"لستُ مستعدة للتخلي عن حكومة الشرع بعد"

شاحنة صغيرة عليها كلاشينكوف ورجل خلفها.
لم يتمكن الشرع حتى الآن من الوفاء بوعده بسوريا آمنة للجميع؛ كما هو الحال هنا في السويداء، حيث تتورط قواته بشكل متكرر في العنف والقتل. (Photo: Picture Alliance / abaca | AA/ABACA)

وعد الرئيس السوري أحمد الشرع بسوريا تحتوي الجميع، لكن العنف يطغى على المرحلة الانتقالية. تقول الباحثة السياسية رهف الدغلي، في مقابلة، إن سوريا بحاجة لحوار وطني حقيقي، واستراتيجية واضحة لدمج المقاتلين السابقين في الجيش.

الكاتب، الكاتبة : هنا الهيتمي

قنطرة: السيدة الدوغلي، في ديسمبر/كانون الأول 2024، أطاحت ميليشيات متمردة بقيادة هيئة تحرير الشام بالرئيس السوري بشار الأسد، ماذا حدث منذ ذلك الحين؟

مباشرة بعد الإطاحة بالأسد، حظي الرئيس الجديد أحمد الشرع بشعبية كبيرة لأنه حقق ما اعتبره كثيرون مستحيلاً: انتقالاً سلميًا نسبيًا دون إراقة دماء. أرسل الشرع رسالة قوية دعا فيها إلى المشاركة ونبذ الانتقام ووعد جميع السوريين بالأمن والتمثيل.

بعث الشهر الأول الأمل في الداخل والخارج، وأبدت عدة دول استعداداها للاعتراف الحذر بالانتقال السياسي، كما تحسنت الأوضاع الأمنية والحكم المحلي، ولكن مع بدء بناء الدولة الجديدة، أخذت الانقسامات الداخلية تطفو على السطح بشكل متزايد.

Portrait Rahaf Aldoughli
باحثة ومحررة

رهف الدغلي محاضرة في دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة لانكستر، وتعمل أيضًا كمحررة أولى في مجلة "Cogent Social Sciences" المفتوحة المصدر.

تعتبر الجماعات المسلحة، التي وصل عددها إلى أكثر من مائة، ونشأت خلال الـ 14 عامًا الماضية من أكبر التحديات.  في "خطاب النصر" الذي ألقاه في 29 يناير/كانون الثاني 2025، أعلن الشرع، دمجهما جميعًا في الجيش، كيف تمضي العملية إلى الآن؟

كانت هذه الخطوة رمزية في المقام الأول وجاءت مفاجئة؛ لم تسبقها مفاوضات ولا إطار قانوني للاندماج، ومن خلال بحثي الميداني، أعلم أن معظم القادة – حتى قادة الجماعات المركزية – لم يتم إخطارهم بحل جماعاتهم. أخبرني أحد قادة ميليشيا "مغاوير الشام" أنهم استُدعوا لحضور الحفل الاحتفالي دون أن يعلموا أن ذلك يعني نهاية قيادتهم العسكرية.

ولم تؤدي تلك الخطوة إلى التماسك بين قوات الفصائل، بل الارتباك. فالمجتمع يتعامل مع الجماعات المسلحة ككتل متجانسة، لكن أبحاثي تُظهر، أن دوافع المقاتلين معقدة ومتعددة الأبعاد. بالنسبة للعديد من أعضاء الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا مثلاً، تتراوح الدوافع بين المظالم الشخصية والصدمات النفسية والمثل الثورية، مرورًا بالانتماء العرقي والرغبة في البقاء، والضائقة المادية.

لدمج هؤلاء المقاتلين، من الضروري فهم أساس ولائهم، وكيف يعرّفون مكانتهم، وما المستقبل السياسي الذي يرونه لأنفسهم.

ما الذي كان ينبغي أن يفعله الشرع إذن؟

أولاً، كان يجب عقد حوار أمني وطني يضم ممثلين منتخبين من جميع الفصائل – بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية الكردية "قسد"، والفصائل الجنوبية – لصياغة رؤية مشتركة للجيش. 

ثانيًا، كان يجب إدخال هيكل قيادة انتقالي يحافظ على مكانة قادة الصف الأول ويضمن في الوقت نفسه الرقابة المدنية. 

ثالثًا، كان من الممكن تقديم خطط للتسريح وإعادة الدمج تعكس دوافع المقاتلين.

وأخيرًا، كان ضروريًا اتخاذ خطوات رمزية للدمج، مثل تقديم ضمانات علنية لحماية جنود النظام السابقين الذين غيّروا ولاءهم، ما كان سيفتح الباب أمام عقد اجتماعي أوسع حول الجيش.

تظهر الفوضى الحالية والتوترات الطائفية بوضوح أن الشرع لا يملك سوى القليل من السيطرة على قواته، ففي أوقات التوتر، يؤدي غياب هيكل قيادة مركزي إلى انتهاكات، كما رأينا في منطقة الساحل والسويداء.

برأيك، ما أسباب أعمال العنف في السويداء التي وقعت يوليو/تموز الماضي، وكذلك الهجمات على العلويين على الساحل في مارس/آذار؟

أحد الأسباب الرئيسية هو غياب رؤية سياسية حقيقية لسوريا ما بعد الأسد. فالحكومة الانتقالية لا تتصرف بعقلية الدولة، بل كجماعة مسلحة استولت على السلطة بالصدفة. وحتى الآن، لا توجد جهود جدية لتجاوز المنطق العسكري والانتقال إلى حكم شامل للجميع. كان ينبغي إجراء عملية تشاور تجمع مختلف المكوّنات السورية لمناقشة الرؤى المتباينة للدولة، سواء كانت مركزية أو فدرالية أو غير ذلك.

لكن القيادة فرضت نموذجًا أمنيًا صارمًا. غير أن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على الإقصاء أو الإكراه، بل يحتاج السوريون إلى مساحة للتفاوض حول شكل دولتهم وهويتها وصلاحياتها.

لعقود، حرّض نظام الأسد الجماعات الطائفية على بعضها البعض لبث الانقسام. كيف يُمكن استعادة الثقة بين مختلف الطوائف؟

على سبيل المثال، خلال القتال في السويداء ظهرت مبادرات مدنية عديدة من الدروز والبدو، عملوا معًا لإجلاء العائلات وحماية المدنيين، وحزنوا معًا، بل واعتذروا لبعضهم البعض عن أعمال القتل. يجب على الدولة دعم مثل هذه المبادرات وتعزيزها بدلًا من السيطرة عليها.

كما ينبغي أن تتجنب الدولة الخطاب الطائفي في الإعلام والتصريحات الرسمية، فالخصومات بين الطوائف موجودة، لكن من مسؤولية القيادة السياسية احتواؤها لا تأجيجها.

في فبراير/شباط 2025 دعا الشرع إلى "حوار وطني" أكد فيه وحدة البلاد، هل كان مجرد رمزية سياسية؟

كان الحوار الوطني فرصة ضائعة، إذ استُبعدت أطراف رئيسية مثل القيادة الدرزية، وقوات سوريا الديمقراطية، وممثلو المجتمع المدني من مناطق المعارضة السابقة. 

لم يكن الحوار محاولة جدية لمعالجة التعددية السورية، فضلًا عن الاختلافات حول شكل الحكم، والنتيجة: مشهد سياسي تتفاقم فيه المظالم، يظل فيه الحوار سطحيًا، وتُفرض السلطة بدلًا من التفاوض عليها.

مثل ماذا؟

نرى أن العديد من سلطات الدولة تتألف في الغالب من أعضاء سابقين في هيئة تحرير الشام، ما يثير شكوك السوريين حول استعداد هذه الحكومة فعلًا لاحتضان الآراء المتنوعة.

والمطالبة بحكومة أكثر شمولًا لا تقتصر على تمثيل الأقليات، بل على احتواء اختلاف الرؤى السياسية.

وأين الأحزاب والقوى السياسية من كل هذا؟

كان من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الشرع، التي تتحمل جزءًا من مسؤولية اندلاع العنف مؤخرًا، حل جميع الأحزاب السياسية. وحتى الآن لا يُسمح بإنشاء أي حزب.

لكن وجود أحزاب ضرورة، وإلا فلن يجد الناس وسيلة للتعبير عن آرائهم سوى عبر السلاح. على الحكومة أن تفتح قنوات تسمح بالتنظيم السياسي.

وماذا عن مؤسسات الدولة، مثل الشرطة والقضاء؟

لا تزال الشرطة ضعيفة، وتفتقر إلى التدريب الكافي وإلى ثقة الجمهور. وقد استقال جزء كبير من كوادرها بعد سقوط النظام، فيما يفتقر الضباط الجدد إلى الخبرة.

أما القضاء، فتوقف عن العمل لنحو ستة أشهر، ولم يُستأنف نشاطه إلا جزئيًا في يوليو/تموز. ويعاني نظام إنفاذ القانون خللاً وظيفيًا واضحًا. فلا توجد خارطة طريق مؤسسية شاملة، ولا رؤية للعدالة الانتقالية، ولا إصلاحات قانونية، وبالتالي تبقى معظم آليات العدالة معطلة أو شكلية فقط. وفي ظل هذا الفراغ المؤسسي، تولّت جهات وفصائل محلية مسؤولية الأمن، ما عمّق الانقسامات.

أصدر الشرع في مارس/آذار إعلانًا دستوريًا، إلى أي مدى يكشف عن مسار الحكومة الجديدة؟

يعكس الإعلان الدستوري تركيز الحكومة على المركزية والحكم العسكري. ورغم تضمّنه بنودًا بارزة مثل الالتزام بالمعاهدات الدولية وإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية، إلا أنه في النهاية يُعزز سلطة الرئيس دون فصل حقيقي للسلطات أو آلية للمحاسبة. والأهم أنه لا يطرح خارطة طريق لدستور دائم.

هذا يكشف غياب تحول ديمقراطي فعلي. فبينما يشير إلى رغبة سوريا في تجاوز ماضيها الاستبدادي، إلا أنه يفشل في تيسير الحوار الوطني الشامل الضروري لمعالجة التنوع السياسي.

كيف يمكن لأوروبا دعم سوريا؟
على الحكومات الأوروبية أن تقدم دعمًا متوازنًا ومبدئيًا. فالحكومة السورية الحالية ما تزال في مرحلة انتقالية، تتحول فيها من فاعل غير حكومي منقسم بفعل الحرب والعقوبات إلى سلطة مركزية تسعى لترسيخ نفسها كفاعل عاقل للدولة.
ينبغي تشجيع هذا التحول، لكن ليس دون قيد أو شرط. يجب الضغط على الشرع للتخلي عن المنطق العسكري في تصرفاته والالتزام بعملية سياسية شاملة وشفافة. يجب أن يتجاوز خطابه عن العدالة والمصالحة حدود الرمزية، ويرتكز على آليات تُشرك مختلف المجتمعات، وتعالج المظالم، وتضمن المساءلة خلال المرحلة الانتقالية، لا أن يُكرّس الوضع القائم.

بعد مضي الفترة الأولى من نشوة رحيل الأسد، تمر سوريا الآن بمرحلة عصيبة. هل ضاعت فرصة الانتقال السلمي؟
لستُ مستعدة للتخلي عن هذه الحكومة بعد. رغم أخطائها الكثيرة، ما زلت آمل أن تتمكن من إصلاح نفسها. لكن فرصة الانتقال السلمي تتلاشى بسرعة، فسوريا اليوم منقسمة بشدة وتواجه تدخلًا إقليميًا متزايدًا.
تشير الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، خصوصًا في الجنوب، إلى منعطف خطير. يُحرم السوريون أكثر فأكثر من حقهم في المشاركة السياسية، ويجدون أنفسهم بين فكي حكومة تقاوم الإصلاح وقوى خارجية تفرض أجندتها.
ومثل كثيرين غيري، أشعر بالحيرة: هل أدعم حكومة انتقالية لا تُظهر بوادر تغيير حقيقية، أم أخاطر بتفكك سوريا؟ عندها ستُوسّع إسرائيل نفوذها في الجنوب، وستُرسّخ تركيا وجودها في الشمال، وستتلاشى إمكانية صياغة رؤية وطنية جامعة.
هنا يأتي دور المجتمع الدولي، خصوصًا القوى الغربية، لدفع عملية سياسية أكثر شمولًا وتشاورًا تحفظ تطلعات السوريين والمصالح الاستراتيجية للغرب.

ترجمه من الألمانية: محمد مجدي

سيتم نشر هذا النص قريبًا في نسخة مطبوعة مشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..

قنطرة ©