هل انتهى عهد التسامح؟

يرى الكاتب الهولندي من أصل مغربي عبد القادر بن علي أن المهاجر يعاني من دوامة الوقوف بين الانطواء تحت راية المجموعة التي ينتمي إليها أصلا وبين المطالب التي يطرحها مجتمع ما بعد عهد الحداثة.

قال لي مؤخرا رجل أمريكي طويل القامة فيما كنا نجلس سوية في إحدى حانات مدينة طنجة "الهولنديون يذكرونني بعمالقة ملحمة الأوديسة لهوميروس. فهم ينظرون إلى العالم بعين واحدة". وضع بعد ذلك يده فوق عينه اليسرى مجازا عن الإحساس بالانقباض الذي يهيمن على نفس المرء الذي درج على النظر إلى العالم نظرة تفتقد إلى الرحمة والعطف. أضاف قائلا "هولندا هي بمثابة بلاد السيكلوب (جيل من العمالقة بعين واحدة في وسط الجبين بناء على الأساطير الإغريقية)".

لقد اتضح بأن هذا الأمريكي كان محقا في رأيه. حيث أن هيرزي ماغان باتت في طريقها إلى الولايات المتحدة بغرض المشاركة هناك في الجدل الدائر في صفوف المثقفين. بذلك يكون الهولنديون قد فقدوا أهم من تصدروا الموضة الحديثة في الحقل الثقافي منذ وقت طويل. تلك الدراما تكشف ولو بعض النقاب عن هذا البلد ذي الشخصية البروتستانتية والسمة المتسمة بمغالاة في الرؤية المحافظة، تحديدا ذلك البلد الذي لا يطيق بروز الأشخاص إلى مراتب تعلو عن معدلات الوسط. تشكّل مغادرة هيرزي لهولندا واقعة متمشية مع تقاليد قديمة قائمة في هذا البلد.

ألعوبة في يد النخبة

لا يحب الهولنديون الأبطال بل إنهم لا يحبون حتى أنفسهم، ويواجهون صعوبة في استيعاب العالم الكبير الحافل بالمتناقضات. تلك هي مأساة الهولنديين؛ لكن دعونا نطلق على ذلك "مأساة ضئيلة الحجم" حيث ينتهي مفعولها حالما يصل المسافر إلى الحدود مع بلجيكا ليقرأ لافتة مكتوب عليها "مرحبا بكم في أنتفيربين".

لم أكن أتفق مع هيرزي علي بالرأي. إنها تنحدر من وسط إسلامي يتم فيه ختان95 بالمائة من مجموع البنات، وكانت كثيراً ما تتحدث مع أعضاء جاليات مسلمة أخرى مقيمة في هولندا - وتحديدا أبناء المغرب – حول موضوع الختان. كنت أعتبر الأفكار الكبيرة التي طرحتها وطريقة عرضها للحقائق أمراً غريب الأطوار، لكونها لم تعمد إلى استخدم البيانات والأرقام، أو قامت باستخدامها على نحو سيئ.

لكنني على الرغم من ذلك أميل إلى هذا النمط من نقيض الأبطال غريبي الأطوار. كانت تعمد إلى الاستفزاز وتلجأ إلى أساليب المواجهة وترفع لدى المحاكم دعوى تلو الأخرى. وقد كافحت من أجل حقوق النساء المسلمات، لكن النساء المسلمات لم يرغبن بأن تكون لهن أية صلة بها. وعمدت إلى استخدام طريقة العلاج المبني على الصدمة، لكن "المرضى" لم يثقوا بطريقتها هذه. وحتى في أوساط المسلمين المشبعين بروح التنوير الواسعة، فإنها لم تجد سوى صدى ضئيلا.

ألعوبة لا غير؟

لقد كانت ألعوبة في يد النخبة الهولندية التي كانت بحاجة على وجه دوري إلى مثل هذه الألعوبة. هذه النخب تنتمي للجنس الأبيض وتسكن في أمستردام. وقد رأت في شخص هيرزي علي بوقا مناسبا للتعبير عن مشاعرها المناوئة للإسلام، بغض النظر عن كون هذه المشاعر محقة أو غير محقة.

صعد نجم هيرزي علي في تلك الأوساط بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وازداد ارتفاع نجمها أكثر وأكثر من خلال وقوع عمليات إرهابية أخرى قامت بها مجموعات إسلاموية. كلما كانت هيرزي علي تتعرض للنقد، كانت النخبة تعمد إلى إحاطتها بطوق حماية وتضامن، وتنظر إليها كما لو كانت قديسة. كانت تلقب دوما "أيان" أي دون استخدام اسمها بالكامل. ولم تكف النخبة أبدا عن معاملتها لها كالطفلة المدللة. بعض أفراد النخبة وضعوا أنفسهم حرسا عليها، وابتلعوا إنتاجها الخيالي كما لو كان نوعا من المهروس حلو المذاق، فيما تبرع البعض الآخر بأنفسهم لكتابة خطبها وكلماتها.

نادرا ما حدث في الماضي مثل هذا التحمس الشديد من قبل عدد كبير من أفراد النخبة لشخص من هذا النوع. وكان يكفي عليها من أجل ذلك أن تواصل فقط زعمها بكون الإسلام "من عمل الشيطان" ولا يتمشى مع القيم الديموقراطية. على الرغم من ذلك، فقد ظلّت أيان مواطنة تدين بفكرة العالمية ومناضلة، وامرأة لا تعترف بحدود إقليمية. كونها مرغمة اليوم على التوجه إلى خارج البلاد يدل على أنها فقدت الدعم الذي كانت تناله في سياق حملاتها.

وذلك لأن البعض رأى بأن لأفكارها مردودا عكسيا؛ وفي نفس الوقت اقتبست الأحزاب "الودية" القائمة الكثير من الأفكار التي روّجت لها هيرزي علي. لا شك أن رغبة صديقة حزبية لها في طردها من البلاد لكونها استخدمت في استمارة اللجوء السياسي اسما خاطئا أمر مر بالنسبة لها. هل الموضوع محض موضوع اسم؟ لا فالموضوع لا يتعلق بطبيعة الحال بالاسم، بل لنقل بأنها بدأت تتلقى الضربات التي كانت توجهها للغير بطريقة عكسية تلقائية.

تمزقت أشلاء الجسم الحر المتسامح المؤمن بالتعددية الثقافية الذي تمتعت به هولندا في غضون التسعينيات. كانت هولندا في ذلك الحين تنال مديح العالم لكونها اختلفت نهجا عن الدول الأخرى؛ وكانت تتعامل مع المسلمين وتعتبرهم أناسا أبرياء وتنظر إليهم كالحمل الوديع. كانت هولندا تنفق الأموال على بناء المساجد وإدارتها، ولم يخطر على بال أحد من المعنيين أن يسأل عن خفايا البلاغة غير العقلانية والمعادية للغرب أحيانا التي كانت تنطلق من تلك المساجد.

وقعت أيان هيرزي علي ضحية لكفاحها ذاته، وهي لا تكترث بهذا المصير حيث أن الفرحة تحدوها لكونها في وضع يسمح لها بمغادرة هولندا. وكانت تنوي من الأساس مغادرة هولندا في العام المقبل بعد انتهاء الدورة النيابية الجارية. ونظرا لكونها لا تتواجد إلا نادراً في البرلمان، فإن مغادرتها قبل الموعد المقرر ببضعة شهور ليس بتلك الأهمية.

ما قيمة بقائها في بلد لا يسع المرء فيه إذا تأزمت الأحوال أن يعتمد على عون حتى أصدقائه السياسيين؟ هنا كان بوسع المهاجرين أن يتلقنوا عبرة من هذا التطور المثير للقلق، فحتى لو تبنوا والتزموا بمعايير وقيم المجتمع الغربي المتنور كان عليهم مع ذلك أن يتحسبوا لأسوأ الاحتمالات بالنسبة لأحوالهم الشخصية. الأدهى من ذلك أن المهاجر الذي يدافع عن القيم الليبرالية يعرض نفسه إلى أخطار جسيمة.

وداع مر

من خلال انعطاف هولندا نحو طريق مبني على عدم التسامح، بدأت ترى نفسها في موضع طريق مسدود. لكننا نشعر في نفس الوقت بالارتياح ونحن نرى النموذج الهولندي يتصدع وينهار. وسوف يتعين على كل منا أن يخلق لنفسه من على أشلاء هذا النظام المنهار نظاما جديدا خاصا به ينظر إلى المؤسسات السياسية القائمة بروح نقدية شديدة، ويتعامل بروح مبنية في المقام الأول على التصرف الفردي المستقل.

ليس بوسع دولة الرعاية الاجتماعية أن تقدم للفرد ما يشبع احتياجاته من سبل الحماية. أما دور هيرزي علي في إطار الجدل المتعلق بالتعددية الثقافية فهو كونها قد أوضحت من خلال طريقتها غريبة الأطوار والفردية في الطابع بأن الذي يتصرف انطلاقا من قوته الذاتية وبناء على الأفكار التي يدين بها يحقق أحيانا وبتوفر ولو دعم محدود القدر الأكبر من النجاح. هذه الموهبة التي تتمتع بها هيرزي علي سوف توظفها في الولايات المتحدة بنجاح فائق؛ هذا على الرغم من أن نقدها للأديان لن يجد هناك إلا دعما طفيفا.

هناك إذن حل للمشكلة في حالة أيان هيرزي علي، أما بالنسبة للآخرين غير القادرين على التحرك فإن إحساسا غريبا يطغى على نفوسهم حيث أنهم يتساءلون عمن يمكن للمهاجر في هذا البلد أن يمنحهم ثقته، مع العلم بأن المهاجر يعاني من دوامة الوقوف بين الانطواء تحت راية المجموعة التي ينتمي إليها أصلا وبين المطالب التي يطرحها مجتمع ما بعد عهد الحداثة. بمعنى أن المهاجر يبقى في ظل هذه الدوامة معتمدا على نفسه فقط.

كما كان الحال عند قدوم أيان هيرزي علي إلى هولندا، فإن مغادرتها لها تأتي وفقا لسيناريو معد بكامل التفاصيل. يدرك من نجح في اللجوء إلى بلد ما معنى وتداعيات مغادرة هذا البلد. لكن ليس بوسع كل مهاجر أن يكسب مغادرته طابعا أصيلا، وأن يقول كحال هيرزي علي في خطاب الوداع "أتيت إلى هولندا في صيف عام 1992 وكان هدفي مسك زمام شؤوني بنفسي. ذلك لأنني لم أرغب أن أكون أسيرة لمستقبل يحدد الآخرون معالمه". حتى يومنا هذا، فإن حياتها تشكل انعكاسا لهذه الجمل الأساسية النابعة منها والتي ما زالت تتبناها حتى هذه اللحظات المرة من حياتها اليوم.

سوف أتصل هاتفيا بصديقي الأمريكي في طنجة لأسأله عما إذا كانت لديه غرفة في الولايات المتحدة يمكن لهيرزي علي السكنى فيها.

عبد القادر بن علي ولد عام 1975 في المغرب ويعمل اليوم كاتبا في أمستردام.

قنطرة
دعاة الليبرالية ينفونها بأنفسهم
توحي الاختبارات المتعلقة بحيازة بعض الجنسيات الأوروبية والتي انتشرت في أماكن عديدة من شتوتغارت إلى فيينا ومن لاهاي إلى فرانكفورت، بأنها تعكس روح الاختيار الثقافي الحر، لكن الذي يتم فعلا هو عكس ذلك تماما. هذا ما يكتبه روبيرت ميزيك في تعقيبه التالي

اغتيال فان جوخ كارثة حقيقية للمسلمين في هولندا
لو تم توفير فرص للشباب العربي المسلم للذهاب إلى السينما وإلى الثقافة والفن وإلى التسامح والحوار لما ذهب إلى أماكن أخرى يمكن أن يتخرج منها قاتلا: حوار مع خالد شوكات مدير مهرجان الفيلم العربي ونائب في بلدية روتردام.