21 مليون قنبلة مدفونة في الرمال

تعاني مصر حتى اليوم من آثار الحرب العالمية الثانية، إذ ثمة منطقة واسعة في الصحراء ما زالت ملوثة بالألغام التي تنفجر بالمئات من الناس كل عام. تقرير كتبه فريدريك ريشتر.

اندلعت قبل 65 عاما إحدى كبرى معارك المدرعات التي شهدتها الحرب العالمية الثانية وذلك بين جنود فيلق أفريقيا الألماني بقيادة روميل وقوات الحلفاء في العلمين الواقعة في شمال غرب الساحل المصري. وما زال المحاربون القدماء يفدون حتى هذا اليوم سنويا من كافة أنحاء العالم إلى العلمين لإحياء ذكرى الجنود الذين لقوا مصرعهم في تلك المعركة.

عون إنساني ألماني

أما الضحايا المعاصرون لتلك المعركة فإنهم لا يلقون إلا قدرا أقل كثيرا من العناية. فقد خلفت القوات آنذاك وراءها قرابة 21 مليونا من القنابل التي قذفتها الطائرات وقنابل المدفعية والألغام البرية. ولا أحد يعلم اليوم في أي اتجاه حركت رمال الصحراء تلك الألغام.

ما زالت منطقة تبلغ مساحتها 2800 كيلومتر مربع تعاني حتى اليوم من هذا التلوث الذي سببته الألغام وهي تمتد مسافة 30 كيلومترا بين العلمين الواقعة على بعد 60 كيلومترا تقريبا غربي الإسكندرية والحدود المصرية الليبية. أغلب هذه المنطقة يعيش فيها بدو رحل كثيرا ما وقعوا ضحية لانفجار الألغام.

بناء على تصريحات وزارة الخارجية الألمانية في برلين فإن ألمانيا لا تتحمل وفقا للقانون الدولي مسؤولية إزالة الألغام التي زرعت في مصر إبان الحرب العالمية الثانية. لكن الوزارة تضيف بأن ألمانيا قد عرضت على الجانب المصري مرارا وتكرارا استعدادها لتقديم العون الإنساني لمصر كتزويدها بالخرائط المتعلقة بمواضع زرع الألغام أو تقديم أجهزة الكشف والرصد المعدنية.

دور الحكومة الهامشي

لم تصرف الحكومة المصرية اهتمامها بهذه المشكلة إلا ابتداء من عام 1982. يبرر ذلك فتحي الشاذلي مدير البرنامج القومي لتطوير الساحل الشمالي الغربي بصريح العبارة فيقول:

"يعود هذا الأمر إلى مسألتين اثنتين هما ارتفاع التكلفة وأجندة الأولويات". كما أنه يشير في هذا السياق إلى التاريخ المصري المعاصر وانشغال مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بمساعي نيل الاستقلال ومن ثم بحروب أربع اندلعت بينها وبين إسرائيل. على الرغم من ذلك فقد كان على مصر أن تبدي اهتماما أسرع بقضية الألغام.

بلغ عدد ضحايا انفجار الألغام منذ عام 1982 بناء على معلومات المنظمة غير الحكومية Landmine Monitor "رصد الألغام البرية" 8313 شخصا لقي 619 منهم مصرعهم. لكن هذه المسألة المتعلقة بأوضاع المواطنين المصريين لا تلعب بالنسبة لحكومتهم إلا دورا هامشيا، الأمر الذي يراقبه المرء دوما إزاء وقوع نكبات الطبيعة وغيرها من الكوارث في مصر.

لقد أزال الجيش المصري في الفترة الواقعة بين 1982 و1999 حوالي 3،5 مليون قطعة عتاد، أما بعد ذلك فقد أدى العجز المالي بناء على المعلومات الرسمية نفسها إلى خفض تلك العمليات على نحو جوهري. هنا يرى القطاع الأهلي بأن الجهات الرسمية قامت بهذه المهمة على نحو بطيء للغاية مما تطلب من بعض أصحاب الفنادق وشركات البترول القيام على تكلفتها الخاصة بإزالة الألغام من أجل شق الطرق الضرورية لتنفيذ مشاريعها.

برنامج للأمم المتحدة

تم في عام 2000 إنشاء لجنة قومية معنية بإزالة الألغام، وقد تطلبت مشاركة عدد كبير من الوزارات والهيئات الرسمية الأخرى في أعمالها تعديل أجندة أعمالها على نحو متواصل، لكنها ظلت على حالها أي مفتقدة في الأغلب لفاعلية الأداء. لم ينجم عن أعمالها ما يستحق الذكر إلى أن أبرم "برنامج الأمم المتحدة المعني بالتنمية" UNDP في نوفمبر/تشرين الثاني 2006 اتفاقية مع الحكومة المصرية حول تطوير الساحل الشمالي الغربي لمصر.

بناء على هذه الاتفاقية تقرر إعداد استراتيجية جديدة للمرحلة الأولى من مراحل التنفيذ حتى صيف عام 2007 الحالي. كما تقرر في مرحلة ثانية تستغرق عدة سنوات القيام بأعباء العملية الرئيسية أي إزالة الألغام. وللمرة الأولى أصبح عنصرا توعية السكان وتقديم الحماية لضحايا الألغام جزءا لا يتجزأ من البرنامج.

لكن السؤال الرئيسي ما زال عالقا وهو: من سيتحمل تكاليف هذا المشروع؟ فحتى بالنسبة للمرحلة الأولى نفسها ما زال هناك نقص مالي يبلغ 1،1 مليون دولار أمريكي. أما بالنسبة لتكاليف إزالة الألغام بكاملها فيقول الشاذلي إنها ستبلغ بناء على تقديرات الجيش المصري قرابة 250 مليون دولار.

لكن هذا المبلغ لا يعدو كونه جزءا ضئيلا جدا من مجموع التكاليف التي سيتطلب الأمر استثمارها في مشاريع البنية الأساسية والتنمية الاقتصادية في مرحلة ما بعد التخلص من الألغام. يضيف الشاذلي بقوله "التحدي الحقيقي يتعلق بموضوع تنمية المنطقة".

الألغام والسياحة

وفي هذا الأمر تعتمد مصر اعتمادا كاملا على المانحين الدوليين. ولكن مما يلاحظ هو أن الشاذلي لم يعد يلجأ على عكس الحال لدى العديد من الأطراف المعنية في مصر إلى استخدام الحجة القائلة بكون ألمانيا وغيرها من الدول التي شاركت في معارك الحرب العالمية الثانية تتحمل المسؤولية الكبرى في هذا السياق، قائلا:

"لم تعد قضية المسؤولية الدولية تلعب دورا ما بالنسبة لي، فقد بدأت أتحدث مع كافة الجهات الراغبة في تكريس حالة ازدهار لمصر".

الحجة التي يستخدمها الشاذلي هي كالآتي : تعيق الألغام تنمية جزء هام من مصر، فبناء على تقديرات وزارة التعاون الدولي لا يمكن الوصول إلى حوالي 22 % من أراضي مصر بسبب تلوثها بالألغام والعتاد الحربي. وحسب أقوال الشاذلي توجد في تلك المناطق الملوثة قرابة 4،8 مليار برميل نفط و3،8 مليار متر مكعب من الغاز.

يأتي بالإضافة إلى ذلك أن عملية إزالة الألغام كفيلة بتوفير 1،85 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للأغراض الزراعية، وهو أمر مهم نظرا لتواصل انخفاض مساحة الأراضي الزراعية في مصر. الأهم من ذلك أن الساحل الواقع في شمال غرب مصر يحتل موقعا مركزيا داخل الاستراتيجية السياحية لمصر نظرا لكثافة البناء الارتجالي وغير المبني على قواعد التخطيط على سواحل البحر الأحمر وفي شبه جزيرة سيناء.

إذ توجد في السواحل الواقعة في شمال غرب مصر بعض الشواطىء الني تعتبر من أجمل ما يماثلها في حوض البحر الأبيض المتوسط كما أن الكثير منها ما زال غير مستخدم بعد. وقد اشترت شركة البناء الإماراتية "إعمار" في العام الماضي بالقرب من "سيدي عبد الرحمن" عقارا بتكلفة بلغت 1،74 مليار دولار من أجل إنشاء مدينة متكاملة للسياح هناك.

فرص عمل جديدة

في هذه المنطقة التي يعيش فيها اليوم 70000 إلى 100000 نسمة يمكن بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة توفير 380000 فرصة عمل جديدة. وبناء على الخطة القومية لتنمية الساحل الشمالي الغربي بالإمكان أن يعيش هناك في عام 2022 عدد من السكان يبلغ 1،5 مليون. تريد الحكومة المصرية النهوض بهذا المشروع خاصة وأن الرغبة تحدوها في توطين عدد كبير من السكان المقيمين حاليا في دلتا النيل في مناطق واقعة في أطراف البلاد.

لكن المانحين الدوليين ما زالوا يترددون حيال تقديم الدعم اللازم لمصر، وهذه الحال لن تغيرها الحجج الجديدة المستخدمة لا سيما وأن الحكومة المصرية نفسها لم تحقق في هذا السياق حتى الآن إلا القليل. كان الشاذلي قد دعا في بداية شهر مايو/أيار الماضي شركات دولية متخصصة في إنتاج أجهزة إزالة الألغام إلى القاهرة بغرض اختبار أجهزتها.

إن الهدف من وراء ذلك جعل الجيش قادرا على مواصلة عملياته الرامية إلى إزالة الألغام على النحو المعتاد بدلا من تكليف القطاع الأهلي بذلك مع أنه الأفضل أداء وفاعلية بالتأكيد فيما يختص بتبوء هذه المهمة.

كان من المشاركين في الاختبارات التي جرت إريك توليفسين التابع لمركز جنيف الدولي لإزالة الألغام خدمة للإنسانية والذي خرج بانطباع طيب حيال روح الحوافز والمقدرة المهنية لدى الحكومة المصرية كما أنه رأى بأنه من الصواب أن يبقى الجيش مكلفا بإزالة الألغام في الوقت اللاحق:

"من الأهمية بمكان أن يتواجد شريك قومي قوي وهذا ما ينطبق على الجيش المصري حيث أنه يتمتع بسمعة عظيمة في أوساط كل من المجتمع والإدارة الحكومية". على الرغم من ذلك فإن توليفسين يرى بأن على الحكومة المصرية أن تحقق في المستقبل انفتاحا لبرنامجها هذا نحو المنظمات والشركات التابعة للقطاع الأهلي.

أسباب ذلك أن التجارب الدولية تدل على أن احتكار جيش دولة من الدول للبرامج المعنية بإزالة الألغام يشكل حالة استثنائية وليس القاعدة المعمول بها بوجه عام. وقد اقتنعت في هذه الأثناء كل من تركيا والأردن بجدوى مشاركة المنظمات الدولية غير الحكومية في هذه الأنشطة.

حيث أن إزالة الألغام بناء على دوافع محض إنسانية يخضع لمتطلبات أقسى وأصعب كثيرا من عمليات إزالة الألغام المتسمة بالصفة العسكرية. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن الشركات الأهلية والمنظمات غير الحكومية تتسم في تعاملها مع المانحين الدوليين بمقدار أكبر بكثير من الشفافية مقارنة بالجهات الرسمية.

الأهم من ذلك أن نهج مصر حيال إزالة الألغام ليس بذلك المثل الذي يحتذى به. فهي لم توقع على اتفاقية أوتوا لمحاربة الألغام المبرمة في عام 1997. وأسباب ذلك هو التصلب الفائق المخيم على التدابير الأمنية للجيش المصري، فمن الجيش لا يصل إلى الخارج إلا القليل من المعلومات كما أنه يتصدى من وراء الكواليس لأية محاولة قد تؤدي إلى المساس بصلاحياته. لن يتنازل الجيش عن صلاحيات تستحق هذه التسمية خاصة وأن طلباته المتعلقة بالتجهيزات المرتفعة سعرا تأتي بفرص حافلة بالإغراء.

فريدريك ريشتير
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2007