مشروع "إعادة إحياء جدة التاريخية" يهدد المعالم التراثية
لا تزال ترتفع هنا وهناك مئذنة ونخلة، ولا تزال توجد حتى بقايا مبانٍ. وعدا ذلك، تبدو صحراء الأنقاض هذه مثل منطقة أشباح وتذكِّر بصور من سوريا أو ليبيا. ولكن لا توجد حرب في جدة، ثاني أكبر مدينة سعودية. فالجرَّافات على جانب الطريق تبيِّن أنَّ الدمار هنا يتم وفقًا لمخطط. وعلى أية حال فإنَّ البعض يتحدَّثون عن هدم ودمار بينما يسمي ذلك آخرون بالتنمية الحضرية.
لقد بدأت منذ شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر (2021) أعمالُ الهدم الضخمة في وسط مدينة جدة. وفي أحياء كانت في السابق مكتظة بالسكَّان مثل غليل وبترومين، تمت تسوية كتل كاملة من المباني بالأرض. وتم هدم كلّ شيء - البيوت وورشات السيَّارات ومحلات السوبر ماركت. وتتراكم الأنقاض على جانبي الشوارع.
"يأتي أحد ما ويكتب كلمة ’إخلاء‘ على جدار المبنى. وأحيانًا لا يكون لدى الناس سوى بضعة أسابيع فقط من أجل إخلاء منازلهم. وفي الغليل لم يكن لديهم سوى أربع وعشرين ساعة"، هكذا تصف خلود الحارثي لموقع قنطرة عمل السلطات في مدينتها، وهي في السادسة والعشرين من عمرها وقد نشأ في الكيلو 14، وهو حيّ قد يصبح عن قريب شيئًا من الماضي.
وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تيك توك وإنستغرام آلافٌ من الصور ومقاطع الفيديو لمناظر الدمار تحت عنوان "هدد جدة" وَ "إزالة الأحياء". لقد مثَّلت بالنسبة للكثيرين المقبرة في منطقة الكندرة رمزًا لمدى تشدُّد السلطات في إجراءاتها، حيث ظهرت فجأة كلمة "إخلاء" مكتوبة بأحرف حمراء على مدخل المقبرة، مثلما تكتب على المباني الأخرى. وقبل تمكُّن السلطات من الردّ، انتشرت الصور واللقطات على الإنترنت. وبعد ذلك بوقت قصير، أعلنت أمانة المدينة عن أنَّ ذلك كان خطأ غير مقصود وأنَّ إخلاء المقبرة لم يكن مخططًا له.
وفي الوقت الحالي، المناطق الأكثر تضرُّرًا من أعمال الهدم موجودة في جنوب وشرق المدينة القديمة (البلد)، والتي يمكن تصنيف أجزاء منها ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. كان يعيش في كلّ من هذه الأحياء قبل الإخلاء ما بين عشرة آلاف وخمسين ألف شخص. وهذا يعني أنَّ عشرات الآلاف قد يفقدون منازلهم. وبحسب التقديرات المنشورة من قِبَل معارضي أعمال الهدم ومنتقديها فإنَّ أعدادهم يمكن أن تتراوح بين مئات الآلاف ومليون شخص. لم تقدِّم السلطات المسؤولة والسفارة السعودية في برلين أي رد على سؤالنا عن عدد المتضرِّرين.
إعلان "الانتصار على العشوائيات"
تعطي الصور الملتقط بعضها من طائرات من دون طيَّار فكرة عن حجم الدمار: فقد تمت إزالة نصف حي غليل وحي بترومين، وكذلك أجزاء كبيرة من منطقة مدائن فهد وحي النزلة اليمانية والقريات وغيرها. وفي نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2022، تم قطع الكهرباء والماء عن منطقة الكندرة والهنداوية بهدف تسريع عملية الإخلاء. والهنداوية الآن تشبه مدينة أشباح جاهزة للهدم.
تثير الأحياء والمناطق المحيطة بجدة البلد جدالات منذ سنين. لقد اشتكت الصحافة السعودية من "التشويه البصري" في المدينة، بعد أن كانت قد أعلنت عن "الانتصار على العشوائيات"؛ وذكرت أيضًا أنَّ في هذه المناطق يتنشر تعاطي المخدِّرات والنشاطات الإجرامية.
ويُظهِر مقطع فيديو نشرته مؤخرًا إمارة منطقة مكة بهدف قبول أعمال الهدم شوارعَ موحلةً قذرةً وصوت صفَّارات إنذار ورجالًا بشرتهم سمراء يهربون من رجال الشرطة. وبحسب وثيقة صادرة عن أمانة المدينة وقد حصل عليها موقع قنطرة فإنَّ ثلاثة وستين حيًا أو ما يعادل نحو أربعين في المائة من مساحة مدينة جدة تعتبر عشوائيات: أحياء مبنية عشوائيًا من دون تخطيط أو "مناطق فقيرة" يجب تطويرها أو بالأحرى إزالتها.
يعمل المهندس المعماري السعودي عاطف الشهري باحثًا في مجال التنمية الحضرية في شبه الجزيرة العربية، وهو يرفض الحديث عن "العشوائيات" ويقول: "هذه المناطق نمت بشكل عضوي، وهي لا تتطابق ببساطة مع مبادئ التخطيط الحضري الحديث". وعلى العكس من شمال جدة، حيث يصطف المطعم الأنيق بجوار الآخر، يعيش داخل حلقة تحيط بجدة البلد عائلات دخلها منخفض.
لقد جاء أسلاف هذه العائلات من جنوب الجزيرة العربية ومنهم مَنْ هاجروا من القارة الإفريقية أو جاؤوا كعبيد إلى شبه الجزيرة واستقروا حول جدة، التي كانت في ذلك الزمان محاطة بجدار. ومنهم أيضًا من جاؤوا لأداء فريضة الحجّ ولكنهم استقرُّوا بشكل دائم خارج جدة، التي كانت تُستخدم كميناء لمكة الواقعة على بعد ثمانين كيلومترًا.
وفقط بعدما سقطت أسوار المدينة في عام 1947 وبدأ إنتاج النفط التجاري في المملكة العربية السعودية وانتقل المزيد من الناس إلى المدن، تم محو المنازل المحيطة بما يعرف اليوم بالبلدة القديمة من المنطقة الحضرية.
وحول ذلك يقول عاطف الشهري إنَّ الأزقة المتعرِّجة والملكية غير الواضحة جزئيًا ما تزال شاهدة حتى اليوم على النمو غير المخطَّط له. لقد نمت جدة بسرعة إلى مدينة عدد سكَّانها اليوم أربعة ملايين ونصف المليون نسمة. ويضيف أنَّ جدة القديمة كونها مدينة نمت تاريخيًا قد لا تكون "جذَّابة بما يكفي" للتنافس مع هندسة الزجاج والفولاذ المُعَوْلَمَة في دبي أو سنغافورة أو في هونغ كونغ، ولكنها مع ذلك فريدة من نوعها وتزخر بهويتها المحلية.
وفي عهد محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي منذ عام 2017، تم إهمال العشوائيات والأحياء الفقيرة المفترضة. وهو يدَّعي تحديث المملكة من خلال أجندته الإصلاحية "رؤية 2030". لقد أسكت منتقديه وجعل السلطة مركزية؛ وأنشأ في الوقت نفسه صندوق ثروة سيادية يبلغ حجمة مئات المليارات ويريد من خلاله جذب الاستثمارات وجعل الاقتصاد مستقلًا عن النفط. وضمن سياق الانفتاح الاجتماعي المُوجَّه، تم السماح أيضًا بسفر السيَّاح الأفراد إلى السعودية منذ عام 2019. والعشوائيات الموجودة في جدة لا تتناسب مع ذلك، لأنَّ جدة هي المدينة الرائدة المحتملة في السعودية (الرياض تقع في عمق الصحراء).
مساحة لمرسى ومنتجعات شاطئية مع أسواق
في شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2021، أعطى محمد بن سلمان شخصيًا إشارة الانطلاق للمشروع الكبير "جدة المركزي". وعلى العكس من المساحات المفتوحة الجديدة في الجنوب والشرق، والتي لا توجد لها مشاريع بناء معروفة، من المقرَّر أن يتم بناء مرسى ومنتجعات شاطئية مع أسواق على ساحل البحر الأحمر شمال البلدة القديمة، بالإضافة إلى أوَّل دار أوبرا في المملكة العربية السعودية وأستاد رياضي وكذلك "أوشناريوم" (حوض للأسماك).
ويضاف إلى ذلك سبعة عشر ألف وحدة سكنية وفنادق وكذلك "حلول متكاملة لقطاع الشركات". ومن المقرَّر أن تتم هنا إعادة بناء مساحة أكبر بكثير من منطقة سنترال بارك في نيويورك. لقد قدَّم صندوق الثروة السيادية تمويلًا لبدء العمل بقيمة ثمانية عشر مليار يورو من أجل تشجيع المستثمرين من القطاع الخاص على المشاركة في هذا المشروع. وقد عبَّر أحد المعلقين عن تحمُّسه الشديد لـ"جدة الجديدة".
"لا أحد ضدَّ التحديث"، مثلما يقول المهندس عاطف الشهري حول أعمال الهدم: "هذه الأحياء متداعية جزئيًا ومعدَّل الجريمة مرتفع فيها". ولكنه يخشى من أنَّ ما يتم بناءه في جدة سيكون خاليًا من أية هوية محلية. يجب على المرء أن ينظر فقط إلى المناطق المالية في سنغافورة أو هونغ كونغ، مثلما يقول: "هذا الشيء نفسه يحدث الآن في جدة. هنا يتم إنتاج مساحة بواسطة رأس المال". والسكَّان لم يلعبوا أي دور، إذ "يتم استبدال المجتمع بمطوِّرين رئيسيين".
يسود في الأوساط المطلعة خوفٌ من دفع جزء كبير من سكَّان المدينة إلى التشرُّد. لا يعرف كم عدد العائلات التي سيتم تعويضها. من المفترض أن يحصل كل مَنْ يستطيع إثبات ملكية الأرض على مال مقابل الأرض والعقارات - ولكن على الأرجح أنَّ القليلين يستطيعون إثبات ذلك: فبحسب أمانة المدينة، لا توجد وثائق ثبوتية إلَّا لأحد عشر في المائة من مساحة العشوائيات. زد على ذلك أنَّ نسبة غير السعوديين هنا تصل إلى سبعين في المائة.
نشرت أمانة المدينة في شهر كانون الثاني/يناير 2022 أرقامًا تبيِّن أنَّ هناك خمسمائة وخمسين أسرة تمت إعادة توطينها بشكل مؤقَّت. ومن المقرَّر أن يتم في هذا العام إنشاء نحو أربعة آلاف وثمانيمائة وحدة سكنية جديدة. لكن من غير الواضح ماذا سيحدث لمَنْ لا يستطيعون تقديم وثائق ثبوتية. "ما يزال تقييم وضعهم مستمرًا"، مثلما صرَّحت أمانة المدينة وقد أشارت إلى وجود منظمات وجمعيات خيرية (لمساعدتهم).
ولكن ليس جميع مَنْ يعيشون في العشوائيات فقراء. فقد لاحظ المهندس عاطف الشهري وجود "نزوح جماعي" وتدفُّق الناس إلى أسواق الإيجار والملكية. وهو يخشى من ارتفاع أسعار الإيجارات وكذلك من ظهور مشكلات في سوق العقارات في جدة، ويقول إنَّ "تدفُّق مشترين جدد إلى السوق قد يؤدِّي إلى أزمة مضاربات عقارية جديدة".
لقد لفتت أعمال الهدم انتباه المعارضين السعوديين في المنفى إلى هذا المشروع أيضًا. وفي هذا الصدد قال المعارض علي الأحمد في اتصال هاتفي من واشنطن العاصمة: "هم يسمون ذلك بالتحديث"، ولكن في الواقع الأراضي والمباني يتم شراؤها من الناس بأسعار بخسة أو تتم مصادرتها مقابل تعويضات ضئيلة، لكي يتمكَّن أفراد الأسرة المالكة والمقرَّبون منهم من بناء الفنادق.
ويضيف أنَّ ما كان لفترة طويلة حقيقةً واقعةً في أماكن أخرى يستمر الآن في جدة: "إذا نظرنا إلى مكة والمدينة يتَّضح أنَّ الأحياء التاريخية يتم هدمها من أجل بناء أبراج زجاجية وناطحات سحاب. ومحمد بن سلمان يريد تحويل جدة إلى شيء مثل دبي".
يانيس هاغمان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022