إبداع على أرض مضطربة

Two people in a corridor, facing away from eachother and looking at paintings hanging on the walls.
في بينالي اسطنبول الثامن عشر (20 سبتمبر/أيلول- 23 نوفمبر/تشرين الثاني)، تناولت الأعمال الفنية موضوعات العزلة والهشاشة والحرب على غزة. (Photo: IKSV | Mete Kaan Özdilek)

شهدت تركيا في سبتمبر/أيلول حدثين فنيين بارزين هما معرض إسطنبول للفن المعاصر، وبينالي إسطنبول الثامن عشر، حيث ابتكر الفنانون والمنظمون طرقًا وأعمال إبداعية لمواجهة الأزمة السياسية والرقابة المتزايدة.

تقرير: نعيمة مورالي

"هل نحن في دبي أم في إسطنبول؟" سألتني صديقتي، التي تعمل بجمع التحف الفنية، وهي تترجل من سيارتها الـ"بي إم دبليو" السوداء في منطقة ترسانة بعد ساعات من الازدحام المروري. كانت قد جاءت خصيصًا لحضور حدثين فنيين هما: معرض إسطنبول للفن المعاصر (25 - 29 سبتمبر/أيلول)، وبينالي إسطنبول الثامن عشر الذي افتتح في 20 سبتمبر/أيلول، وتقول: "هذا لا يبدو وكأنه إسطنبول على الإطلاق"، بينما كانت تعبر موقع الترسانة اللامع حيث أقيم المعرض، بجانب المستودعات التي أصبحت تضم الآن متاجر "ألو يوغا" و"غوتشي"، وبالقرب منهم، كان أطفال يحاولون لعب كرة السلة في ملعب أنيق للغاية، وخلفهم تتلألأ مياه القرن الذهبي.

بدا رد فعل الصديقة انعكاسًا للروح التي سعى لتقديمها علي غوريلي، منظم المعرض والفندقي السابق، في النسخة العشرين من معرض إسطنبول المعاصر، بأن يستهدف دول الخليج ويتماشى مع استراتيجياتها الثقافية لجذب السياحة والاستثمار. وتوقع غوريلي، خلال مؤتمر صحافي بالمعرض، "تحركًا نحو الشرق"، حيث تُعيد آسيا والشرق الأوسط تشكيل جغرافيا، كانت في السابق تحت سيطرة أوروبا وأمريكا.

بدوره أشاد بيير سيغ، من مؤسسة سيغ، شريكة المعرض، بـ"تراث" إسطنبول، معتبرًا إياه نقطة قوة فريدة، ومع ذلك، بدا موقع المعرض معزولًا في فقاعة فاخرة، منفصلًا جغرافيًا واجتماعيًا عن الحياة اليومية للمدينة التاريخية. كانت القصور والمساجد تتلألأ في الأفق، لكن الوصول إلى تيرسان كان يعني قطع مواقع البناء سيرًا على الأقدام أو التعثر في زحمة المرور، أما النقل البحري، الذي وعد به المنظمون، فلم يكن متاحًا. 

A corridor with paintings and sculptures laid out across the room.
"محاط بفقاعة فاخرة"؟ أقيم معرض إسطنبول المعاصر 2025 في تيرسان، وهو حوض بناء سفن سابق جرى إعادة تطويره. (Photo: courtesy of Contemporary Istanbul)

بدا المشهد وكأن المعرض حاول أن يحمي نفسه وزوّاره من الفوضى التي اجتاحت مؤخرًا أكبر مدن تركيا، وربما كان ذلك بمثابة استراتيجية للبقاء، فالقمع السياسي والرقابة جزءُ من الحياة الثقافية في تركيا منذ زمن، إلا أنهما تفاقما في الأشهر الأخيرة، إذ تُمنع الحفلات الموسيقية والعروض السينمائية ومسيرات الفخر بشكلٍ متكرر بحجة "الأخلاق العامة" المبهمة، بينما يواجه الفنانون والصحفيون، محاكمات بتهم "إهانة القيم الدينية" أو "تشويه سمعة الدولة".

فقد أشعل اعتقال زعيم المعارضة ورئيس بلدية إسطنبول السابق، أكرم إمام أوغلو، مارس/أذار الماضي، شرارة احتجاجات سلمية في جميع أنحاء المدينة، سرعان ما واجهتها الشرطة بالعنف. وكان دعم أوغلو، الصريح للقطاع الثقافي قد جعله شخصية محورية في المجتمع الإبداعي بالمدينة. كما لا يزال التضخم من بين أعلى المعدلات في العالم، مما يدفع الفنانين والعاملين في المجال الثقافي إلى حافة الهاوية، وتكافح العديد من المساحات المستقلة للبقاء دون تمويل حكومي، أو تُجبر على الإغلاق المفاجئ بذريعة مخالفات في التراخيص.

إسطنبول المعاصرة: الفن في عالمٍ غير مستقر

يسعى المعرض، في ظلّ هذه الظروف، إلى إبراز صورةٍ من الثقة والمرونة، وصرّح غوريلي: "لقد اعتبرنا معرض إسطنبول المعاصرة منصةً لعرض المشهد الفني المتطور، ونقل صورة إيجابية عن بلدنا للعالم، وتعريف فنانينا المتميزين بعالم الفن العالمي".

وجرى تقديم حوافز قوية لجذب الجامعين والمعارض الدولية إلى المدينة، شملت تغطية رسوم الجمارك للأعمال الفنية، والنقل من مطار إلى مطار عبر الخطوط الجوية التركية، وفنادق برعاية المعرض للجامعين، يشرح غورلي قائلاً: "الأمر يتعلق بميزانيات أفضل للمعارض، وأيضًا بمكانة إسطنبول رمزيًا كمضيف لا يدخر جهدًا".

يقول المدير الفني للمعرض، سارب كرم يافوز: "لا أحد يعلم إلى أين يتجه العالم"، وبدلاً من تجنب عدم اليقين، دعا الفنانين إلى التعامل معها والانخراط فيها، وقد جمع برنامج استمر يومين، بعنوان "إحداثيات مُعطّلة: إسطنبول ومشهد الفن المتغير"، 25 متحدثًا لمناقشة الفن الرقمي، وأخلاقيات جمع الأعمال الفنية، والفن في أوقات الأزمات.

وقد كثرت الأعمال الفنية التي تناولت الوضع الجيوسياسي الدولي، لكن عند التطرق إلى القمع الذي شهدته إسطنبول مؤخرًا، تجنبت المعارض الانتقاد المباشر، مفضلةً بدلاً من ذلك أساليب أكثر تلميحًا ومواربة.

إذ عرضت آنا لوديل، حقيبة بلال هاكان كاراكايا المهترئة المليئة بشظايا الزجاج الملون من محطة قطارات سيركجي بأسطنبول، نقطة انطلاق "العمال الضيوف" الأتراك المتجهين إلى ألمانيا في سبعينيات القرن الماضي. وعرض معرض ريفولفر أعمال خوسيه كارلوس مارتينات المستخرجة من جدران أمريكا الجنوبية من الجرافيتي. وأظهرت إحدى اللوحات شخصية "شوليتا"، رمز مقاومة السكان الأصليين في بوليفيا. 

وترى أزرا توزون أوغلو، مديرة معرض بايلوت، أن تركيا تواجه خطر فقدان الاهتمام الدولي، قائلة: "الجمهور الدولي أقل اهتمامًا بتركيا حاليًا، وهذا أمر مؤسف بعض الشيء، لأنني أعتقد أننا نفقد هذه القوة".

مع ذلك، أصرت توزون أوغلو، على أن عالم الفن في إسطنبول لا يزال يسمح بنقاشاتٍ مُهمَلة في أماكن أخرى، مثل الدعم العلني لفلسطين، وبينما تزداد بعض المواضيع تحريمًا، فإنه لا يزال هناك مجال للفنانين الذين يستطيعون التعبير عن آرائهم ببراعة وذكاء: "هنا، ربما لا يُمكنك التحدث عن الدين، وربما لا يُمكنك عرض أعمالٍ مُغايرة، لكننا لا نزال نُقدّم الكثير من الفنانين [المغايرين]. تحت الضغط، يُمكنك دائمًا إيجاد طرقٍ أخرى للتعبير عن نفسك".

بينالي إسطنبول: عودة منتصرة وسياسية

إذا كان معرض الفن المعاصر قد أظهر صمود سوق الفن في إسطنبول أمام التحديات، فقد أكد البينالي، قدرة المؤسسات على النهوض من عثراتها، بعد أن كانت الدورة الثامنة عشرة قد تأجلت بسبب جدل تعيين إيفونا بلازويك منسقة للمعرض، رغم دورها في لجنة الاختيار، وتبع ذلك اتهامات بالمحسوبية وسوء الإدارة؛ ووقّع المئات على رسالة مفتوحة. واستقالت بلازويك في يوليو/تموز 2023، وتم تأجيل البينالي إلى عام 2025، وواجهت مؤسسة إسطنبول للثقافة والفنون (İKSV) أزمة قانونية. 

لإعادة بناء الثقة، عيّنت مؤسسة İKSV المنسقة اللبنانية كريستين طعمة، كمنسقة للبيناني ضمن عملية إعادة هيكلة تمتد لثلاث سنوات (2025-2027). واستقطب افتتاح المعرض في سبتمبر/أيلول، حشودًا كبيرة من الشباب في أماكن مختلفة في تقسيم وبيرا وميناء غلاطة. 

تساءلت طعمة، وهي مؤسسة معهد الفن المعاصر "أشكال ألوان" في بيروت، عن كيفية تصور المجتمعات للبقاء على قيد الحياة في ظلّ انعدام الاستقرار الذي يسود الحياة اليومية، فأجاب البينالي بأعمال تجمع بين المرح والجدية. وكما هو الحال في المعرض، ركز البينالي على القضايا الدولية أكثر من المحلية، وبشكل كبير على غزة والإبادة الجماعية - التي أقرّ بها كبار علماء الإبادة الجماعية وعدد من المنظمات الدولية- من خلال العديد من الأعمال الفنية المؤثرة، من بينها عمل للفنان الفلسطيني سهيل سالم، الذي ملأ دفاتر توثّق الإبادة الممنهجة التي تعرضت لها غزة.

وكان أحد أكثر الأعمال المثيرة للمشاعر هو عمل منى بنيامين بعنوان "غدًا، مرة أخرى" (2023)، وصُمم العمل على شكل نشرة أخبار، حيث تبادل رجال الشرطة عبارات فارغة مثل: "لقد فعلها" و"لم يفعلها"، بينما انفجر مذيع الطقس بالبكاء. واستكشف العمل كيف يتم اختزال فلسطين في الإعلام غالبًا إلى مجرد خطاب: إبادة جماعية تتنكر في شكل نقاش حتى تنهار اللغة نفسها.

A female newsreader facing the camera and crying
لقطة من فيلم منى بنيامين لعام 2023 بعنوان ”غدًا، مرة أخرى“. (Photo: İKSV | Sahir Uğur Eren) Still from Mona Benyamin's "Tomorrow, again", 2023. Single-channel video, 16:9, colour, 11 min, stereo. Commissioned by The Mosaic Rooms/A.M. Qattan Foundation. (Courtesy of the artist)

كما جرى تناول القلق الاجتماعي والعزلة عبر أعمال ووسائط متعددة، فقد حملت ألواح الأسمنت لفالنتين نوجايم وجوهًا وأصواتًا مسحوقة تذكّر بليالي الفقد في فيلم "لا ديفانس في باريس"، بينما جسّد عمل كريمة أتشاود "فتى الآلة" حياة سائقي الدراجات النارية في لاغوس. وكان العمل الأبرز في هذا السياق هو كومة "motherboards"، وهي عبارة عن لوحات كومبيوتر، لسلمى سلمان، التي جُمعت ووضعت بجانب ملعقة ذهبية، ليصوّر بشكل رمزي كيف يزدهر 1% من الناس على حساب نفايات الـ99% الأخرى.

دمجت أعمال أخرى، النقد في رموز يومية، إذ صمّم عبد الله السعدي، نعال من الحجر والبلاستيك، ليشبه الصنادل الهشة، لكنه يحمل ثقل النفي والاغتراب، أما سلسلة "الهرم" لستيفاني سعدي، فقد رتبت الملابس من مقاسات الأطفال إلى البالغين، لتُعبر عن النمو والذات المتروكة أو المهملة.

كما نجح البينالي في الجمع بين الحزن واللعب، وفتح مساحة للتعبير عن ما لا يُقال، ومثل المعرض، لم يواجه التحوّل الاستبدادي في تركيا بشكل مباشر، بل فعل ذلك بشكل غير مباشر، من خلال وضع إسطنبول في سياق عدم الاستقرار العالمي، وإظهار إرادة قوية لدى الفنانين للمقاومة والتعبير عن أنفسهم رغم الظروف المتوترة.

Two stones with rubber straps so that they resemble flip-flops.
"نعال حجرية" للفنان عبد الله السعدي. (Photo: İKSV | Sahir Uğur Eren)

 

عند مغادرتنا أحد مواقع البينالي، تناولت أنا وصديقتي وجبة كباب في زقاق، ثم نزلنا نحو ميناء غلاطة. كانت تأكل بشراهة، جائعة لما هو أكثر من الطعام نفسه؛ للصخب، والضوضاء، وحيوية إسطنبول، وقبل أن تلتفت عند الزاوية، رفعت نظرها ورأت جملة منقوشة على "غاليري 77" للفنانة ديليك وينشستر، مكتوبة بأحرف لاتينية متداخلة مع العربية والعبرية والأرمنية واليونانية.

لم تستطع قراءته كاملاً آنذاك، لكننا علمنا لاحقًا أنه يعني: "يبدو-كأن-المغرورين-يتصرفون-كما-لم-يُقال-شيء-قبلهم". هل كان هذا عن إسطنبول، أو تركيا، أو حال العالم؟ ربما تكون الإجابة شيئًا يحدده المرء كما يشاء. 

قنطرة ©