شيطنة التنوير ومعركة التغيير

قبل عشرين عاماً أصدر الخميني فتواه ضد سلمان رشدي، مؤلف رواية "الآيات الشيطانية". وفيما ظل الكاتب البريطاني الهندي الأصل منتقداً لسلطة الدين، إلا أنه يحتج أيضاً وبأعلى صوته على التمييز الذي يُعامل به المسلمون. لويس غروب يلقي الضوء على هذا الكاتب الذي استطاع رغم كل شيء الحفاظ على استقلالية أحكامه النقدية.

عندما أصدر آية الله الخميني في الرابع عشر من فبراير (شباط) فتواه ضد سلمان رشدي، أثار في إنكلترا أحداثاً تعدت في دراميتها حكم الإعدام الإيراني نفسه. آنذاك انطلق المهاجرون من شبه القارة الهندية، الذين كان رشدي ينشط أدبياً واجتماعياً من أجلهم، انطلقوا إلى شوارع لندن وبرمنغهام يحرقون كتبه ويطالبون برأسه وهم في قمة الغضب. أما المرأة التي راح رشدي لسنوات ينتقدها أعنف انتقاد في مقالاته فقد وضعت يدها الحامية فوق رأسه.

كان سلمان رشدي، المولود في بومباي بالهند، قد حصل على الجنسية البريطانية عام 1964، وإثر صدور الفتوى أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر أن الدولة لن تسمح بأي اعتداءات على مواطنيها.

لا أحد يستطيع اليوم أن يتخيل كيف كانت "المرأة الحديدية" هدفاً لكراهية الفنانين والمثقفين اليساريين، غير أن تاتشر كانت تدافع في تلك الحالة، التي مثلت اختباراً لها، عن مبادئ حرية الفن وحرية التعبير عن الرأي. كان رشدي يعتبر نفسه حتى ذلك الوقت مثقفاً يسارياً نقدياً وخصماً للدولة والحكومة، ولذلك فإن الفتوى لم تحرمه من الحياة في حرية فحسب، بل سلبته أيضاً وطنه السياسي.

"وكأنها تحيات إسلامية في عيد الحب"

ذهب رشدي إذن ليعيش متوارياً عن الأنظار تحت حماية خصومه القدامى، مَمثلين في المخابرات البريطانية، ترافقه الشماتة والسخرية من جانب رفقاء الطريق السابقين. كان ينام في شقق من دون نوافذ، وكل بضعة أسابيع يغير مقر إقامته. كان كثيراً ما يستيقظ من نومه ولا يعرف في أي مدينة هو. في تلك الأثناء انتقل رشدي ليعيش في نيويورك. صحيح أنه لا يستطيع أن يستغني عن الحماية الشخصية، غير أنه لم يعد يتسلم تهديدات دورية في ذكرى إصدار الفتوى وكأنها "تحيات إسلامية في عيد فالانتاين" على حد قول رشدي.

غير أن الأزمة العالمية التي أثارتها رواية رشدي آنذاك، قبل عشرين عاماً، فقد أظهرت على نحو درامي السلطة التي يتمتع بها الأدب. خلال النزاعات الدموية لقي المئات مصرعهم، كما هوجمت بالقنابل عدة مكتبات قامت بعرض الرواية؛ أما مترجم الرواية إلى اليابانية فقد تم اغتياله، بينما تلقى زميله التركي، عزيز نيسين، تهديدات عنيفة.

هذه الأحداث التراجيدية ألقت بظلالها على "آيات شيطانية" وحجبت عن الناس كونها إحدى أعظم الروايات في القرن العشرين. الرواية الرابعة لسلمان رشدي كانت قد حصلت جائزة "وايت بريد لأفضل رواية في العام"، كما وصلت إلى القائمة النهائية لجائزة "بوكر" المهمة. ولكن، بعد صدور الفتوى كان منح الرواية جوائز أدبية أخرى يعني تهديداً خطيراً لكل من يشارك في التكريم. ولهذا السبب لم يلتفت أحد بحق إلى الأهمية الأدبية لهذا العمل الفني المركب الذي ظُلم ودخل غياهب النسيان.

انتقام شخصي من الخميني؟

ما زالت الشائعات تتردد وتصر على القول بأن الخميني لم يصدر فتواه لأسباب دينية أو سياسية فحسب، بل ربما كان دافعه الانتقام الشخصي من رشدي، فالصورة المنفرة التي رسمتها الرواية للإمام المنفي في الغرب تحيل بلا شك أو لبس إلى قائد الثورة الإيرانية.

كان رشدي قرأ مقال الخميني عن "طبيعة الماء" ووجد أن مصطلح "الطهارة" الوارد في المقالة يمثل نقيضاً لتصورات رشدي عن المجتمع المفتوح المتعدد. بدلاً من أن يرسم صورة فاقعة ومبالغا فيها للمتطرف الديني، قرر رشدي أن ينزع القناع عن الوحشية القاسية التي تتوارى وراء تصور الخميني عن العالم، أما الوسيلة التي استخدمها فكانت البورترية النفسي الذي قدمه عن الخميني في الرواية – وهو ما اكتسب مصداقية واستمرارية أكثر من أي صورة كاريكاتورية أخرى.

الأدب في مواجهة الإدعاءات بوجود حقيقة مطلقة

ما أثار الحفيظة ضد الرواية كان التصوير السلبي للنبي وأتباعه. غير أن هدف سلمان رشدي في "الآيات الشيطانية" لم يكن هو الاستفزاز. لقد كان غرضه بالأحرى هو إظهار كيف أن كل حقيقة دينية وثيقة الصلة بالحقائق الأرضية المرتبطة بدورها بالبشر، وأن الإدعاء بوجود حقيقة مطلقة لا بد من أن يؤدي إلى أعمال وحشية تجاه الآخر الذي يخالفنا في التفكير.

إن الرواية المكتوبة بأسلوب الواقعية السحرية، والتي تُسرَد من منظور الحاضر في لندن المتعددة الثقافات، تستكشف نشأة الإسلام عبر مقاطع متكررة من الحلم الذي يتراءى للمثل غابريل فاريشتا. ويُوصف محمد – الذي يُطلق عليه في "الآيات" مُهنَد – باعتباره شخصاً يسعى إلى السلطة، وهو يضع النبوءة الإلهية في خدمة أهدافه السياسية؛ أو كما نقرأ في أحد مقاطع الرواية: "كم هو أمر عملي أن تكون نبياً."

هجوم على الأصولية

بهذا المعنى فإن "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي دفاعٌ حار عن الشك كقيمة ثقافية، وعن الريبة كوسيلة من وسائل المعرفة، وكردة فعل على كل شكل من أشكال الأصولية والعنف الذي يكتسب شرعيته على نحو غير ديمقراطي. إن رواية رشدي في الحقيقة نص كلاسيكي من نصوص أدب التنوير الإنساني: العقل في مقابل الأسطورة، والذهن في مقابل الإيمان.

إن الضجة التي أثارتها الرواية عند نشرها وكذلك موجات الاحتجاج التي انفجرت في إثر منح سلمان رشدي لقب فارس قبل عامين تبينان أن أقلية متعصبة صغيرة في العالم الإسلامي مستعدة للدفاع عن ما تشعر به من ارتباط عميق بتقاليدها الدينية، وأنها لا تتورع عن استخدام العنف في ذلك. وربما يكمن أحد أسباب ذلك في أن الإسلام – وكما قال برنهارد لويس ذات مرة – يمنح أتباعه شعوراً بالفخر والكرامة أكثر من أي دين آخر.

تراجع التفكير النقدي

حتى بعد صدور الفتوى ظل رشدي يدافع عن حقه في ممارسة النقد الذي شمل العقائد الدينية أيضاً. وهكذا راح يعارض قبل عامين صدور الميثاق الديني والعرقي في بريطانيا والذي كانت صيغته الأساسية تفرد مكانة عالية للمشاعر الدينية، إلى درجة أنه أصبح يمثل – هكذا صرح رشدي – تخلفاً كبيراً في التفكير النقدي.

في نهاية العام الماضي صرح رشدي خلال ندوة أقيمت في الأكاديمية السويدية في ستوكهولم أن "الاحترام كان يعني في الماضي أن يأخذ الإنسان غيره مأخذ الجد حتى وإن كان لا يشاطره الرأي. أما في أيامنا هذه فعندما لا أشاركك الرأي أو أعارضك، يتهمونني بأنني لا أحترم الآخر. من يستخدم هذه الحجج، يريد منع الكلمة الحرة."

في مواجهة اضطهاد المسلمين

على خلاف عديد من المنتقدين للإسلام الذين باسم الحرية وحقوق الإنسان يرفضون الإسلام كليةً ويودون لو استطاعوا منعه تماماً، فإن رشدي لا يصدر أحكاماً عامة مطلقة. على العكس: إنه لا يكل من التحذير من المساواة بين المسلمين الأتقياء والإسلامويين المتطرفين. عندما سئُل ذات مرة عما إذا كان الاستعداد لارتكاب العنف هو جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي، أجاب شارحاً أن القرآن لا يتضمن دعوات إلى العنف أكثر أو أقل من الكتب المقدسة للأديان الأخرى.

لقد انتقد الكاتب البريطاني المولود في بومباي بشكل منتظم العنف الذي يستخدمه الجيش الهندي في مواجهة مسلمي كشمير. وعندما أعلن ف. س. نايبول علانية أن الغزو الإسلامي في القرن الحادي عشر قد دمر الثقافة الهندية، فقد تدخل رشدي في النقاش وأعطى حائز نوبل درساً لا يُنسى.

هذا هو الجانب الأكثر إثارة للدهشة في قضية سلمان رشدي: إن مؤلف "الآيات الشيطانية لم يدع نفسه فريسة لأهواء دنيئة رغم كل ما تعرض له من أحداث صادمة، واستطاع أن يحتفظ باستقلالية أحكامه النقدية. ولهذا ظل سلمان رشدي بعد الفتوى على ما كان عليه قبلها: رجلاً حراً.

لويس غروب
ترجمة: صفية مسعود
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

قضية سلمان رشدي:
الكاتب الذي يمد الجسور ويثير الجدل
التمزق بين الشرق والغرب والضياع الروحي موضوعان يقعان في مركز اهتمام الكاتب سلمان رشدي في روايته "آيات شيطانية"، التي تثير مرة أخرى بعد عشرين سنة من صدورها احتجاجات عارمة. مقال بقلم أنجلا شادر.

تعليق: احتجاجات على منح سلمان رشدي لقب "فارس"
االتكتيك الشيطاني في تسخير الدين لأغراض سياسية
شهدت طهران وإسلام آباد مظاهرات حاشدة، إحتجاجا على قيام ملكة بريطانيا بمنح الكاتب سلمان رشدي لقب "فارس". ولكن هل تعبر هذه المظاهرات حقا عن سخط شعبي فعلي أم أنها مدبرة من أجل التغطية على المشاكل الداخلية والخارجية لتلك البلاد؟ تعليق بيتر فيليب.

لقاء مع ابن ورّاق: حول مفهوم التسامح في الدين الإسلامي
نقد الاسلام ونظرة المسلمين
يرى الكاتب ابن الوراق ان النقد الموجه للاسلام يشكل خطرا على موجهيه بسبب عدم وجود التسامح الكافي لدى المسلمين وعدم وجود الحماية اللازمة من قبل الغرب لهؤلاء بسبب تقاطع المصالح الاقتصادية