رسالة أمل لمسيحيي بلاد الرافدين
تسارعت جهود العراق في إعادة بناء الكنائس التي دُمرت على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" ، لعلها تبعث برسالة أمل لمسيحيي بلاد الرافدين للعودة إلى ديارهم والشعور بالأمان في بلادهم.
لم يعد القبر الأبيض والذي تم طلاؤه حديثا ويضم في منتصفه صليبا أحمر اللون وسط أنقاض مقبرة دير مار جرجس (القديس جاورجيوس) الكلداني في الموصل، رسالة باستمرار الوجود المسيحي في بلاد الرافدين فحسب وإنما أيضا رسالة أمل ومثابرة بعد حقبة "داعش" الظلامية.
وخلال تلك الحقبة، دمر مسلحو "داعش" المقبرة والدير إبان سيطرتهم على مدينة الموصل عام 2014 فيما ساعدت المساعدات المالية التي قدمتها الولايات المتحدة في إعادة بناء الدير وأيضا دير الربان هرمزد للطائفة الكلدانية في أطراف المدينة والذي يرجع تاريخه للقرن السابع الميلادي
وفي محاولة لتذكير العالم بما وقع خلال سيطرة داعش على المدينة، قال الرئيس العام للرهبان الكلدان سامر يوحنا إن داعش استخدم الدير "كموقع لسجن الإيزيديين فيما تحولت إحدى قاعات الرهبان إلى مسجد. وقام مسلحو داعش بصهر التمثال النحاسي للقديس جورج".
وفي مقابلة مع دي دبليو، قال إن رهبان الدير تمكنوا لحسن الحظ من مغادرة الدير ليلة استيلاء داعش على الموصل في يونيو / حزيران عام 2014 حاملين معهم مخطوطات قديمة نفسية، مضيفا أن داعش قام باستجار شخص لإزالة الرخام من الدير الذي يقع على قمة تل. وقال "لقي هذا الرجل حتفه بعد أن استخدم متفجرات لإزالة الرخام"، مشيرا إلى أن الإساءة إلى الدير لم تتوقف حتى بعد دحر داعش عام 2017.
وأضاف "قام مدنيون بسرقة ما تركه تنظيم داعش وراءهم بعد التحرير"، مؤكدا أن الأمر ترك حزنا في قلبه لأن الدير يمثل الكثير له حيث كان يقصد الدير منذ أن كان صبيا كما دفن والده وشقيقته في المقبرة التي تعرضت للتخريب.
في عام 2017، دمر مسلحو داعش دير مار جرجس في الموصل والمقبرة المجاورة. وحاليا، يأخذ سامر يوحنا على عاتقه مهمة الإشراف على إعادة بناء الكنائس التي تم تدميرها على أيدي مسلحي داعش والتي وصل عددها إلى ما لا يقل عن 14 كنيسة من مختلف الطوائف المسيحية في محافظة نينوى وحدها.
تناقص أعداد المسيحيين
وكحال العديد من مسيحيي العراق، قررت عائلة سامر يوحنا الرحيل حتى قبل سيطرة داعش على الموصل عام 2014.
الجديد بالذكر أن أعداد المسيحيين في العراق تضاءلت بشكل كبير خلال السنوات التي تلت سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين من حوالي 1.5 مليون إلى 400 ألف. وفي الموصل، وصل عدد المسيحيين إلى 350 شخصا عقب سيطرة داعش بعد أن كان عددهم يبلغ 24 ألفا قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وقال سامر إن قداس يوم الأحد يُقام في كنيسة واحدة حيث يرأس الصلاة كاهن، مضيفا "هذا يكفي للمدينة بأسرها، لكن يُجرى ترميم كنائس أخرى في الغالب بمساعدات خارجية."
أما رئيس أساقفة الكلدان في الموصل، المطران نجيب ميخائيل، فقال إن مسؤولين عراقيين وضباط من الجيش وعددا من المدنيين حضروا الاحتفال باعادة ترميم كنيسة دير القديس جاورجيوس، مشيرا إلى أن مسلمي المدينة من تولوا تنظيف الكنائس بعد انسحاب داعش.
وأضاف ميخائيل أنه شارك في افتتاح كنيسة الرسول بولس في الموصل رسميا قبل افتتاحه كنيسة دير القديس جاورجيوس، مؤكدا أن "عملية بناء الجسور ليست أمرا سهلا، لكني على ثقة بأن الموصل ستصبح في أفضل حال مما كانت عليه في السابق".
رسالة أمل
تذكر الأسقف ميخائيل نصيحة البابا فرانسيس له خلال زيارته التاريخية إلى الموصل بضرورة "العمل بإخلاص لجعل الموصل أفضل وأكثر أمانا"، مضيفا "نريد عودة المسيحيين طواعية".
يشار إلى أن البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، قد زار مدينة الموصل في مارس / آذار العام الماضي 2021 حيث تفقد مناطق خضعت لسيطرة تنظيم داعش شمالي العراق فيما حظيت الزيارة بترحاب كبير من كافة الأطياف العراقية.
وجاءت زيارة البابا فرنسيس بمثابة بارقة أمل لمسيحيي العراق في ظل تراجع أعدادهم بشكل كبير وهو الأمر الذي لم يلقِ بظلاله فقط على المجتمعات المسيحية في العراق وإنما على سائر أطياف المجتمع.
وفي ذلك، قال المطران ثابت حبيب إن بعض هذه الكنائس تعود إلى القرن الخامس وباتت جزءا من تراث نينوى، مؤكد أن هذا التراث لا يخص فقط المسيحيين لذا فإن إعادة بناء هذا التراث يعني إعادة بناء المجتمع بأسره".
التنوع مصدر قوة
وشدد المطران حبيب على أهمية استعادة الموصل لتنوعها التاريخي حتى يعيش المسلمون والمسيحيون والإيزيديون في سلام، مضيفا أن "هذا التنوع من شأنه أن يبعث برسالة قوية ضد الإرهاب وضد داعش. إذا عاد المسيحيون فإن هذا سيؤكد أن العراق بات آمنا ليس فقط للمسيحيين وإنما أيضا للمسلمين".
وقال إن قرابة 1200 أسرة مسيحية كانت تعيش في بلدة كراملش القريبة من مدينة الموصل قبل ظهور تنظيم داعش، مضيفا أنه لم تعد سوى 190 أسرة مسيحية.
ورغم ذلك، فقد أكد المطران حبيب على أنه لا يمكن إرغام مسيحيي العراق على العودة، لكنه أشار الى أن التاريخ يثبت عودة المسيحيين إلى ديارهم مرات كثيرة عبر التاريخ، مضيفا "بعد الدمار، كنا نعود من أجل المساهمة والمشاركة في إعادة البناء".
وسلط المطران الضوء على أن العراقيين من كافة الأطياف يرغبون في محو آثار داعش وحقبته الظلامية، مؤكدا أن العراقيين "يريدون محو الماضي، فهم يشعرون أن الذكريات المؤلمة تجعلهم يشعرون بالسوء."
ويبدو أن هذا وراء السبب في أن الدعوة لإنقاذ قبة كنيسة القديس جورج لم تلقَ الكثير من الدعم إذ اعتقد كثيرون أن المهم إصلاح الضرر أكثر من تذكير أنفسهم بأن عليهم البحث عن سبل لمعاقبة من كان وراء إتلاف القبة.
وربما كان هذا السبب أيضا وراء قرار الأسقف في الاحتفاظ ببرج الساعة داخل الكنيسة كما تركه مسلحو داعش، رغم أنه أعاد بناء الكنيسة في كراملش إذ أن هذا يذكر طائفته بالمصير الذي نجت منه وأيضا يذكرها بقدرتها على البقاء والنجاة.
المصالحة.. قضية حاسمة
وفي سياق متصل، أكد سامر يوحنا على ضرورة بقاء المسيحيين في العراق، مضيفا من المهم القضاء على تصور مفاده بأنه قد حان الدور على المسيحيين للرحيل عن العراق كما رحل اليهود عن بلاد الرافدين في القرن الماضي.
وقال "كان اليهود جزءا مهما من الموصل مثل المسيحيين. ومن أجل منع التاريخ من تكرار نفسه، يجب أن تشكل المصالحة أهمية قصوى في العراق".
وأضاف "نتحدث عن العلاقات بيننا وبين المسلمين، لكن الجروح لم تلتئم بعد. المسلمون عانوا كثيرا أما نحن فلم نفقد سوى ممتلكاتنا".
وبسبب الوضع في الموصل، بدأ العديد من المسيحيين ممن كانوا يعيشون في نينوى فصلا جديدا من حياتهم -حياة جديدة- في إقليم كردستان العراق خاصة في مدينة عنكاوا ذات الاغلبية المسيحية في أربيل عاصمة الإقليم لدرجة أن سامر يوحنا يتواجد في المدينة داخل دير بُني مؤخرا يستضيف قساوسة كلدانيين فروا من بغداد والموصل.
واعترف يوحنا بأن العديد من المسيحيين لا يزالون يخشون عودة شبح العنف إلى الموصل، مضيفا "إنهم يعودون إلى الموصل فقط من أجل العمل حيث لم ينتقلوا للعيش إليها بعد. أولئك الذين عادوا هم رجال أعمال أو مزارعون أو أشخاص يعملون على إنجاز معاشات التقاعد وفي الغالب يكون لديهم أطفال".
وإزاء هذا الوضع، يؤكد يوحنا على ضرورة أن يصبح رجال الكنيسة القدوة في العودة والمشاركة في جهود إعادة البناء من أجل بث الأمل، مضيفا "نسبق الناس في العودة، يمكننا أن نقول للناس اذهبوا أنتم وأُعيدو البناء وسوف ننضم إليكم لاحقا، لكننا نرفض ذلك إذ يجب أن نقوم بهذه الخطوة معا".
وقال إنه يتفق مع ما أكد عليه البابا فرنسيس قبيل مغادرته العراق عندما شدد على أنه رأى خلال زيارته "كيف أن الكنيسة تعيش في العراق".
وفي هذا الصدد، قال يوحنا "أمي ترغب في أن اشتري لها منزلا في عنكاوا. وقد قامت أختي بزيارتي خمس مرات. يمكن للمجتمع أن ينمو مرة أخرى، لكن إذا لمس الناس أملا في العودة".
يوديت نويرينك ـ الموصل / العراق
ترجمة: (م ع/ع.ج.م)
حقوق النشر: دويتشه فيله 2022