وصف المسار نحو التعدّدية الثقافيّة
لعل مفهوم «التعددية الثقافية» يمثل أحد أبرز المفاهيم التي تزداد جاذبيتها وحضورها في لغة الفكر العالمي الآن، وهو تطور نتج من تنامى وتعدد وتعمق مستويات النقد الموجّه للمركزية الغربية، أي فكر ما بعد الكولونيالية الذي يتلامس مع فكر مع بعد الحداثة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر. فإذا كانت الحداثة قد أنتجت مفهوم التسامح كما تبلور لدى جون لوك في بداية عصر التنوير مطلع القرن الثامن عشر، باعتباره نقطة ذروة على طريق التعايش الإنساني في ذلك الزمان الذي اعتبرت أوروبا نفسها مركزاً للحضارة والاستراتيجية أكثر ما يمكنها أن تتسامح مع ما تعتبره ظواهر تخلف الآخرين وليس فقط اختلافهم، فإن مفهوم التعددية الثقافية هو النتاج الأبرز لفكر ما بعد الحداثة على طريق التعايش نفسه، والذي هو في صدد إنتاج مفهوم «التفاهم» الذي يحتوي على مفهوم التسامح ويتجاوزه في الآن نفسه. فالتسامح مفهوم ديني في الأساس تبلور في سياق الصراع بين المذاهب المسيحية، خصوصاً بين الكاثوليك والبروتستانت إبان الحركة الإصلاحية وما بعدها، ومن ثم يتجذر في خبرة ثقافية أوروبية متمركزة حول نفسها، أما منطقه فيكاد يتأسس على تعاطف طرف أقوى بالضرورة، يشعر بامتلاكه الحقيقة، مع طرف أضعف بالضرورة، يفتقدها، فثمة طريق واحد للخلاص، يملكه دين أو مذهب أو شخص، لكن يمكن التغاضي مع كفر/ زندقة/ هرطقة الآخرين، الأمر الذي يجعله مفهوماً رجراجاً، وموقتاً، لأننا لن نملك دوماً شخصيات مثالية قادرة على التعاطف مع ما تعتبره في مثابة الخطأ والنقص والكفر لدى الآخرين. أما التفاهم فمفهوم ثقافي يقوم على تعددية الحقيقة وليس أحاديتها، وينطلق لا من استعلاء باطني على الآخرين، بل من مجرد الاختلاف معهم، إيماناً بأنهم يملكون قدراً من الحقيقة مثلما يملك هو. وربما أدرك باطناً أن القدر الذي يملكه من الحقيقة يفوق ما يملكه الآخرون منها، ولهذا يبقى على إيمانه الاسمي بدين أو فكرة أو مبدأ. غير أن الأمر هنا يصبح محصوراً في الأكبر من أو الأصغر من، وتلك هي نسبية الحقيقة. ولم يعد، في المقابل، الخطأ المحض هناك والصواب المطلق هنا، حيث كانت الحقيقة بسيطة واختزالية إلى حد السذاجة.
وهكذا، يحتوي مفهوم التفاهم على تسامح أصيل ودائم ينطلق من توكيد للحقيقة، لكن من تواضع عميق، وإيمان صادق بنسبيتها، حيث تتوزع أقدار مختلفة من الخير والفضيلة على عديد الأديان والمذاهب والناس. أما الميزة الكبرى له فكونه يمثل خلاصاً شاملاً للإنسان. ففي التسامح، ثمة حمولة دينية تعول على خلاص ميتافيزيقي مؤجل، يتعين على المؤمن انتظاره، وقد لا يأتي في نظر غير المؤمن، بينما يحيل الحياة على الأرض إلى نار حارقة وقودها الناس، فكأنه يسعى الى الهروب من نار الآخرة المؤجلة إلى نار الدنيا العاجلة. أما التفاهم، فيحفظ للمؤمن حقه في السعي إلى الخلاص الميتافيزيقي الذي يلهمه، وفي الوقت نفسه يصون للملحد حقه في السعي إلى الخلاص الواقعي/ الدنيوي الذي ينشده، ومن ثم يصبح كلاهما قادراً على تفهّم ما لدى الآخر من جوانب خفية قد تكون ملهمة على طريق تحقيق الاعتراف والتقدير المتبادل.
فمثلاً، يرى الطرف الملحد، أن المؤمنين لم يُقدِّروا أبداً نزوعه إلى توكيد الحضور الإنساني ككائن حر على الأرض، يملك حق السيطرة على مصيره، وإمكانية التصرف حيال الطبيعة والعالم. وظني أن ذلك التوكيد يظل عملاً مجيداً، لكنه ليس قصراً على أسطورة بروميثيوس، في الخيال الميثولوجي اليوناني، كجذر للإلحاد الغربي ومصدر لإلهامه. فثمة وسائل لتمجيد الإنسان وتأكيد فاعليته لا تمر بطريق الإلحاد، ولا تستدعي تغييب الحضور الإلهي في العالم، بل تستند إلى ذلك الحضور، لكن لا يعرفها الملحد، كونه لم يخبر التجربة الروحية أو يعيشها من داخلها، وهنا يجب التمييز بين نوعين من الإلحاد:
أولهما، الإلحاد الفلسفي الذي ولد في سياق الصراع الممتد بطول التاريخ تقريباً، حول الكائن القدسي الأسمى (الله)، والذي طرحت في ظله كل الأسئلة الجوهرية التي شغلت تاريخ الفلسفة، وعبرت عن انشغال حقيقي بالوجود الإنساني من قبيل: أصل الخلق، وجذور الشر، وجدوى الخير، ومصير الإنسان، ومغزى الحياة، ومعنى الموت، وما بعد الموت... إلخ. إنه الإلحاد الذي عرفته الثقافة الأوروبية الحديثة، وباسمه تحدى فيورباخ الإيمان المسيحي، كما تحداه فرويد، وماركس ونيتشه، ودوركهايم. لقد أنكر هؤلاء، من ذوي العقول الكبيرة، الحقيقة الإلهية، لكن إنكارهم جسد موقفاً معرفياً مسؤولاً، أفنوا في بلورته جل أعمارهم، وأعادوا في سياقه تأمل التاريخ البشري كله. وعلى الرغم من أن كثيراً من نظرياتهم تبدو غير مقنعة في فهم الظاهرة الأساسية التي صيغت لتفسيرها، أي ظاهرة الألوهية، فإن غالبية هذه النظريات اتسمت بالعمق في تفسير العديد من الظواهر الإنسانية المهمة، سواء النفسية كالأحلام لدى فرويد، أو الاقتصادية - الاجتماعية لدى ماركس، أو الاجتماعية - الدينية لدى إميل دوركهايم. بل إن تفسير فرويد لأصل الحقيقة الإلهية بنظرية السيكولوجية عن «قتل الأب»، قد أضاء لنا عشرات الظواهر الإنسانية، ومنها على سبيل المثال الصراع بين الأجيال، حيث يسعى اللاحق الى الاستحواذ على ثمار ما زرع السابق، أو الحلول محله، على رغم ما قدمه السابق للاحق من دعم بدئي، أو معرفة أولية، وهكذا.
أما ثانيهما، فهو (الإلحاد السوقي)، الذي يفتقر القائلون به إلى العمق والمسؤولية، ويعولون فقط على الغرابة والاستفزاز في التعاطي مع الحقيقة الإلهية، ناهيك عن السخرية من المؤمنين ورجال الدين. أرباب هذا النمط من الإلحاد لا يبذلون عادة جهداً معرفياً يذكر في تأمل الموقف الإنساني المعقد، فلا غايات واضحة لإلحادهم، سوى الاستعلاء على جموع المؤمنين، باعتبارهم ذلك القطيع الذي يحسن هو التفرد في مواجهته بالإلحاد. ومن ثم، فمشكلته الأساسية أنه عدواني بقدر ما هو استعلائي، فالملحد الفلسفي لا يسرع إلى إعلان إلحاده، ولا يفاخر به، حتى أن بعض من ذكرنا أسماءهم سلفاً، اللهم سوى نيتشه، لم يعرِّفوا أنفسهم كملحدين أصلاً، بل وصفهم بذلك مؤرخو الثقافة الذين أتوا بعدهم. كما أن المحفز الأساسي للملحد الفلسفي هو الشعور بالمسؤولية عن الإنسان، والرغبة في تخليصه مما يعتبره (أوهاما) تعطل العقل، وتقيد الحرية. أما الملحد السوقي، فلا يبالي غالباً بالإنسان، وغالباً ما يسرع إلى إعلان إلحاده، قبل أن يتأمل حيثياته، لأن الهدف هنا ليس الإلحاد في ذاته، بل الإعلان عنه، بهدف تحقيق الشهرة والذيوع أو حتى مجرد ممارسة لنوع من التمرد الطفولي، والتعالي المجاني، على الحقيقة وعلى الآخرين.
في المقابل، يبقى لدى الطرف المؤمن نزوع إيجابي عجز الملحدون عن تقديره حق قدره، وهو الإصرار على ربط عالمنا الدنيوي/ العادي/ المدنس، بالحضور الإلهي، القادر وحده على أن يهبنا قبساً من الرعاية والعناية في مواجهة الضغوط التي نعانيها. لكن هذا العجز لدى الملحد ساهم فيه عموم المتدينين، على مر التاريخ، بنصيب وافر لسوء تمثلهم هذا الحضور، عندما حاولوا امتلاكه، والحديث باسمه، فجعلوه مدخلاً للاستبداد والقهر، بديلاً عن كونه رعاية للعالم وتحريراً للإنسان.
وهنا يجب التمييز بين مستويين في التدين: أولهما هو التدين (الرائق) حيث يمثل الإيمان وسيلة مثلى لإنماء العوالم الداخلية للإنسان، وفي قلبها الحب كملكة نتعرف بها على أنفسنا ونتعاطف مع الآخرين، حيث الابن بار بالأب، والأخ شقيق للأخ، والجار حريص على الجار، والإنسان مرفأ ورفيق للإنسان، حيث البسمة في وجه القريب صدقة، وفي وجه الغريب قربان، فالغرباء ظاهراً أقرباء جوهراً، حيث الجميع إخوان في الله، شركاء في خالقيته لهم وعنايته بهم، متضامنون معاً في عهد استخلافهم لعمارة أرضه وتحسين كونه، فمدينة الإيمان قرينة بتمدين الإنسان، وإن لم يتمدين الإنسان فلا معنى لأي إيمان.
أما ثانيهما، فهو التدين (الزائف) الذي يضع نفسه موضع التناقض الحتمي مع باقي عوالم الإنسان ومصادر إلهامه، منبع أمله وألمه، فرحه وحزنه، وتوقه، إذ لا معنى للحب، مثلاً، إلا إذا كان موجهاً نحو الله وحده، وعبر أشكال من المظهرية والتزمت تفضي إلى كراهية الآخرين، على رغم أن لا حب لله إلا بحب الناس، لأنه، جل شأنه، غنى عنا، يسمو على وعينا وإرادتنا، ولا معنى لحبنا له حقاً إلا إذا مس هذا الحب مخلوقاته الموصولة بنا أو المسخرة لنا. أما الادعاء بحبه وحده من دون مخلوقاته، فليس إلا نوعاً من البدائية قريناً للهمجية، وتلك قرينة للوحشية، والوحشية قرينة للشر، والشر قرين للشيطان، حيث المدنس بعينه حاضر، والمقدس بطهره في غياهب النسيان. وهنا لن يكون غريباً أن ترى انتحارياً يصلي ركعتين ويدعو الله أن يوفقه في مسعاه لسفك دماء الأبرياء، كما كان اللصوص يدعون الله أن يوفقهم في استباحة أموال الغائبين.
ربما لا يكون بمكنة أحد أن ينتزع الإيمان من قلب المتدين، أو ينتزع الإلحاد من عقل الملحد، لكن صيرورة الفهم والتفهم والتعلم والتواضع قد تمكننا يوماً من بناء إنسان متسامٍ، مخلص للإنسانية، على رغم قناعاته. قد يكون مؤمناً روحياً يخلو من التطرف والعنف والإكراه، حتى لا يكون خطراً على المصير الإنساني، أو ملحداً فلسفياً، يخلو من الاستعلاء والعدوانية، فلا يكون مستفزاً للآخرين ولا مصدراً لتهديدهم. تلك الصيرورة، هي نفسها، صيرورة إعادة بناء النزعة النقدية وتنشيطها كي تكون قادرة على العمل من داخل زماننا هذا، بكل ما يمكن أن نصفه به من سمات، فهذه النزعة تبقى دوماً في مثابة الشرط الضروري لإعادة خلق العقل الإنساني نفسه، بتدعيم قدرته على التفكير في ذاته، وعلى تجاوز ضيق أفقه، والنزوع من ثم إلى عقلانية شاملة، تتجاوز حال الاستقطاب بين الثنائيات الضدية المتعددة الكامنة في عالمنا، والتي طالما أرّقت الروح الإنساني، وأرهقت التاريخ البشرى.