غامضة. بهذا المزيج من براءة الصبي والحدس الغامض للشاب ثم معرفة الكهل يصف مطر بحساسية مرهفة وبأسلوب خال من كل تفخيم وجعجعة وقائع طفولة تبدو على شفا حفرة من الهلاك وتهدد على الدوام بالوقوع في الوشاية والخيانة.
انفلاتات عاطفية
لكن سليمان ينجو من الوقوع في الوشاية، وعندما قدم الكتاب إلى عون المخابرات السرية كان قد تغير وضع الأب وكان عارفا بالأسماء التي يحتويها إهداء الكتاب. وحتى المشاهد الوحشية نفسها فيتم سردها بطريقة محايدة ومقطعة بفواصل من الأفكار الصبيانية وحكايات أخرى، مثل عملية إعدام الأستاذ رشيد التي نقلها التلفزيون مع ما رافق ذلك من إهانة علنية ولغط السوقة، والبول في بنطلونه، والموت الشنيع. أو عندما يعود الأب إلى البيت و تسدل الستائر على كل المرايا بحيث لم يعد بإمكان الصبي أن ينظر إلى وجهه.
غير أن مطر يفسد هذا الانطباع الجيد في نهاية الرواية للأسف حيث يسقط في الانفلاتات العاطفية عندما تأتي أمه لزيارته بعد سنوات عديدة من الإقامة في منفاه المصري. لكن في ما عدا ذلك فإن هذه الرواية قد كتبت بطريقة مؤثرة، مرعبة وحساسة وثرية بالأجواء الموحية. كتاب يستطيع المرء أن ينفذ من خلاله إلى روح طفولية وإلى مجتمع يعيش حالة حصار دائمة.
بقلم غيورغ باتزر
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
التبادل الأدبي الألماني-العربي
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء: المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية.